الخميس، 25 أبريل 2013

المجتمع الفلسطينى لدكتور ابراهيم أبراش

المجتمع الفلسطيني

مقدمة عامة:
فحيث ان لكل مجتمع خصوصياته الثقافية والسسيولوجية , فإن دراسة أي مجتمع من المجتمعات وإن كان من الممكن أن توظف مناهج مشتركة إلا أنها ستؤدي لنتائج مغايرة ما دامت الظاهرة المبحوثة – المجتمع – خصوصيات مغايرة . وعليه فالباحث في المجتمع الفلسطيني وإن كان عليه الاسترشاد بالنظريات السسيولوجية المنتجة والمطبقة في المجتمعات الأخرى وخصوصاً العربية , إلا أن هذه النظريات لن تسعفه كثيراً في تفسير وفهم المجتمع الفلسطينية , لأنه سيواجه بمجتمع أنتزع من أرضه وأجبرت غالبيته على اللجوء في المنافي ومن بقي متمسكاً بوطنه يعيش تحت احتلال يختلف عن كل أشكال الاحتلال , احتلال استيطاني إجلائي , يستهدف في المحتلون الإسرائيليون ليس فقط استغلال مقدرات الشعب والأرض , بل نفى وجود الشعب والاستيلاء على الأرض بزعم أنها أرضهم التاريخية .
وهكذا في دراسة المجتمع الفلسطيني يتداخل الاجتماعي مع السياسي بشكل كبير والحاضر مع الماضي , والديني من القانوني , الفقر والبطالة والأسرة والانحراف والفساد وأشكال العلاقات العصبوية وأشكال التكافل الاجتماعي إلخ , كلها أمور ترتبط بالاحتلال وبالتالي بالسياسة بشكل أو أخر . فحالة عدم الاستقرار التي تميز بها المجتمع الفلسطيني عر تاريخه , وتداخل قضيته الوطنية مع القضايا العربية والإسلامية بفعل الجوار أو الانتماء أو تقاطع المصالح وحالة الشتات , يجعل من المجتمع الفلسطيني حالة خاصة للدراسة .
لا غرو أن تعقد وخصوصية الحالة لا يبرر النكوص عن دراستها أو إسقاط البعد الاجتماعي عند دراسة المجتمع الفلسطيني , ولكن الباحث سيجد نفسه مضطراً لتجاوز نظريات ومقاربات درج على الأخذ بها في تحليل بنية أي مجتمع , وفي نفس الوقت اشتقاق مقاربات جديدة , وأيضاً سيجد الباحث في المجتمع الفلسطيني نفسه في حالة تشابك مع المجال السياسي , فهو مضطر لدراسة الظواهر الاجتماعية من خلال أبعادها السياسية أو بمدخل سياسية , والعكس صحيح نسبياً , بمعنى أن دراسة و المجتمع الفلسطيني تنتمي إلى حقل دراسة علم الاجتماع السياسي , بل هي مجال خصب لعلماء الاجتماع السياسي لمقاربة واقع اجتماعي / سياسي غير معهود ولم تعالجه النظريات الاجتماعية والسياسية التقليدية بل أيضاً الحديثة المطبقة في المجتمعات الأخرى.
وفي هذا المساق فأن أي باحث في المجتمع الفلسطيني سيواجه بصعوبة تعريف المجتمع الفلسطيني وبالتداخل ما بين كلمة مجتمع كمفهوم سسيولوجي وكلمة شعب كمفهوم سياسي , ذلك أن غالبية الدراسات السابقة كانت تعالج قضايا الشعب الفلسطيني كقضايا سياسية أكثر مما تهتم بقضايا المجتمع الفلسطيني من منظور سسيولوجي . فهل المجتمع الفلسطيني هم سكان الضفة والقدس الشرقية باعتبار ما بينهم من وحدة حال مقارنة مع التجمعات الفلسطينية الأخرى التي تعيش منفصلة عن الأرض التي نشأت فيها؟ وهل فلسطينيو الأردن جزء من المجتمع الفلسطيني أم جزء من المجتمع الأردني , وهل يمكن دراسة فلسطيني الشتات كجزء من المجتمع الفلسطيني ؟ أم جزء من الشعب الفلسطيني , أم جزء من المجتمعات التي يعيشون بها ؟ وما هو حال فلسطينيو إسرائيل ؟ فهل هم جزء من المجتمع الفلسطيني أم جزء من المجتمع الإسرائيلي ؟ ومع خطة شارون لفك الارتباط مع قطاع غزة , ما هي آفاق العلاقة ما بين فلسطينيي القطاع وفلسطينيي الضفة ؟ إلخ
البحث في المجتمع الفلسطيني لا يخلو من خطر الانزلاق السياسي بما يضفي شرعية على محاولات تجزئة وحدة الشعب والقضية والتشكيك بوجود مجتمع فلسطيني , ذلك أنه في الوقت الذي يجد الباحث صعوبة منهاجيه وعلمية في التعامل مع كل التجمعات الفلسطينية باعتبارها أجزاء من مجتمع واحد نظراً لما بينها من تباينات فرضها واقع الغربة , إلا أنه يصعب عليه سياسيا ووطنياً قصر المجتمع الفلسطيني على فلسطينيي الضفة وغزة لأن ذلك يتماشى مع الطروحات السياسية التي تروم تقليص الحقوق المشروعة للفلسطينيين بدولة في الضفة وغزة وشطب قضية اللاجئين واعتبارهم خارج المعادلة السياسية , والتخطيط الإسرائيلي الجديد يسعى لحصر فلسطين شعباً ومجتمعاً وكياناً سياسيا بقطاع غزة فقط وتذويب البقية ضمن انتماءات وأوضاع أخرى , وهذه هي الأبعاد الخفية لخطة شارون بالانفصال أحادي الجانب من قطاع غزة .
نظرا لطبيعة الدراسة وخصوصية الحال فقد وظفنا المنهج النسقي الذي هو تطوير للمنهج البنيوي الوظيفي , حيث أرتأينا أن هذا المنهج هو الأقدر على الإحاطة بإشكالية الموضوع وفروضه , والأنسب لدراسة مجتمع يعرف تعدية جغرافية وطائفية وسياسية وتلعب المحددات الخارجية دوراً فاعلاً في تشكيله وتطوره بالإضافة للمنهج النسقي فقد وظفنا المنهج التاريخي وخصوصاً في معالجة مراحل تطور المجتمع , بما يتضمن هذا المنهج من مقاربة نقدية لأن تاريخ فلسطين تتنازعه طروحات متناقضة وخصوصاً بالنسبة لتور الحركة الصهيونية لتاريخ فلسطين .
كتابنا هذا هو طبعة ثانية من كتاب صدر قبل عامين يحمل نفس العنوان تقريباً , ولقد أضفنا بعض القضايا وتوسعنا بأخرى في الجانب الاجتماعي, حتى نوائم ما بين الجوانب السياسية والجوانب الاجتماعية وحتى يلبي الكتاب احتياجات المهتمين . والكتاب هو محاولة لدراسة أهم موضوعات المجتمع الفلسطيني , نتمنى أن يساعد هذا العمل في خدمة الثقافة والبحث العلمي في بلادنا . ولا يسعني في النهاية إلا أن أشكر الهيئة العامة للاستعلامات والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني ومركز دراسات التنمية في جامعة بير زيت على جهودهم في توفير جداول وإحصاءات شاملة عن المجتمع الفلسطيني , حيث استعنت بإحصاءات وجداول ونتائج بحوث هي جهد العاملين بالمراكز المشار إليها .

لأستاذ الدكتور / إبراهيم ابراش
غزة سبتمبر 2006


الفصل الأول
التاريخ الحديث للمجتمع الفلسطيني
- مقاربة سسيوسياسية -

حتى الحرب العالمية الأولى كانت فلسطين جزءاً من سوريا الطبيعية ولم تعرف لها كياناً سياسياً مستقبلاً مميزاً , ولم تتشكل في وحدة إدارية واحدة , حيث تداخلت تقسيماتها الإدارية في العهد العثماني مع تقسيمات بقية أجزاء سوريا الطبيعية , وعليه لم يكن حتى الحرب العالمية الأولى مجالا للحديث عن مجتمع فلسطيني خالص ومتميز عن محيطه الطبيعي الإسلامي والعربي والسوري . فقبل تبلور تمايز المجتمع الفلسطيني كان هذا المجتمع مدمجا ضمن مجتمع أوسع وهو المجتمع العربي وقبل ظهور الحركة القومية العربية كان جزءاً من المجتمع الإسلامي , إلا أن الفلسطينيين بدءوا يتلمسون خصوصية وضعهم مع بداية الأطماع الصهيونية الهادفة لاقتلاعهم من أرضهم ونفي هويتهم الوطنية . وهكذا وجد الفلسطينيون أنفسهم ومنذ بداية هذا القرن في وضع لا يحسدون عليه , حيث عملت التحالفات والمساومات الدولية لغير مصلحتهم . فقد شهدت بداية هذا القرن تبلور الحركة الصهيونية ووضوح أهدافها وانتقالها من مرحلة الفكر وتحديد الأهداف إلى مرحلة التنفيذ والفعل , هذا الجهد الصهيوني ترافق مع تكثيف المخططات الاستعمارية للهيمنة على المنطقة العربية . الأمر الذي دفع الفلسطينيين لتلمس طريقهم كمجتمع فلسطيني مهدد وهويته وهذا ما يعطي الخصوصية للمجتمع الفلسطيني ودراسته .


المبحث الأول
في تعريف المجتمع ومراحل تطوره

المطلب الأول : تعريف المجتمع :
كلمة مجتمع لفظ مشتق من الجماعة وهي عكس الفرد , فالجماعة مجموعة من الأفراد تربطهم علاقات وأواصر مشتركة , ولكن ليس كل مجموعة من الأفراد يشكلون مجتمعا بالمفهوم السسيولوجي , فمائة ألف شخص مجتمعون في ملعب لكرة القدم لا يشكلون مجتمعاً , بينما قبيلة من ألف شخص تشكل مجتمعا . وهكذا حتى تجمع من الأفراد مجتمعا , يجب أن يكون لهذا المجتمع غرضاً اجتماعياً مشتركا, أي يخص كل أفراد الجماعة ,كما يشترط أن تكون العلاقة بين هؤلاء الأفراد علاقة تواصل واستمرارية مصحوبة بقوة إلزام أو إكراه تفرضها الجماعة , كما يشترط في هذا التجمع أن يوفر للإنسان حياة كلية مشتركة يستطيع من خلالها أن يحدد لنفسه هدفاً وهوية وانتماء لا يتوفرون في جماعة أخرى .
ويقابل كلمة مجتمع باللغة الإنجليزية معنيان , الأول Community والثاني هو Socity والكلمة الثانية أكثر شمولية من الأولى , ومن جهة أخرى هناك من يشترط وجود الأرض أو الإقليم حتى تكون الجماعة مجتمعا وهذا ما نلاحظه من خلال تعريف هربرت ستروب . H.stroup للمجتمع , فعناصر المجتمع عنده هي الشعور المشترك بالانتماء الواحد , والأرض الخاصة بالجماعة , النظام أو النسق الذي يسمح للأفراد بالتعبير عن آرائهم والتفاعل المشترك داخله , وتمكن الأفراد من تلبية احتياجاتهم الأساسية داخل المجتمع , وأخيرا يشكل المجتمع بناء خاصا للجماعة تجري بداخله العمليات الاجتماعية الأساسية من تعاون وصراع ... إلخ
إلا أن اشتراط وجود الأرض للقول بوجود المجتمع , يحافي بعض الوقائع حيث توجد مجتمعات كاملة وعريقة ولكن لا تقيم على ارض محددة أولها ارض ولكن غير قادرة على العيش فيها بسبب الاستعمار أو ملابسات تاريخية – محددة كالمجتمع الفلسطيني مثلاً و وهذا استدركه وركزوا على العوامل النفسية والهوية المشتركة للجماعة , فالأرض أو الإقليم من العناصر الأساسية لوجود الدولة اما المجتمع فأمر مغاير . فآرثر مورجان A.Morgan لا يشترط وجود الأرض بل يولي اهتماماً للبشر والتفاعلات والعلاقات التي يقيمونها مع بعضهم بعضا والتي يتميزون بها عن الآخرين .
أيضاً يمكن التمييز ما بين الجماعة والمجتمع الكلي من حيث النطاق والوظائف , فداخل كل مجتمع كلي توجد فيه جماعات كالأسرة والقبيلة والطائفة إلا أن هذه الجماعات هي جزء من كل ولا تعيش مستقلة بذاتها – إلا بمراحل زمنية غابرة قبل تشكل الدولة , أي في مرحلة ما قبل الدولة – كما أن هذه الجماعات تقوم على روابط القرابة والدين , أما المجتمع الكلي فيمكن تعريفه من خلال ثلاثة عناصر كما يقول موريس دفرجيه:
" إنه يفترض أولاً أن المجموعات الإنسانية المتعددة والمختلفة – العائلات , الطوائف المحلية , النقابات , الجمعيات , الأحزاب , الكنائس – أو المساجد – الزمر , العصابات إلخ , تترابط الواحدة مع الأخرى في مجموعات أوسع .
ويفترض ثانياً : أن تكون هذه المجموعات مندمجة بقوة , شكل يشعر فيه أعضاؤه بتضامن عميق بينهم , ويترجم نفسه بواسطة أفعال متبادلة مطابقة لتلك التي تحصل في إطار المجموعات الخاصة , وهو يفترض ثالثاً : أن يكون لهذا التضامن ولهذه العلاقات بين أعضاء المجتمع الكلي قوة أعلى من قوة تضامنهم وعلاقاتهم مع الخارج . وكل هذه العناصر تنجم عن سمة أساسية تكون تلك من نتائجها , فالمجتمع الكلي يشكل المجموع الثقافي الأساسي "
وعلى هذا الأساس فإن ما يعطي للمجتمع كينونته , ليس فقط مجموع الأفراد أو العلاقات وأشكال التضامن بينهم , بل ايضاً عنصر الثقافة , فالمجتمع الكلي هو وحدة ثقافية أيضاً والثقافة محدد رئيس في تميز المجتمعات بعضها عن بعض الجماعات لا تتوفر على ثقافة خاصة بها – باستثناء الجماعات العرقية والطائفية في حالة وجودها وفي نطاق ضيق – المجتمع الكلي هو الذي يربط أفراده بثقافة مشتركة , عنصر الثقافة هو الذي يربط المواطن بمجتمعه ووطنه وغن لم يكن على تواصل مباشر مع مجتمعه أو كان يعيش خارج وطنه فلكل مجتمع ثقافة المعبرة عن هويته – وسنتحدث عن الثقافة بتوسيع في فصل قادم - .
أيضاً ما يعطي للجماعة صفة المجتمع بالإضافة للعناصر المشار إليها هو كون الجماعة تعرف حياة ممأسسة , أو حياة منظمة , فالهدف المشترك والمصير المشترك والهوية المشتركة أمور لا بد من وجود أطر أو مؤسسات اجتماعية تعبر عنها , من هنا تلازم وجود المجتمع مع وجود المؤسسات الاجتماعية والسياسية , كالأسرة والقبيلة والأحزاب والنقابات والجمعيات إلخ .
المطلب الثاني : كيف تنشأ المجتمعات :
فحيث أن الوحدة الأساسية للمجتمع هي الإنسان , حيث أن الإنسان حيوان عاقل واجتماعي بطبعه , إذن فهو يسعى للاجتماع بيني جلدته . وهكذا يرى أرسطو أن المجتمع الكلي ( الدولة ) هي شكل طبيعي من أشكال الطبيعة الإنسانية , فهي لا تؤسس على أساس اقتصادي أي بقصد التبادل وإشباع الحاجات المادية للناس كما يقول أفلاطون بل هي مجتنع ناتج عن طبيعة الإنسان كحيوان أو كائن سياسي خلق طبيعيا للعيش في مجتمع , فالإنسان الذي لا يعيش في مجتمع إما أنه أقل شأنا من من الإنسان أي حيوان أو حشرة , أو أعلى شأناً من الإنسان ملاك مثلاً .
ويقول أيضاً : إن المدينة تدخل في عداد الوقائع التي توجد بشكل طبيعي , إن الإنسان بحكم الطبيعة حيوان سياسي , والإنسان الذي يعيش بشكل طبيعي وليس نتيجة لظروف ما خارج المدينة , هو إما كائن منحط , أو فوق مستوى البشر ... إنه إما وحش وإما إله ... إن من البديهي أن يكون الإنسان حيوانا سياسيا على درجة أعلى من نحله أو من حيوان آخر يعيش في قطيع , والإنسان وحدة من بين كل الحيوانات يمتلك الكلام .
فالمجتمع الكلي – الدولة – كجماعة ذات تنظيم مشترك تهدف لكافة الخير لأعضائها هي نتيجة تطور طبيعي للإنسان تأتي بفعل كون الإنسان عاقلا , فالعقل الإنساني هو الذي يهدي الإنسان لتكوين الحضارة , وهكذا ينتقل الإنسان من الأسرة إلى القرية , ثم أسمى الجماعات وهي الدولة , والدولة أسمى من الفرد ومن الأسرة ومن القرية , لأن الكل أسمى من الجزء بالضرورة , حيث يقول : وما أختص به الإنسان دون سائر الحيوان وانفراده بمعرفة الخير والشر والعدل والظلم وما إليها . وتبادل تلك المعرفة ينشئ الأسرة والدولة ... والدولة بالطبيعة مقدمة على الأسرة وعلى الفرد . لأن من الضرورة أن يتقدم الكل على الجزء . فإن قضى على الجسم فلا رجل ولا يد إلا بالاسم , كأن تقول يد من حجر , فإذا شلت اليد أضحت كأنها من حجر.
إذا كانت الدولة تنشا بشكل طبيعي من خلال ائتلاف عدة أسر ليشكلوا قبيلة وائتلاف عدة قبائل لتشكل دولة – الحاضرة – فإن هذا الشكل أو النشوء للدولة لا كون ممكنا إلا إذا قام على أساس الاكتفاء الذاتي , وتكون نشأة الدولة طبيعية , إذا ما يكون ممكنا إلا إذا قام على أساس الاكتفاء الذاتي , وتكون نشأة الدولة طبيعية , إذا ما كانت الجماعات السابقة طبيعية , لأن الدولة غاية تلك الجماعات ... ومن ثم فالاكتفاء الذاتي غاية وأسمى الخيرات . وعليه فالدولة تنشا ضرورة حالما تتوفر لديها جماعة من المواطنين تحقق لها الاكتفاء الذاتي والعيش الرغيد الفاضل , طبقاً لسنن الاشتراك السياسي .
الأسرة أساس المجتمع الإسلامي:
تعتبر الأسرة أصل المجتمع والنواة الأولى له حيث ربط الإسلام بين الزواج والأسرة من جانب وتأسيس المجتمع من جانب أخر وهذا ما ورد في آيات , منها قوله تعالى  يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ  (الحجرات /113).
وقوله وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الروم/ 21).
وقوله سبحانه : أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ‏نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً ورحمت ربك خير مما يجمعون( الزخرف /32)
ويمكن القول بأن أصل الاجتماعي البشري في الإسلام يؤسس على ما يلي :
1- يعتبر قانون الزوجية الطبيعي المتمثل في التركيب الغريزي للمرأة والرجل أساس بناء المجتمع لأنهما عنصراً البناء الاجتماعي وأساس البنية الحيوية من الناحيتين العضوية والنفسية , فهذه العلاقة الغريزية تخلق ظروفا وعلاقات نفسية واجتماعية من الود والرحمة وتوفير الطمأنينة تؤدي لحفظ النوع , بمعنى أن الزواج ليس علاقة جنسية خالصة بل الإضافة لها يخلق تآلف ومحبة وبذا اعتبر القرآن المرأة والزواج قاعدة بناء المجتمع السوي السليم نفسياً واجتماعياً ووظيفياً ، لأنهما مصدر السكن والود والحنان والرحمة في الحياة الاجتماعية .
2- التعارف : أما الدافع الثاني الذي دفع البشري القائم على أساس غريزة حب الاجتماع التي عبر عنها الفلاسفة اليونان الأوائل وخصوصا أرسطو بالقول بان الإنسان اجتماعي بطبعه .
فقد اثبت الواقع ومن خلال تجارب ميدانية على مجموعات بشرية بان الإنسان لا يسعر بالاستقرار والراحة ولا تكتمل إنسانيته إلا بالاجتماع ببني جلدته , لذلك قال تعالى لِتَعَارَفُوا  , فعبارة التعارف تعبر عن الدافع الإنساني الكامن وراء الاجتماع , وتكوين المجتمع البشري.
3- تبادل المنافع : والسبب الثالث من أسباب بناء المجتمع , هو تبادل المنافع المادية المختلفة فقد شاء الله سبحانه أن يتكامل الأفراد بقابلياتهم وطاقاتهم الفكرية والجسدية والنفسية , ويتحقق هذا التكامل عن طريق تبادل المنافع بين الأفراد .
فللفرج حاجات ومتطلبات متعددة , ليس بوسعه أن يوفرها جميعها لنفسه , لذا فهو يحتاج الآخرين ويحتاجونه , وهذا الاختلاف في القابليات الذي ينتج عنه الاختلاف في نوع الإنتاج والخدمات التي تستطيع أن يوفرها الفرد للآخرين , وتبادل تلك المنتجات والمنافع والخدمات لإشباع الحاجات هو الذي عبر عنه القرآن بقوله :  وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً .
وعلى هذا الأساس نشأت الوظيفة الاجتماعية , وفسر مبدأ النشوء الوظيفي في المجتمع لتتكامل الوظيفي التي وضحها القرآن أنفا في
المجتمع , يدرس دور المرأة في بناء المجتمع كما يدرس دور الرجل على حد سواء ضمن أطر الأهداف والقيم الإسلامية , وليست المرأة عنصراً ثانوياً ولا وجوداً إضافيا على الرغم من التجربة البشرية التي تثبت أن دور الرجل في بناء العلم والاقتصاد يتفوق كثيراً على دور المرأة , كما أن دورها في تكوين القاعدة النفسية لبناء الأسرة أكبر من دور الرجل الذي عبر عنه القرآن بقوله : وجعل منها زوجها ليسكن إليها , فالزوج هو الذي يسكن إلى الزوجة , ويستقر بالعيش معها , فهي مركز الاستقطاب اطار الاستقرار والود والمحبة.
ويتحدث القرآن عن (السكن) في مواضع عديدة , ومن خلال ذلك نستطيع أنفهم معناه الذي توفره الزوجة لزوجها , نفهمه من خلال قوله تعالى وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً وقوله وجعل منها زوجها ليسكن إليها .
ونفهم قيمة ( السكن ) في الاجتماع عندما نعرف أن القرآن وصف العلاقة بين الزوج والزوجة بأنها علاقة ( سكن وود ورحمة ).
وإذن فلنقرأ كلمة ( سكن ) في مواضع عدة من القرآن , لنعرف دلالتها الاجتماعية والأسرية , قال تعالى  وجعل الليل سكنا أي يسكن الناس سكون الراحة.
وقال تعالى :  صل عليهم أن صلاتك سكن لهم  أي إن دعواتك يسكنون إليها , وتطمئن قلوبهم بها , والسكنية فعليه من السكون , يعني السكون الذي هو قادر , لا الذي هو فقد الحركة .  هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين , أوجد الثبات والاطمئنان .
وحسب المراجع اللغوية فإن ( السكن ) يرتبط بالاستقرار كقولهم :"... سكن الريح : هدأت . وسكن النفس بعد الاضطراب : هدأت . وسكن النفس إليه : استأنس به , واستراح إليه ... والسكن : المسكن , وكل ما سكنت إليه , واستأنست به , والزوجة والنار والرحمة والبركة والقوت " والطمأنينة والاستقرار والرزانة . ومن هنا يتجلى معنى (السكن) الذي توفره الزوجة لزوجها وأسرتها وهو : الراحة والاستقرار والاستئناس والرحمة والبركة والوقار , وكل هذه الأمور لا تكون إلا بحياة إجتماعية مستقرة وهذا ما قصده القرآن الكريم .
ولقد أثبتت الدراسات العلمية أثر الوضع النفسي والعصبي للإنسان على مجمل نشاطه في الحياة , فمن الثابت علمياً أن المسؤولية الاجتماعية , مسؤولية العمل والإنتاج المادي : الزراعي والصناعي , والعمل السياسي والاجتماعي والوظيفي والخدمي في المجتمع : كالإدارة والأعمال الهندسية والتعليم والطب والتجارة والفن ... إلخ التي يقوم بها كل من الرجل أو المرأة تتأثر بشكل مباشر بأوضاعهم النفسية , فالرجل الذي يعيش في وسط المشاكل العائلية والتوتر النفسي والعصبي ينخفض إنتاجه المادي , كما يتأثر إقباله على العمل والإبداع في أعماله الخدمية أيضا , وتزداد مشاكله في علاقاته مع رفاقه في المعمل والمرتبطين به , وبذات تستهم طبيعة العلاقات الزوجية بين الرجل والمرأة في مستوى الإنتاج والتنمية بانعكاس آثارها النفسية والعصبية على طاقة الإنسان ونشاطه اليومي وعلاقته بالإنتاج والعاملين معه .
وليس هذا فحسب , بل وتساهم الأم في تطوير المجتمع وبنائه فكرياً وماداً وأخلاقياً من خلال تربية الأبناء وتوجيههم , فالطفل الذي ينشأ بعيداً عن القلق والتوتر والمشاكل العائلية ينشأ سوى الشخصية إيجابياً في علاقاته وتعامله مع الآخرين وعطائه الاجتماعي , بخلاف الطفل الذي ينشأ في بيئة عائلية تضج بالمشاكل والنزاعات والتعامل السيئ مع الطفل, فإنه ينشأ عنصراً مشاكساً , وعدوانياً في سلوكه وعلاقاته, لذا فإن معظم حالات الأجرام والتخريب في المجتمع سببها التربية المنحطة
أما بالنسبة للعلماء المسلمين , فبالإضافة إلى مرجعيتهم الدينية فقد تأثروا بالفكر اليوناني حول تشكل المجتمعات فيذهب الفارابي إلى أن الإنسان اجتماعي بطبعه , لأن الإنسان لا يستطيع تحيل كمالاته بنفسه , فيحتاج إلى مساعدة الأخرين ومن هذه الحاجة , حاجة كل فرد إلى الآخرين , تنشأ الدولة , فكمالات الإنسان ليس يمكن أن يبلغها الإنسان وحده بانفراد دون معاونة أناس كثيرين له , وأن فطرة كل إنسان أن يكون مرتبطاً فيما ينبغي أن يسعى له بإنسان أو ناس غيره وكل إنسان من الناس بهذه الحال , وانه لذلك يحتاج كل إنسان فيما له أن يبلغ من هذا الكمال إلى مجاورة ناس آخرين واجتماعه معهم , وكذلك في الفطرة الطبيعية لهذا الحيوان أن يأوي ويسكن مجاورا لما هو في نوعه , فذلك يسمى الحيوان الإنسي والحيوان المدني.
ولكن هذه المجتمعات التي كونها الإنسان لا تكون على شاكلة واحدة , من هنا أولى الفارابي اهتماماً للحديث عن أنواع المجتمعات , قبل أن يتحدث عن افضلها , وهي ( المدينة الفاضلة ) . ويقسم الفارابي المجتمعات إلى :
1- المجتمعات الكاملة : وهي على ثلاثة أنواع :
‌أ- عظمى وتتشكل عندما تجتمع أمم كثيرة بقصد التعاون .
‌ب- وسطي هي اجتماع أمة في جزء من المعمورة
‌ج- صغرى وهي اجتماع أهل مدينة في جزء من سكن الأمة.
2- المجتمعات غير الكاملة : وهي الاجتماعات في القرى والمحال والسكة والبيوت , وهذه قد تتطور فتصبح مجتمعات كاملة حيث يقول : وهذه منها ما هو انقص جدا , وهو الاجتماع المنزلي وهو جزء للاجتماع في السكة , والاجتماع في السكة هو جزء للاجتماع في المحلة , وهذا الاجتماع هو جزء للاجتماع المدني , والاجتماعات في المحال , والاجتماعات في القرى , كلتاهما لأجل المدينة غير أن الفرق بينهما أن المحال أجزاء للمدينة , والقرى خادمة للمدينة , والجماعة المدينة هي جزء الأمة , والأمة تنقسم مدنا , والجماعة الإنسانية الكاملة على الإطلاق تنقسم أمما
أما الماوردي فيرى أن الإنسان كمخلوق عاقل مدني بطبعه , يعرف مصالحة ويسعى إلى الحياة الأفضل , وهو ما يتفق به مع سابقيه من فلاسفة المسلمين واليونان , فالإنسان يحتاج إلى غيره لأنه لا يستطيع أن يلبي كل احتياجاته . ولكن الماوردي يرجع حالة العجز هذه إلى أسباب دينية , فالله سبحانه وتعالى خلقنا عاجزين وبالتالي محتاجين إليه , نتجه إليه سبحانه وتعالى ليرزقنا ويفتح أمامنا السبل حيث يقول :اعلم أن الله تعالى لنافذ قدرته , وبالغ حكمته , خلق بتدبيره , فطرهم بتقديره , فكان لطيف ما دبر وبديع ما قدر , وأن خلقهم محتاجين , وفطرهم عاجزين , ليكون بالغني منفردا , وبالقدرة مختصا , حتى يشعرنا بقدرته أنه خالق , ويعلمنا بغناه أنه رازق , فنذعن بطاعته رغبة ورهبة , ونقر بنقصنا عجزا وحاجة
ويستشهد الماوردي بقوله تعالى خلق الإنسان ضعيفاً ليدلل على حاجة الإنسان لله أولا ولأخيه الإنسان ثانياً , فالإنسان دوما بحاجة لمساعدة الآخرين وهذه الصفة ملازمة لطبعه , والله سبحانه وتعالى من خلال خلقه للإنسان ضعيفا يريد أن يشعر الإنسان بعظمته وأن لا يستكبر ويتمرد وإنما خص الله تعالى الإنسان بكثرة الحاجة وظهور العجز , ويمنعانه من طغيان وبغي القدرة .
أما العلامة ابن خلدون فيرى بأن الاجتماع البشري ضروري (فالإنسان مدني بطبعه ) وهذا الطبع الإنساني هو الذي يؤسس المدينة وهو معنى العمران وهذا الاجتماع يعود إلى حكمة ربانية , فالله سبحانه وتعالى عندما خلق الإنسان وركبه فإنما على صورة لا يصح بقاؤها واستمرارها إلا بالغذاء , وبين له سبل تحصيله , ولكن الإنسان لا يستطيع ان يلب كل احتياجاته من الغذاء حتى على مستوى قوت يومه , وهو الخبز , فهذا يحتاج إلى الحنطة وهذه تحتاج إلى من يزرعها وإلى من يطحنها وإلى من يعجنها وإلى من يخبزها , فكيف الحال بالنسبة للاحتياجات الأخرى , إذن " فلا بد من اجتماع القدرة الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له ولهم , فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بأضعاف"
وما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل قوت ولا غذاء ولا يتم حياته , لما ركبه الله تعالى عليه من الحاجة إلى الغذاء في حياته ولا يحصل له أيضاً دفاع عن نفسه لفقدان السلاح فيكون فريسة للحيوانات ويعالجه الهلاك عن مدى حياته , ويبطل نوع البشر
إذن فالضرورة الحياتية هي الدافع نحو الاجتماع البشري , هذا الاجتماع هو الذي يحفظ الجنس البشري ويحول دون انقراضه , وهذه حكمة الله في خلقه " هذا الاجتماع ضروري للنوع الإنساني , وإلا لم يكتمل وجودهم وما أراده الله من اعتمار العالم فيهم واستخلافه إياهن وهذا هو معنى العمران

المطلب الثالث: مراحل تطور المجتمعات الكلية :
أولا : المجتمع القبلي:
حين اتسعت الأسرة وتكاثر أفرادها و اتحدت مجموعة من الأسر وكونت العشيرة وباتحاد مجموعة عشائر تكونت القبيلة أول صور المجتمع الدائم أو المجتمعات الإجمالية . فالقبيلة إذن سابقة في وجودها على وجود المجتمع الكلي أو الدولة بمفهومها الحديث , وفي القبيلة تقوم العلاقات الإجمالية على أساس القرابة , ويحكمها رئيس القبيلة الذي له سلطات قضائية ودينية وحربية , ويستمد رئيس القبيلة سلطته إما من قوته المادية كشجاعة وكثرة عدد أفراد أسرته أو من قوته المعنوية كحنكته ودهائه , أو من مكانته الدينية حيث كان للديانات مكانة مهمة ومرهوبة لدى الأفراد.
ويعرف موريس ديفرجيه القبيلة كأول شكل الدولة , بالقول : "إن الشكل الأول للمجتمع الكلي هو القبيلة , والمقصود هنا جماعة صغيرة الحجم ذات سمات ريفية , والمدن لم تكن موجودة بعد , العلاقات العائلية مهمة جداً فيها إذ ان القبيلة تضم عدداً صغيراً من العائلات و تقنيات الإنتاج فيها قديمة والمردود ضعيف , تقسيم العمل محدود والملكية جماعية , ليس ثمة طبقات اجتماعية , ويتحدثون في هذا الصدد عن شيوعية بدائية " . ويرجع فوستيل دي كولانج أصل سلطة رئيس القبيلة وأصل كل سلطة أو تجمع اجتماعي إلى العامل الديني , فرئيس القبيلة هو الكاهن والقائد , وخضوع الفراد لسلطته راجع إلى دوره ككاهن ومحافظ على عباده الأسلاف 2wor-Aneestor ship وكما سبق فإن القبيلة سابقة في وجودها على اكتشاف الزراعة والمجتمع الزراعي الرعوي , إلا اكتشاف الزراعة ساعد أفراد القبيلة على الاستقرار وتأسيس الحواضر والمدن .
ثانياً: الحاضرة أو دولة – المدينة:state - City
وهي الطور الثاني في سيرورة تشكل المجتمع الكلي او الدولة , ومن أشهر نماذج الحواضر , بابل وسومر في بلاد الرافدين , ودول المدن في بلاد اليونان القديمة وقد تشكلت المدن مع اكتشاف الزراعة واستقرار الإنسان على أرض محددة , حيث عملت الزراعة على تكوين فائض إنتاجي , وعلى أرض محددة , حيث عملت الزراعة على تكوين فائض إنتاجي , وعلى توزيع للعمل أكثر تقدماً وفي هذه المرحلة بدأت البنى الاقتصادية وتبلورت الطبقية وتعززت الملكية الفردية , يرى لويس ممفورد أن المدن كانت ثمرة زواج بين المجتمع الرعوي الفظ ومجتمع القرية من الفلاحين وإذا كان هذا الزواج زواج مصلحة فإنه أيضاً زواج إكراه حيث مارس الرعاة سلطة القمع والسيطرة على الفلاحين
وفي نفس الموضوع , ويرى فوستيل ديكولانج أن المدينة تكونت باتحاد عدة قبائل مع بعضها البعض , فالمدينة بهذا المعنى هي حلف بين عدة قبائل تتفق على احترام حقوق كل منها , وخصوصاً الديانة الخاصة لكل قبيلة , أما سبب اتحاد هذه القبائل , فأحياناً يكون اختيارنا وأحياناً يكون مفروضاً من طرف قبيلة مسيطرة أو رجل قوي.
يميل العديد من الكتاب الغربيين إلى القول بأن المدن اليونانية التي انتشرت حوالي القرن السادس قبل الميلاد , مثل أثينا وإسبرطة , هي أول المدن وأول الحواضر التي عرفتها البشرية , إلا أن التنقيبات التي أجراها الأثريون دلت على أن المدينة أريحا في فلسطين تعد من أقدم المدن ظو حيث ترجع إلى حوالي عشرة آلاف سنة و وكانت أريحا محاطة بسور مما يدلل على أنها مدينة و حيث أن السور هو ما يميز المدينة عن القرية , ومع ذلك فإن هناك من يرى أن المدينة أو الدولة – المدينة لم تتبلور إلا في العصر الحجري الحديث حوالي عام 3000 ق.م ففي هذه الفترة عرفت المدن : تقدماً إنتاجياً زراعياًساعد على خلق الفنانين وعمال التعدين والمهندسين والكتاب والمحاسبين والبروقراطيين والأطباء والعلماء والمتخصصين وفي تنظيم مهاراتهم وإنجازاتهم .
كانت المدن اليونانية تملك كل مواصفات الدولة من حيث توزيع السلطات وحقوق الأفراد ونظام الحكم والقضاء . كما أن العلاقات الاجتماعية كانت تقوم على أساس الائتمان إلى الأرض وإلى طبقة اجتماعية , حيث سادت طبقية صارمة في دولة المدينة .
ويرى علماء السياسة أن دولة – المدينة هي مرحلة عابرة في تاريخ تطور المجتمعات نحو الشمولية والكلية , حيث تعرضت دولة – المدينة اليونانية لانتقادات صارمة وخصوصاً من طرف الرواقيين الذين دعوا إلى العالمية
ثالثاً: الإمبراطورية:Empire
ظهرت الإمبراطورية بتجاوز حدود الدولة – المدينة , حيث تخضع الإمبراطورية لسيطرتها مجموعة من المدن , وهذا الإخضاع غالباً ما يتم بالقوة والفتح فتتولى جيوش الإمبراطورية الرومانية التي قامت في القرن الثاني قبل الميلاد , واتسعت لتشمل حوض البحر المتوسط ولتدوم حوالي 1300 عام , إلا أن قيام الإمبراطوريات على الغزو والإخضاع واتساع رقعة الأرض التي تسيطر عليها وتعدد شعوبها , كل هذا ساعد على سقوط الإمبراطوريات , وظهور شكل جديد من الدول وهي الإمارة الإقطاعية.
رابعاً : الإمارة الإقطاعية: Feudal principality
ظهر هذا النموذج بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية , فلما أن الإمبراطوريات ألغت الكيانات السياسية لدول المدن وأزالت الحدود وخلقت وضعا جدياً على مر السنين , فإنه لم يعد من الممكن , بعد سقوط الإمبراطوريات , الرجوع إلى الوضع السابق لوجودها , فمع انهيار الإمبراطورية أصبحت الأرض في ملكية الملاك الكبار , يستغلونها بتسخير الأرقاء التابعين لهم , وفي النظام الإقطاعي صاحب الأرض وما عليها .
يرى هالفان بأن الإمارة الإقطاعية مرحلة تراجع بالنسبة لدولة المدينة فالمجتمع الإقطاعي مجتمع يرفض كل تدخل في شؤونه من طرف سلطة خارجة عنه , وفكرة الدولة ومفهوم السلطة العامة التي تعمل باسم المصلحة العامة والتي تمارس نوعاً من الإكراه على الأفراد , هي فكرة بعيدة عنه , وفي نفس الاتجاه يذهب مارك بلوش Marc Bloch حيث يقول " تتطابق الإقطاعية مع الضعف العميق للدول وخصوصاً في وظيفتها الحمائية" ومما لا شك فيه أن غياب سلطة الدولة الإكراهية والحمائية تجعل العلاقة بين أفراد المجتمع علاقة سيد وتابع , وعلاقة تقوم على أساس القرابة أو الجوار , كما يصبح للعلاقات الشخصية دور أساسي في النظام الإقطاعي .
وقد سادت الإمارات الإقطاعية كل أوروبا تقريباً حوالي القرنين الحادي عشر والثاني عشر ولم ينهار هذا النظام إلا مع بداية ظهور النزعة القومية , وظهور فكرة سيادة الشعب والدولة القومية ابتداء من القرن السادس عشر.
خامساً : الدولة – الأمة :nation-State
وهي آخر نموذج للمجتمع الإجمالي , وظهرت ابتداء من القرن السادس عشر على أثر تفكك الممالك الكبرى وانهيار النظام الإقطاعي ويرجع الفضل في التنظير للدولة الأمة لمجموعة من المفكرين أمثال ميكافلي , وروسو , ولوك ومونتيسكيو , وهيغل – الخ , تقوم الدولة – الأمة على انضواء جميع الأفراد الذين ينتمون لقومية واحدة – وحدة لغة وتقاليد وعادات وتاريخ وإقامة على أرض مشتركة – تحت سلطة سياسة واحدة على ارض محددة . والدولة – الأمة مرتبطة بظهور الفكر القومي . ولكن هذا لا يعني أن كل الدول الحديثة والمعاصرة تأخذ شكلاً واحداً في وجودها . فهناك نموذج الدولة الليبرالية , ونماذج خاصة بدول العالم الثالث حيث أن تأسيس الدولة في العديد من دول العالم الثالث لم يحدث اعتماداً على التسلسل المشار إليه سابقاً , وبالتالي لم يحدث اعتماداً على تطور ونضج في البني والمؤسسات الداخلية , بل غالباً كان تأسيساً نتيجة تدخل الاستعمار وفرضه قسراً على هذه المجتمعات , نظماً وهياكل ومؤسسات الدولة , دون أن تكون بنية المجتمع مهيأة للتعامل مع هذه المؤسسات , الأمر الذي أدى إلى انفصال ما بين المجتمع والدولة وبالتالي حالة الصراع والعداء بين الطرفين والتي تتمظهر في عدم الاستقرار والحروب الأهلية والانقلابات والثورات ... ألخ بالإضافة إلى ذلك فليس جميع الدول تتكون من أفراد ينتمون لقوميه واحدة , بل هناك د\ول تتكون من عدة قوميات كروسيا الاتحادية , إيران , الهند , وهناك قوميات موزعة على عدة دول , كالأمة العربية , بالإضافة إلى وجود قوميات لم تؤسس لنفسها دول خاصة بها .
هذا ويبلغ عدد الجماعات العرقية في العالم 5350 جماعة .
إن كانت نظرية الدول القومية هي النظرية الأكثر تفسيراً لواقع الدولة في النظام الدولي المعاصر , إلا أن هذا لا يعني أنها تشكل النهاية أو خاتمة المطاف بالنسبة للتنظير حول الدولة أو المجتمع الشمولي , حيث أن هذه الدولة القومية التي تعبر عنها النظرية السياسية المعاصرة تتعايش مع أشكال أخرى من المجتمعات الإنسانية قد تكون سابقة على مرحلة الدولة القومية , وقد تكونت في مرحلة تخطي وتجاوز للدولة القومية ’ وخصوصاً أن التوجه الحالي في النظام الدولي يسعى إلى إقامة التكتلات الكبيرة التي تتجاوز المفهوم الضيق للسيادة القومية . ويبقى تطور نظرية الدولة كنظام سياسي أو كمجتمع بشري أو كمؤسسة اجتماعية مرتبط بالتطور العام للمجتمعات الإنسانية وللحضارة الإنسانية عموماً , ومرتبط بالظروف السياسة لكل بلد , حيث تكشف لنا التحولات الأخيرة في أوروبا الشرقية عن بداية تفكك دول وظهور دول جديدة لم يكن لها وجود سابق أو كانت قد فقدت استقلالها خلال نزاعات سابقة , كما أن هناك شعوب مازالت تناضل من أجل حقها في إقامة دولتها التي فقدتها بفعل الغزو الاستيطاني , وأهم حالة الشعب العربي الفلسطيني الذي يناضل ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في أرضه فلسطين . فلهذا الاحتلال لم يلغ الدولة الفلسطينية كوجود تاريخي ولنه أفقدها عنصر السيادة فتحولت إلى أرض محتلة , واليوم الشعب الفلسطيني يناضل من أجل إعادة بناء دولته

المبحث الثاني
المجتمع الفلسطيني : خصوصية النشأة

المطلب الأول : تداخل الانتماءات وملابسات التشكيل :
المجتمع الفلسطيني يتميز بخصوصية سواء من حيث النشأة أو من حيث التكوين , فمن حيث النشأة حدث تداخل كبير وما يزال ما بين المجتمع الفلسطيني والمجتمع العربي , ولكون المجتمع الفلسطيني جزءاً من المجتمع العربي فأن سمات المجتمع ومراحل تطوره تنطبق على المجتمع الفلسطيني بالتبعية – تبعية الجزء للكل – وعليه يمكن القول بأن المجتمع الفلسطيني وبالتبعية مر بنفس المراحل المعروفة لتطور المجتمعات العربية , ما عدا مرحلة الدولة – الأمة , التي لم يعرفها المجتمع العربي ككل , فعديد من الدول العربية المعاصرة أوجدها الاستعمار – اتفاقية سايكس – بيكو بالنسبة لبلاد الشام – بمعنى أن هناك مجتمع عربي واحد واثنان وعشرون دولة قطرية . أما من حيث التكوين فالمجتمع العربي , إلا أنه يختلف بغياب التواصل بين تجمعات أفراده , وعليه يمكن القول بأن الحديث عن مجتمع فلسطيني هو ضرورة سياسة ووطنية أكثر مما هو حقيقة قومية أو أثنية .

المجتمع الفلسطيني : إكراهات التأسيس:
ليس مجال بحثنا في هذا المجال الحفر في تاريخ فلسطين القديم با البحث في المجتمع الفلسطيني الحديث , ذلك أن تاريخ فلسطين القديم يضرب بجذوره لآلاف السنين , حيث يعود لما قبل الكنعانيين , وقد , وقد ذكرت التوراة أنه عندما قدم العبرانيون لفلسطينيين وجدوا فيها الشعب الفلسطيني , وكما يقال المثل الشعبي (من لسانهم نديهم ). ومع ذلك فأن الغموض يكتنف الأصل الأول لهذا الشعب العريق , فقد ذكرت بعض الروايات بأن الفلسطينيين هو شعب جاء من بحر إيجه وسكن السواحل الجنوبية لفلسطين , فيما ذكر آخرون بأن كلمة (فلسطينيون) جاءت من كلمة فلسط أو فلست , والفلسط هم إسم إلاه وجد في الأف قبل الميلاد وما قبل ما قبل , وكان موطنه الأصلي عقرون في فلسطين الحالية وكانت الأرض التي تسمى اليوم بفلسطين مسكونة بشعبين , شعب ( الفلسط في الجنوب وشعب ( التكر ) في الشمال , وما يؤكد هذا القول هو وجود نص فرعوني يعود للسنة الثانية عشر من عهد رميسي أحد فراعنة مصر القديمة , وجاء في هذا النص : ( إنه هزم التكر وأرض الفلسطينيين ), ويذكر نص فرعوني قديم ما يفيد بان الفلسطينيين كانوا شعباً متحضرا يسكن المدن , وجاء في النص الذي يصفه الحال قبيل دخول الحرب مع الفلسطينن بأن (الفلسط كانوا قلقين يختبئون في مدنهم ) .
إذن الشعب الفلسطيني شع عريق ومن أقدم شعوب المنطقة , إلا أنه بفعل الحروب والهجرات مرت على أرض فلسطين أقوام متعددة بعضها اختلط بشعب الفلسط الأصلي وأصبح جزءا منه وآخرون كانوا مجرد محتلين أو فاتحين , عمروا لفترات قد تطول أو تقصر الرومانيين والصلبيين والاتراك والانجليز , وولكنهم في النهاية تركوا البلاد لأهلها , ويعتبر الاحتلال العبراني آخر موجات الاستعمار لأرض فلسطين .
من الممن تلمس ظهور المجتمع الفلسطيني الحديث ككينونة سياسية وكيانية متميزة عن محيطها العربي والإسلامي عندما اجتمع عاملان , الأول : هو ظهور المطامع الصهيونية بفلسطين وتصدى الفلسطينيون لمواجهة محاولات الحركة الصهيونية للحصول على امتيازات من قبل الباب العالي في الآستانة ,والثاني هو ظهور توجيهات قطرية عربية مستقلة – سوريا ولبنان والأردن والعراق – فصلت نفسها عن المتحد الكلي سواء كان سوريا الكبرى أو حلم الدولة العربية – وهو ما سنتطرق إليه لاحقاً .
وهكذا مع استفحال الأخطار الصهيونية وممارسة الحركة الصهيونية ضغوطاً على السلطان العثماني وإغرائه بالمال لأجل فتح باب الهجرة اليهودية إلى فلسطين , نشط الأعضاء الفلسطينيون في جماعة الاتحاد والترقي , وفي " مجلس المبعوثان " في شرح أخطار الحركة الصهيونية وأطماعها في فلسطين . وقد تساءل نائب يافا في " مجلس المبعوثان " حافظ بك السعيد في حزيران / يوليو 1909 عما إذا كانت الحركة الصهيونية الهادفة لاستيطان فلسطين متوافقة مع مصلحة الإمبراطورية العثمانية ؟ وطالب باتخاذ الإجراءات الكفلية بالحد من الهجرة اليهودية وإغلاق ميناء يافا في وجه المهاجرين . ومع بداية عام 1911 أثير المشكل من جديد في المبعوثان " من طرف شكري العسلي وروحي الخالدي .
ويبدو ان هذا الإحساس بخطورة الهجرة اليهودية والأطماع الصهيونية في فلسطين وتهديدها لعروبة البلاد , وكان مقتصراً على الفلسطينين أنفسهم , ولم يكن ضمن الاهتمامات الأساسية للحركة القومية العربية الوليدة , والتي كانت مجسدة آنذاك بعدد من الجمعيات مثل حزب اللامركزية , والعربية الفتاة وحزب العهد ... ومن الواضح أن الحركة القومية آنذاك كانت منهمكة بهمومها الخاصة وبصراعها مع السلطات العثمانية للحصول على ما يمكن الحصول عليه من امتيازات ضمن الجامعة العثمانية . ويظهر لنا قصور الحركة القومية عن استيعاب المسألة الفلسطينية آنذاك والخطر الصهيوني , في المؤتمر العربي الأول المعقود في باريس عان 1913 , حيث تجاهل المؤتمرون الخطر الصهيوني في فلسطين بالرغم من ورود عشرات الرسائل تنبيه المؤتمرين إلى هذا الخطر , فمن بين 378 برقية تأييد وصلت للمؤتمر كان 139 من فلسطين.
لقد تفاوت تأثر وقع الخطر الصهيوني على الفلسطينيين وعلى بقية المجتمعات في القطار العربية الأخرى , حيث كان مادياً ومباشراً على الفلسطينيين , وكان مجرد احتمال خطر بالنسبة لبقية العرب , وعليه شعر الفلسطينيون بان غبنا قد وقع عليهم من قبل مؤتمر باريس لتجاهل المؤتمرين خصوصية وضعهم , وهذا ما حدا بالصحف الفلسطينية لدق ناقوس الخطر والتنبيه إلى احتمال حدوث " انشقاق " في وحدة بالحركة القومية و واحتمال دفع الفلسطينيين لفقد الأمل في التعديل على الحركة القومية الناشئة لحل مشاكلهم مع الصهيونية . فصحية الكرمل لصاحبها نجيب نصار يوم8/7/1913 , كتبت تقول ... " هل جرى الاتفاق على المضى بمناهضة كل حركة حياتية تظهر منا وترك أبناء الصهيونية .. يحيون قوميتهم بموت قوميتنا ... ؟ هل جري الاتفاق على أن نبيعهم وطننا قطعة ليرحلونا عنه فرادي وجماعات " .
أثار االتجاهل مؤتمر باريس القومي للخطر الصهيوني – في وقت كانت فيه عملية شراء الحركة الصهيونية للأراضي الفلسطينية من ملاكها من الإقطاعيين العرب وبدعم من السلطات العثمانية تتم بصورة مفضوحة – حفيظة الفلسطينيين . وتصدرت جريدة الكرمل للموضع متسائية " أيجوز يا طلاب الإصلاح أن يتمنى بعضكم في مؤتمر باريس أن يكون محط مهاجري الرومللي في الأناضول لتخفيف الثقة عن لبسوريين ... وأن تقولوا كلمة لمندوبي الحكومة أن تمليك الأراضي للجمعيات الصهيونية يضعف القومية وبالتالي الجامعة العثمانية ... يا طلاب الإصلاح في بيروت ومصر , كيف تطلبون للبيت سقفا وتغلفون عن وضع أساسه , تطلبون الإصلاح لبلاد أنتم يسعى لتملكها الصهيونيون وأن تم تشاهدون هذا ولا تعارضون كأنكم لا صلة بينكم وبين إخوانكم في العروبة والعثمانية والوطنية في فلسطين , وكأنكم لا صلة بينكم وبين إخوانكم في العروبة العثمانية والوطنية في فلسطين , وكأنكم لا تعلمون أن ضياع فلسطين يقضي على آمالكم وحياتكم الاقتصادية .
مع تجاهل الحركة القومية الوليدة للمعانة الفلسطينية وتسبيق الحركة للهموم العربية المتعلقة بالإصلاح وواللامركزية ضمن الحكومة العثمانية , وعدم رغبتها في فتح معارك جانبية , أدى هذا التجاهل إلى ردة فعل فلسطينية تمثلت في عودة الفلسطينيين للاعتماد على النفس , وإنشاء جامعة خاصة بهم تهتم بالشؤون الفلسطينية دون انتظار العون الخارجي , وتردد المثل القاتل " ما حك جلدك مثل ظفرك ." مما أدى إلى مخاوف من ظهوره ردة إقليمية تنفصل عن الحركة القومية الناشئة.
إلا أن هذه المخاوف لم يكن لها أساس من الصحة فالانتماء القومي للفلسطينيين كان جارفاً , وحالة اليأس من أي دعم عربي للفلسطينيين آنذاك لم يدفع إلى الكفر بالقومية العربية , بل ربط الفلسطينيون ما بين الأطماع الصهيونية في أرض فلسطين وبين الإستراتيجية الصهيونية الاستعمارية في المنطقة العربية الهادفة إلى تجزئة المنطقة تمهيداً للسيطرة عليها . وقد بين خليل السكاكيني احد الأقطاب الفلسطينيين آنذاك في مقابلة أجرتها معه جريدة الأقلام القاهرية في آذار / مارس عام 1914 هذا الترابط حيث أكد "... أن الصهيونيين يريدون أن يمتلكوا فلسطين قلب الأقطار العربية والحلقة الوسطى التي تربط شبه الجزيرة العربية بأفريقيا , وهكذا يبدو أنهم يريدون كسر الحلقة وتقسيم الأمة العربية إلى جزئن للحيلولة دون توحدها " . كما أن مناشدة الفلسطينيين للعرب بالتدخل لنصرتهم يؤكد شعورهم بالرابطة الواحدة التي تربطهم بالأمة العربية , فوحدة المصير والتاريخ المشترك يحتمان على العرب نصرة الفلسطينيين " .... فنحن إخوانكم الفلسطينيون نشاطركم في كل موافقكم أنواع المحن فلماذا لا تشاطرنا على الأقل , شيئاً من الشعور بالمصائب التي تنصب على رؤوسنا ".
انتهت فترة القلق والانتظار التي عاشها الفلسطينيون , وتلاشت تخوفاتهم من أن تسوى الحركة القومية العربية الناشئة مشاكلها مع السلطات العثمانية دون الأخذ في الحسبان الخصوصية الفلسطينية , أو أن تدخل في اتفاقيات مع الحركة الصهيونية على حساب حقوق شعب فلسطين , وهو الأمر الذي أثير من خلال الاتصالات التي أجراها عدد من قادة حزب اللامركزية مع الحركة الصهيونية . فالسلطات العثمانية تشددت في مواقفها الرافضة لأي إصلاح يعطي حكماً لا مركزياً للعرب في موطنهم , كما أن المباحثات العربية الصهيونية آلت على الفشل حيث صرح رشيد رضا باسم حزب اللامركزية أن الخطر الصهيوني لا يقتصر على فلسطين بل يتعداه إلى سوريا حتى اافرات , وفي نفس الوقت أعلن محمد المحمصاني أحد قادة جمعية (العربيةالفتاة) ومن مندوبي المؤتمر الأول , أن الشعب العربي يعارض الحركة الصهيونية , كحركة سياسية دفها إيجاد وطن اليهود في فلسطين , وقامت الصحف العربية مثل الأهرام والمقطم وفتى العرب والمؤيد بحملة صحافية بينت فيها أخار الحركة الصهيونية ليس على فلسطين بل على المنطقة العربية ككل وبذلك دخلت القضية الفلسطينية في صميم الحركة القومية العربية , وأصبحت مهمة تأكيد عروبة فلسطين ومعاداة الخطر الصهيوني من المهمات التي تصدت لها الحركة القومية والتي رفدها الفلسطينيون بكل إمكانياتهم لإنجاحها .

المزاوجة بين وطنية مهددة وقومية متعثرة الولادة:
ولج الفلسطينيون الحركة القومية العربية , وشكلوا دعامة اساسة من دعائمها , وتبوأ البعض منهم مراكز قيادية فيها , نظراً لتداخل العامل القومي بالخصوصية الفلسطينية . فقد اعتبروا انتصار الحركة عربية مستقلة فحسب , بل انتصار للحركة القومية العربية القادرة على مواجهة الخطر الصهيوني وإنقاذ شعب فلسطين منه .
من بين الفلسطينيين المشاركين في الحركة القومية العربية نجد في جمعية " العربية الفتاة" , عوني عبد الهادي , رفيق التميمي , معين الماضي , زكي التميمي, رشدي الإمام الحسيني , رشدي الشوا , سليم عبد الرحمن , حافظ كنعنان , صدقي محلس , عزة دروزة , إبراهيم هاشم , ومحمد عفيف . كما قدم العديد منهم أرواحهم على مشانق جمال باشا السفاح دفاعاً عن القومية العربية , فمن بين الذين أعدمهم هذا الأخير عامي 1915 و1916 نجد من فلسطين , عمر النشاشيبي , أحمد عارف الحسيني , وولده مصطفى , سليم عبد الهادي , سيف الدين الخطيب , ومحمد الشنطي .
ولكن كيف تعاملت الحركة القومية العربية بعد الثورة مع القضية الفلسطينية ؟
وهل وعت العلاقة الجلدية القائمة ما بين عروبة فلسطين وبين الوحدة العربية ؟
أن المتتبع لمعالجة قادة الثورة العربية مع المسألة الفلسطينية , سيتلمس بوضوح شيئاً من الغموض الذي اكتنفت موقفهم تجاه عروة فلسطين , سواء فيما يتعلق بمراسلات حسين مكماهون أو موقف الأمير فيصل بعد ذلك من الموضوع .
ففي الفترة الأولى من قيام الثورة أوضح الشريف حسين مطالب الحركة القومية العربية في رسالة بعثها إلى السيد هنري مكماهون . ونظراً لسياسة بريطانيا المتسمة بالمماطلة والغموض , إستراتيجيتها المعادية لطموحات العرب , فقد رد مكماهون على مطالب الشريف حسن لبريطانيا بالتعهد باستقلال العرب بالموافقة على استثناء بعض المناطق , وهي التي حددت في رسالة مكماهون بأنها أجزاء من بلاد الشام , الواقعة في الجهة الغربية لولايات دمشق الشام حمص وحماة وحلب , وكان تفسير بريطانيا لذلك , أنه لا يمكن أن يقال أن هذه المناطق عربية تماماً .
أثار الغموض الذي صاحب موافقة حسين على هذا الاستثناء كثيراً من الالتباس حول مدى جدية قادة الحركة القومية العربية في التمسك بعروبة فلسطين , وخصوصاً أن الحركة الصهيونية وبريطانيا اعتبرنا الاستثناء المشار إليه في مراسلات حسين - مكماهون يعني موافقة ضمنية من العرب على استثناء فلسطين من المناطق المطالب باستقلالها , وحيث اعتبر أن فلسطين تقع ضمن المناطق الواقعة غرب دمشق وحمص وحماه . ففي تصريح لتشرشل في 11/7/1922 وكان آنذاك وزيراً للمستعمرات – أكد أن فلسطين كانت مستثناة من تعهدات الحكومة البريطانية للعرب بالاستقلال . وادعي بأن فيصل بن الشربف حين قد اتفق , أثناء مباحثاته مع البريطاني , عام 1921 , معهم على ذلك . وأثيرت المسألة من جديد مع تدهور الأوضاع في فلسطين , الصدمات التي وقعت في عام 1929 – انتفاضة البراق – بين شعب فلسطين والحركة الصهيونية , ففي التاسع من كانون الأول / ديسمبر 1929 , وأثناء بحث المسألة الفلسطينية في لندن , أعلن المستر شليز وكيل وزارة المستعمرات أن فلسطين لم تكن مشمولة بالوعد الذي قطعته بريطانيا للشريف حسين .
ولسنا هن في مجال التشكيك حول النوايا لحقيقية للشريف حسين أو ابنة فيصل تجاه فلسطين , خصوصاً أن المخطط الصهيوني الاستعماري كان ؟أقوى من أن يؤثر فيه موقف الشريف حسين أو أن يعرقله اعتراض هذا الزعيم أو تلك الحركة . كان الوجود الصهيوني على ارض فلسطين قد أصبح واقعا لا يستمد شرعيته من تعهدات الشريف حسين أو غيرة ولكن يستمدها من قوة السلاح وجبروت القوة والتضليل المبرمج للرأي العالمي . ومع ذلك يبدو أن قادة الحركة القومية , وقد وجدوا أنهم الطرف الضعيف في المفاوضات , ونظراً لتورطهم في التآمر مع بريطانيا ضد تركيا , كانوا على استعداد للاعتراف لليهود بوضع خاص في فلسطين إذا ما تعهدت الحركة الصهيونية والقوى الاستعمارية , بإقامة دول عربية تحت حكم عربي في بلاد الشام . هذا المر أكدته ملابسات لقاء فيصل – وايزمان في باريس .
ففي أثناء وجود فيصل في باريس 1919 اجتمع في كانون الثاني / يناير من نفس العام مع الصهيوني وايزمان , بوساطة بريطانيا , وحسبما هو ثابت في محاضر اللقاء تعهد فيصل بتوثيق التعاون مع الحركة الصهيونية وفتح باب الهجرة أمام اليهود , واعترافه بوعد بلفور. وقد حاول فيصل تبرير موقفه هذا بالحالة النفسية التي كانت يعيشها وحيداً محاصراً في أوروبا , وبالضغوط التي مارستها عليه بريطانيا , وخداع لورنس له !.
أن ضعف الموقف التفاوضي لفيصل في تلك الفترة التي كرست فيها الدول الاستعمارية واقع تواجدها في البلاد العربية , ونالت بمساعدة الحركة القومية العربية كل ما تريد في المنطقة , لا يمكن أن يكون مبرراً لتقديم أي تنازلات حول أي جزء من أرض العرب , وخصوصاً أن المناضلين في الحركة القومية العربية كانوا رافضين لأي تنازل للصهاينة في فلسطين .
وعليه فإن المواقف المترددة لفيصل تجاه عروبة فلسطين , لم تؤثرعلى تمسك غالبية الحركة القومية العربية بعروبة فلسطين ورفضها لجميع الخطط الاستعمارية الصهيونية الهادفة لاقتطاع فلسطين من جسم القمة العربية . ففي المؤتمر على المطالبة بالاستقلال , وإقامة حكومة نيابة , وفيما يخص فلسطين تطرقت البنود السابغ والثامن والعاشر من مقررات المؤتمر لها , فنص البند السابع على رفض المطالب الصهيونية يجعل القسم الجنوبي من سوريا ( أي فلسطين ) وطناً لليهود , أما البند الثامن فعبر عن استنكار المؤتمرين لاتفاقية سايكس – بيكو الهادفة لتقسيم بلا الشام وفصل فلسطين عن سوريا وفي البند العاشر عبر المؤتمرين عن رفضهم لوعد بلفور , ومما يجدر ذكره هنا أن هذا المؤتمر حضره ممثلون عن جميع سكان ( سوريا الكبرى ) , وكان الوفد الفلسطيني في المؤتمر ممثلا في كل من عزة دروزة وأمين التميم ورفيق التميم وعادل زعيتر , وإبراهيم عبد الهادي والدكتور احمد قدري ومعين الماضي وصلاح الدين يوسف وسليم عبد الرحمن , ويوسف العيس وعبد الرحمن الخولي وإبراهيم العلي وريد الحاج إبراهيم وحسين الزغبي وعلي مهدي .
ولكن يبدو أن أماني الشعوب وطموحاتها بالتحرر والاستقرار لا تجد مكانا لها في مواجهة سياسة الأمر الواقع المدعوم بالقوة العسكرية , إن لم تلجأ هذه الشعوب إلى استعمال أسلوب العنف في مواجهة العنف . وقرارات مؤتمر دمشق لم تستطيع أن تغير شيئا من الواقع التي فرضها الاستعمار على أرض العرب .فردا على إعلان استقلال سوريا اجتمع المجلس العلى للحلفاء في سان ريمو في نيسان / ابريل عام 1920 واتخذ قراراته القاضية بتقسيم سوريا إلى ثلاثة أجزاء منفصلة ( فلسطين , لبنان , وما تبقى من سوريا ) وإن توضع فلسطين بالإضافة إلى العراق تحت الانتداب الذي سيلتزم بتطبيق وعد بلفور بإقامة وطن لليهود في فلسطين . وبهذا استكملت فصول المؤامرة الاستعمارية الصهيونية , بتجزئة البلاد العربية وبوضع الأساس للمحافظة على واقع التجزئة بالتهيئة لإقامة دول يهودية في فلسطين , وتكريس هذا الواقع بتشتيت الحركة القومية العربية إلى جداول إقليمية , تفرعت لمواجهة متطلبات العمل الوطني الإقليمي . وحده شعب فلسطين بقي في الميدان محتلة أرضه ومهددة قوميته , معرض وجوده كشعب للخطر . فبدا مرحلة جديدة من النضال تقوم على اعتماده على نفسه محاولا أن يلعب أوراقه الوطنية المحدودة . فهل يستطيع الفلسطينيون الانتصار في هذه المعركة وهل يمكنهم العمل منفردين بعيداً عن حركة الوحدة العربية ؟

المطلب الثاني : الشعب الفلسطيني في مواجهة وعد بلفور:
في الوقت الذي كانت فيه الحركة العربة الناشئة منشغلة بمصير البلاد العربية بعد الحر ب, مراهنة على تنفيذ الانجليز لتعهدهم للشريف حسين , ثم الكشف عن وثيقتين خطيرتين لعبتا دورا في رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة وما زالت تداعياتهما متواصلة حتى اليوم . الأولى هي اتفاقية سايكس – بيكو 1916 والتي بمقتضاها اتفقت بريطانيا وفرنسا على تقسيم المنطقة العربية الخاضعة للإمبراطورية العثمانية بعد الحرب , وما كان لهذه الاتفاقية أن ترى النور آنذاك لولا خروج روسيا من التحالف ومن الحرب وكشفها للوثيقة . وقد أكدت هذه الاتفاقية الخداع الاستعماري وقدرة بريطانيا على توظيف وغلى الحجاز الشريف حسين والقوميين العرب لخدمة الأهداف الاستعمارية مقابل وعود زائفة – سبق الإشارة إلى الموضوع .
إلا أن الوثيقة الخطر والتي لعبت دورا في تأجيج الصراع في فلسطين وفي فتح أبواب الهجرة أمام اليهود لفلسطين , فهي وعد بلفور 1917 , حيث وعد من لا يملك بمنح فلسطين لم لا يستحق , حيث وعد وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور اليهود بمنحهم وطن قومي في فلسطين , وجاء هذا التعهد نتيجة التقاء المصالح بين الحركة الاستعمارية المتطلعة للهيمنة على المنطقة والحركة الصهيونية المتطلعة لتأسيس وطن في فلسطين كما طالب المؤتمر الصهيوني الأول في بال عام 1879 بالإضافة إلى رغبة بريطانيا بمكافأة اليهود على دعمهم لها في الحرب بشراء سندات خزينة بملايين الجنيهات والمشاركة اليهودية بمجهودات الحرب علميا . وقد عمل وعد بلفور على منح شرعية للهجرة اليهدية إلى فلسطين وفتح المجال أمام اليهود لمباشرة سياسة السطو على الأرض الفلسطينية تحت ذرائع شتى.
تفاقم الخطر الصهيوني وتلمس الخصوصية الوطنية :
في ظل هذه الأجواء الخطرة ومع انكشاف حقيقو المؤامرة على فلسطين , أخذ الفلسطينيون يتلمسون طريقهم الخاصة في النضال , وليخوضوا مسيرة العمل الوطني بما يكتنفها طريقهم الخاصة في النضال , وليخوضوا مسيرة العمل الوطني بما يكتنفها من غموض وصعوبة , نظراً لجسامة الأخطار المحدقة بفلسطين , وكانت أهم صعوبة واجهت الحركة الوطنية الفلسطينية في بداية مسيرتها تتجسد في قوة الخصم الواقف في مواجهتها والمتمثل في التحالف الصهيوني الاستعماري , وكان هذا أكبر من طاقتها على المواجهة , مما دفعها إلى محاولة الفصل في هذا المرحلة مال بين الصهيونية وبين سلطات الانتداب البريطاني , وانتاجها لسياسة مهادنة مع بريطانيا واعتبار الحركة الصهيونية هي الخطر الأساسي , وقد استغلت السلطات البريطانية هذه السياسة المهادنة تجاهها ونصبت نفسها حكما في الصراع الدائر على أرض فلسطين . وهذا ما تجسد في تشجيعها على بلورة نشاط سياسي فلسطيني أخذ اسم " الجمعيات الإسلامية – المسيحية ".
ابتداء من مارس عام 1918 بدا تشكيل جمعيات إسلامية – مسيحية في كل مدن وقرى فلسطين , وأخذت على عاتقها قيادة العمل السياسي في البلاد , وتوجيه الجماهير إلى أنجح الطرق والوسائل الكفيلة بمواجهة المشاكل التي تواجهها البلاد . وفي بداية تشكلها كانت تحمل اسم ( المؤسسات العربية ) ولكن البريطانيون اقترحوا تسميتها بالجمعيات الإسلامية – المسيحية , ولم يخف مؤسسو هذه الجمعيات دور بريطانيا في ظهور هذه الجمعيات وتشجيعها لهم و فقد ذكر احد هؤلاء – حمدي الحسيني بأن " .... مجموعة من قادة البلاد قابلوا الحاكم العسكري البريطاني لفلسطين عام 1918 وأعربوا عن مخاوفهم من نتائج وعد بلفور . وقد طلب منهم الحاكم العسكري البريطاني أن يسلكوا نفس مسلك اليهود حين طلب هؤلاء بالوطن القومي , وفعلا خرج قادة البلاد ليسكلوا " الجمعيات الإسلامية – المسيحية " في كل مدينة وقرية , لمطالبة الحكومة البريطانية من خلال تلك الجمعيات وكنصية الحاكم العسكري بإلغاء وعد بلفور ".
لم يكن تشجيع السلطات البريطانية , على خلق نواة حركة سياسية في فلسطين , حرصاً منها على شعب فلسطين وتفهماً لعدالة قضيته , ورغبة صادقة في خلق معرضة عربية تقف في وجه المخططات الصهيونية في فلسطين . ولكن الهدف الأساسي من وراء ذلك كان إبعاد الشعب الفلسطيني عن محيطه العربي وحرف تطلعاته الوحدوية القومية , من خلال خلق مجالات للعمل السياسي الإقليمي مسيطر عليها وموجهة من قبل بريطانيا . وبذلك تضع إسفينا بين شعب فلسطين وبين حركة الوحدة العربية التي كانت آنذاك تطالب بإقامة دولة عربية موحدة في البلاد التي كانت خاضعة لتركيا بما فيها فلسطين .
تغاضت السلطات الانتدابية بداية عن نشاط الجمعيات الإسلامية, وبرزت الإرهاصات الأولى لإقليمات عربية عبر عنها ساطع الحصري في كتاب ( يوم ميلسون ) كما يلي : " فهذا فلسطيني يعتبر الصهيونية أول ما يجب أن يهتم به من مشاكل , ذلك سوري يرى في أطماع فرنسا أكبر الأخطار التي تهدد القضية العربية , وذلك عراقي يقول بوجوب الثورة ضد الإنجليز قبل كل شيء". في ظل هذه الأوضاع اتجهت الجمعيات الإسلامية –المسيحية , نحو التمركز التنظيمي , فدعت إلى عقد مؤتمر عام لها ما بين السابع والعشرين من كانون الثاني / يناير والعاشر من شباط / فبراير عام 1919 اتخذ نشاط هذه الجمعيات في البداية طابعاً قومياً وظهر ذلك جليا في النقاشات التي دارت بين الأقطاب الفلسطينيين قبل انعقاد المؤتمر , فيذكر أنه مع وجود تيار إقليمي يدعو إلى أن تكون فلسطين للفلسطينيين ’ إلا أن التيار الغالب كان تيار الوحدة العربية , وان وجهة النظر الغالبة قبيل انعقاد المؤتمر هي " رأينا أن نجرب أن نوحد كلمة الوفود كلهم على عقيدة الجامعة العربية , وأن فلسطين ليست للفلسطينيين بل هي للجامعة العربية , وقررنا أن تقيم الأندية الوطنية في القدس حفلات تكريم لهم , ويقوم فيها الخطباء ويدعون إلى الجامعة العربية".
وقد تأكد عمق الانتماء القومي عند الفلسطينيين وإيمانهم بالوحدة العربية من خلال القرارات التي أصدرها مؤتمرهم الوطني هذا فالإضافة إلى إصدار قرار من المؤتمرين بتسمية فلسطين ( سوريا الجنوبية ) فقد ورد في القرارات ما يلي :
أولاً : إننا نعتبر فلسطين جزءاً من سوريا العربية , إذ لم يحدث انفصلت عنها في أي وقت من الأوقات ونحن مرتبطون بها بروابط قومية ودينية ولغوية , وطبيعية واقتصادية و وجغرافية .
ثانياً: إن التصريح الذي أدلى به المسيوبيكو وزير خارجية فرنسا وقال فيه أن لفرنسا حقوقاً في بلدنا مبنية على رغائب ومطامح السكان ليس أساس . ونحن نرفض جميع التصريحات التي أدلى بها في الخطاب في 29كانون الأول / ديسمبر عام 1918 لأن تمنياتنا ومطامحنا تنحصر في الوحدة العربية والاستقلال التام .
ثالثاً: بناء على ما تقدم , إننا نعرب عن رغبتنا بأن لا تنفصل سوريا الجنوبية ( فلسطين ) عن حكومة سوريا المستقلة , وأن تكون متحررة من جميع أنواع النفوذ والحماية الأجنبية . وفي نهاية المؤتمر قرر المؤتمرون إرسال وفد إلى بلاد الشام للاجتماع مع قادة البلاد القوميين ولتعبير عن عواطف أهل (سوريا الجنوبية ) في بقائهم ووإياهم كتلة عربية مستقلة , إلا أن الإنكليز منعوا الوفد من السفر إلى دمشق.
كان أمل الانضمام وتأكيد الانتماء لسورية الطبيعية قد راود أحلام الفلسطينيين , باعتبار المخرج الوحيد أمامهم من المأزق الذي كانوا يواجهونه , وم يتركوا مناسبة إلا وعبروا عن طموحاتهم هذه . ففي اجتماع لقادة الحركة الوطنية الفلسطينية يوم الثاني عشر من نيسان /أبريل 1919 حددوا المطالب الواجب تقديمها للجنة " كنج كرين " , والتي تركزت على اعتبار "سوريا" التي تمتد من جبال طوروس شمالاً إلى ترعة السويس جنوباً و مستقلة استقلالاً تاماً ضمن الوحدة العربية , أن فلسطين جزء لا يتجزأ عنها .
وفي كانون الثاني /يناير 1920 رفعت الجمعية الإسلامية المسيحية بنابلس مذكرة إلى مؤتمر الصلح في باريس بينت فيها . " إننا لا نريد غير استقلال بلادنا السورية واحدة غير متجزئة و وإننا نرفض المزاعم الصهيونية والهجرة اليهودية ....ففصل فلسطين عن سوريا يفهنا بصراحة تامة أن المراد منه تمزيق البلاد العربية إرضاء للمصاللح الاستعمارية , وأنه لم يكن إلا تطبيقا لمعاهدة 1916, التي هي تعد صريح على حقوقنا والتي يقصد من ورائها تلاشي قوميتنا .
أن المتتبع للعمل السياسي داخل فلسطين منذ قيام الثورة على 11916 وحتى أواخر 1920 , يلاحظ تقاطع النضال الفلسطيني مع نضال الحركة القومية العربية وامتداد لها بالرغم من الالتباس الذي صاحب نشوء الأولى . ويرجع هذا التداخل كما سبقت الإشارة إليه عوامل . فإن الخطر الصهيوني وقوة معسكر الأعداد سبب / لا يستهان به في هذا المجال , وهو ما أكده تقرير المخابرات البريطانية في تشرين الثاني / نوفمبر 1919 وأوضح أن الخوف من الصهيونية هو " السبب الرئيسي الذي يدفع الشباب من العناصر الموالية للوحدة العربية نحو العطف على الاتحاد مع سوريا العربية المستقلة , فبانضمام فلسطين إلى سوريا العربية , يصبح في وسع شعب فلسطين , بمساعدة العرب الآخرين , أن يقاوموا بنجاح الهجرة اليهودية .
إلا أن سنة 1920 شهدت متغيرات جديدة . فرضت على الحركة الوطنية الفلسطينية انتهاج سياسة جديدة وتبني مواقف جديدة تجاه الوحدة العربية .

المطلب الثالث: فشل المراهنات وانتهاج سياسة الاعتماد على الذات:
منذ منتصف عام 1920 شهدت فلسطين والقضية العربية عموماً أحداثاً مهمة شكلت بالنسبة لتطور الحركة الوطنية الفلسطينية منعطاً ذا دلالة . فبالإضافة إلى الظروف الداخلية في فلسطين , والتي كان أهمها زيادة الهجرة اليهودية وانتقال الحركة الصهيونية من مرحلة التنظيم والترقيب , إلى مرحلة خلق وقائع جديدة والتحرش بالسكان العرب في فلسطين , حصلت متغيرات خارجية كان أهمها عاملين :
الأول : إلعلان بريطانيا وفرنسا كدولتين منتدبتين على الأقاليم التي تحتلانها حيث أعلن مجلس السلام الأعلى في نيسان / ابريل عام 1920 هذا القرار دون الرجوع إلى رغبات واماني الشعوب . وعلى أثر ذلك قامت بريطانيا بممارسة صلاحيتها على فلسطين , وقد ذكر هربرت صموئيل المندوب السامي الذي نصبته بريطانيا في فلسطين , وأوائل تموز / يوليو 1920 ان مهمته هي " اتخاذ التدابير لضمان إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين بالتدريج ".
الثاني : اما العامل الثاني فقد تمثل في سقوط الحكم الفيصلي في دمشق بعد معركة ميلسون في 24 تمز / يوليو عام 1920. وبسقوط الحكومة العربية في دمشق , فقد الفلسطينيون أخر أوراق الرهان على الحركة القومية العربية , التي كانوا يعدولون عليها كثيراً .
ويبدو أن تضافر العوامل الداخلية والخارجية شكل أساساً موضوعياً لتنحو الحركة الوطنية الفلسطينية نحو الالتفاف على متطلبات النضال الداخلي , بعيداً عن الهموم العربية , دون انتصار عون خارجي اعتماداً على أن فاقد الشيء لا يعطيه .
فالسلطات الاستعمارية أخذت منذ نهاية العشرينيات تسوى مشاكلها المعلقة مع تفرعات الحركة القومية العربية , سواء من خلال سياسة المساومات والإغراءات , أو بالضغط وفرض سياسة الأمر الواقع عليها . فبالإضافة إلى العوامل السابقة يبدو أن الفلسطينيين وجدوا بأن التركيز على مسألة الوحدة العربية , تسبيق مطلب الوحدة عن غيره من المطالب الوطنية , يفسح المجال للحركة الصهيونية أن تتفرغ لحسم الموقف لمصلحتها على أرض فلسطين . عدا عن كون فكرة الوحدة العربية لنم تجد استحسانا من قبل السلطات الانتدابية , التي كانت تعادي كل عمل وحدوي وتحارب الاتجاهات الوحدوية , في الوقت الذي تدعم فيه الشخصيات الفلسطينية المعرضة لفكرة الوحدة العربية .
تبلورت حالة تراجع الفكر الوحدوي و في المؤتمر الفلسطيني الثالث , المنعقد ما بين الثالث عشر والتاسع عشر من كانون الأول /ديسمبر عام 1920 , تحت رئاسة موسي كاظم الحسيني , فرغم اعتبار البعض هذا المؤتمر تكراراً للمؤتمر الأول إلا أنه تميز بالدعوة إلى تشكيل حكومة وطنية , هذا المطلب الول من نوعه في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية وفي تاريخ شعب فلسطين العربية على الإطلاق . وفي الثامن عشر من كانون الول / ديسمبر رفع رئيس المؤتمر موسى كاظم الحسني تقرراً إلى المندوب السامي البريطاني في فلسطين – هربرت صموئيل – طلب فيه " ... تشكيل حكومة وطنية مسؤولة أمام مجلس نيابي ينتخب أعضاءه من الشعب المتكلم باللغة العربية القاطن في فلسطين حتى أول الحرب " , وكانت مناسبة لرئيس المؤتمر ليعبر للمندوب البريطاني عن ثقته بالحكومة البريطانية وأمله أن تحل طلبة هذا محل النظر والتنبيه
مثلت ( مطالب الحكومة الوطنية ) منعطفاً في الإستراتيجية الفلسطينية , وانفصالاً للحركة الوطنية الفلسطينية عن الحركة القومية العربية , وبالرغم من أن مطلب الحكومة الوطنية لم يكن بالطلب الشاذ أو الغريب عن مطالب النضالية للاقطار العربية الأخرى , إلا أن المر مختلف بالنسبة للفلسطينيين , فالسلطات البريطانية التي توجه إليها المؤتمرون بمطلبهم السالف الذكر كانت تنهج نهجاً مناقضاً للطموحات بالاستقلال , السياسة التي اتبعتها بريطانيا في فلسطين تدخل ضمن مخطط شامل يهدف أساسا لتطبيق وعد بلفور بنفي عروبة فلسطين وإقامة وطن قومي لليهود فيها , وهو المر الذي أعلنه بصراحة المندوب السامي هربرت صموئيل كما سبق ذكه , هذا إلى جانب الخصوصية التي تأخذها فلسطين في الإستراتيجية الاستعمارية , والتي تجعل أي سياسة تراهن على إمكانية تحييد بريطانيا في النزاع العربي مع اليهود , سياسة ساذجة ومآلها الفشل نظراً للعداء التناقضي بين الهدف الوطني الفلسطيني والهدف الصهيوني الاستعماري .
لقد خاض الفلسطينيون وطوال فترة العشرينات تجربة العمل الوطني ضمن حدود فلسطين و ولجأوا لمختلف السبل والطرق لتحقيق التفاهم الوطني , أو زحزحة بريطانيا عن مواقفها المنحازة تماماً لجانب الصهاينة , دون جدوى , على العكس من ذلك شهدت ساحة العمل الوطني الفلسطيني حالة من الفوضى و تمثل في الصراعات العائلية والعشائرية , وتفشي الاتكالية والانتهازية , وانحرفت الحركة الوطنية من حركة تعمل لأجل الشعب وضد الاستعمار واليهود , إلى ساحة تناقض فيها الشخصيات ذات الارتباطات المشبوهة و وسماسرة الأرض , وكل من في نفسه مرض السلطة والوجاهة , مما جعل الجماهير الفلسطينية تفقد ثقتها بقيادتها , وتلجأ إلى وسائل جديدة في النضال كان أهم سماتها معاداة بريطانيا واعتبارها عدواً أساسيا لها , واللجوء إلى العنف المسلح .
ابتداء من عام 1929 شهدت فلسطين أحداثاً عنيفة , تميزت بتحرك الجماهير الفلسطينية وأخذها زمام المبادرة للتعبير عن السخط والغضب على التعديات الصهيونية على مقدسات المسلمين , ورفضها لسياسة المهادنة التي اتبعتها قيادة الحركة الوطنية تجاه السلطات الانتدابية في فلسطين . وكانت الشرارة التي فجرت الأحداث , قيام اليهود بمظاهرة في تل أبيب في آب/أغسطس 1929 قام العرب على إثرها بمظاهرة مضادة في اليوم التالي , وبدأت معها سلسة من أعمال العنف استمرت عدة أيام , سقط على إثرها العديد من القتلى والجرحى.
مع تزايد أعمال العنف في فلسطين وشمولة مجمل التراب الفلسطيني و وقفت بريطانيا موقفاً معادياً للعرب و ووضعت قوتها إلى جانب اليهود و حيث جلبت قوات إضافية من مصر وشرق الأردن , لقمع المجاهدين العرب . هذا الموقف العدائي السافر لبريطانيا , اخل تحولا على الإستراتيجية الفلسطينية , حيث اكد فشل سياسة المراهنة على حياد بريطانيا , فشل سياسة المهادنة التي كانت تتبعها القيادة التقليدية للوصول إلى أهدافها . ومن هنا شعر الفلسطينيون انهم يقفون في تحد مباشر أمام تحالف صهيوني استعماري , وهو الأمر الذي كانوا يتخوفون منه أو يتجاهلون وجوده . وهذا ما حتم عليهم البحث عن المعادل الموضوع القادر على ترجيح ميزان القوى لمصلحتهم , فكانت العودة للقومية العربية والاستنجاد بالوحدة العربية هما الحل الوحيد القادر على مواجهة الوضع المستجد .
اثار الانحياز البريطاني المكشوف لجانب الحركة الصهيونية موجه من العنف والاضطرابات عمت كل البلاد , اقترنت هذه الحالة بموجه من المشاعر الوحدوية التي عمت كل فلسطين . كانت المشاعر الوحدوية عند الفلسطينيين في هذه المرحلة من الكفاح الفلسطيني تعبر عن وحدة نضالية كفاحية , وحدة من خلال المعركة المشتركة مع العدو المشترك , وهي الظاهرة التي تميزت فيما بعد مضمون الفكر الوحدوي عند الفلسطينيين . وقد شعر البريطانيون بالعلاقة القائمة بين تفجير اضطرابات 1929 وبين المشاعر الوحدوية التي عمت فلسطين . فقد كتب تشانسلور المندوب السامي البريطاني في فلسطين آنئذ إلى اللورد ما سفيلر وزير المستعمرات يصف نتائج انفجار 1929 قائلاً :"... أن موجه من المشاعر العربية الوحدوية قد عمت فلسطين والأقطار العربية أنها كانت عليه قبل آب / أغسطس الماضي "
ويبدو أن قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية الممثلة بـ " اللجنة التنفيذية " شعرت بتيار الوحدة العربية الجارف , وبوصول سياستها إلى الطريق المسدود فلجأت إلى محاولة ركوب هذه الموجة , وإشراك العرب بالهموم الفلسطينية وتحميلهم جزءاً من مسؤولية ما يحدث على أرض فلسطين فوجهت في 21شباط/ فبارير عام 1931 بياناً إلى الأمة العربية , دعت فيه العرب إلى الاقتاصا لإخوانكم الفلسطينيين و بمعاملة اليهود في البلاد العربية بمثل ما يعامل اليهود العرب فلسطين , وأن يعملوا بدون انقطاع للمحافظة على عروبة البلاد المقدسة واستقلالها و وفي نفس الوقت دعت لعقد مؤتمر إسلامي في القدس في محاولة منها لاستثارة المشاعر الإسلامية في العالم ضد السياسية الصهيونية البريطانية في فلسطين .
وقد استغل القوميون انعقاد المؤتمر الإسلامي الذي حضره العشرات من الشخصيات القومية العربية , فدعوا إلى عقد مؤتمر قومي عربي على هامش المؤتمر الإسلامي . وبالفعل عقد المؤتمر في بيت عوني عبد الهادي وحضره خمسون شخصية عربية , حيث أصدر المؤتمرون بياناً يوم الثالث عشر من كانون الأول / ديسمبر عبروا فيه عن أهداف المؤتمرون وتطلعاتهم القومية , وأشادوا بالجهود التي بذلت من أجل تحقيق كياني عربي مستقل يشمل الأقطار العربية المختلفة , ويوصل الأمة العربية إلى الاستقلال الذي تتمتع به أمم العالم الحرة وهاجموا السياسة الاستعمارية الهادفة إلى تجزئة الأمة العربية بهدف إشغال أهل كل قطر من الأقطار العربية عن إخوانهم في الأقطار الأخرى بقضايا إقليمية مصطنعة وأوضاع محلية متقلبة " .
كان أهم ما تمخضت عنه أعمال المؤتمر و ميثاق سمى " الميثاق القومي العربي " الذي يعتبر وثيقة مهمة كم وثائق الحركة القومية العربية آنذاك , عبرت عن عمق الإيمان بالوحدة العربية , والإحساس بالخطر الذي تمثله الحركة الصهيونية ليس على شعب فلسطين فحسب , بل على الأمة العربية عموماً .
وصلت الاضطرابات في فلسطين إلى ذوتها عام 1936 حيث شهدت البلاد قيام ثورة من أعظم الثورات في المنطقة , صاحبها إضراب استمر ستة شهور واتسمت الثورة بلجوء الجماهير إلى ممارسة الكفاح المسلح ضد السلطات البريطانية والحركة الصهيونية , وشملت جميع أنحاء فلسطين . وكان أهم تعبير عن التضامن العربي مع ثورة شعب فلسطين و مشاركة جميع أنحاء فلسطين وكان أهم تعبير عن التضامن العربي مع ثورة شعب فلسطين , مشاركة متطوعين عرب إلى جانب الشعب الفلسطيني , فمن العراق جاء فوزي القاوقجي على رأس قوة قوامها 500 مناضل وتسلم قيادة الثورة في البلاد , ومن سوريا وصلت قوتان أحداهما بقيادة سعيد العاص , والأخرى بقيادة محمد الأشمر , وكان لهذه القوات تأثير في رفع معنويات شعب فلسطين وإشعاره بأنه ليس وحده في ميدان المعركة .
مقابل التضامن الشعبي العربي مع شعب فلسطين والذي أخذ يشكل المساهمة المباشرة في الكفاح و والقيام بتظاهرات تاييد ودعم لشعب فلسطين , وقفت الحكومات العربية موقف الحذر والترقب والأحداث الجارية على الارض فلسطين , وعندما قررت أن تتدخل فإنها تدخلت كوسيط وكطرف محايد في النزاع , وسوت بين شعب فلسطين وبين السلطات الانتدابية , هذا التدخل لعب دوراً أساسياً في وقف الثورة والإضراب .
ويبدو الأحداث في فلسطين أربكت الزعماء العرب وأوقعتهم في حيرة بين التزامهم القومي تجاه شعب فلسطين و وبين خوفهم على المصالح والالتزامات التي تربطهم مع بريطانيا العظمى , حيث أن معظم القادة العرب آنذاك نصبوا حكاماً بدعم من بريطانيا وفرنسا ولم تكن أي من هذه الحكومات على استعداد لمواجهة بريطانيا لأن هذا يعني فقدها الدعم المادي والمعنوي الذي تقدمه لها بريطانيا وتضمن به استمراريتها في الحكم . ومن ناحية اخرى فإن انتصار ثورة فلسطين كان يعني احتمال انتقال حالة الثورة والتمرد من فلسطين إلى البلاد العربية المجاورة , مما يؤدي لخلق مشاكل للحكومات العربية هي في غنى عنها – وكان التاريخ يعيد نفسه هذه الأيام , حيث حلت أمريكا محل بريطانيا وتغيرت وجوه القادة العرب دون تغير سياسات الأنظمة .
مثل نداء الحكام العرب لشعب فلسطين يوقف الثورة والإضراب , بداية مرحلة جديدة و تميزت بالتدخل الرسمي العربي في الشؤون الفلسطينية , وانتقال مركز القرار بالشأن الفلسطيني من فلسطين إلى العواصم العربية , خصوصاً بعد نهاية الثورة وتوقفها النهائي في عام 1939 , واستمر النضال الفلسطيني متقطعاً ومرتبكاً إلى أن قررت بريطانيا وضع حد الانتداب على فلسطين وكان قرار التقسيم رقم 181 عام 1947 الذي رفضه العرب والفلسطينيون ثم حرب 1948 التي أضاعت ثلث فلسطين وكانت سبباً في تهجير إعداد كبيرة من الفلسطينيين مما حتم إعادة بناء المجتمع الفلسطيني على أسس جديدة ولكن هذه المرة في ظل أوضاع أكثر قساوة . وبعد النكبة دخلت القضية والمجتمع الفلسطيني مرحلة جديدة مازالت تداعياتها متواصلة حتى اليوم

الفصل الثاني
النكبة وأثرها على المجتمع الفلسطيني

تعتبر حرب 1948 والموسوعة بالنكبة نقطة فارقة في تاريخ وواقع المجتمع الفلسطيني و فقبل النكبة وبالرغم من وجود الاحتلال البريطاني والخطر الصهيوني , فقد كان الفلسطينيون يعيشون كمجتمع مترابط وموحد حياة اجتماعية متوارثة عن الأجداد فجاءت النكبة لتقتلعهم من جذورهم وتهدم البنية الاجتماعية ولتخلق واقعاً جديداً . ولذا سنقارب واقع المجتمع الفلسطيني قبل النكبة ثم نبحث في تأثير النكبة على المجتمع .

المبحث الأول
أنماط المجتمع الفلسطيني قبل 1948

من المعروف أن المجتمعات تنقسم على عدة أسس , فهناك تقسيم طائفي ديني كالقول بالمجتمعات المسلمة والمجتمعات المسيحية أو المجتمعات البوذية أو اليهودية أو الهندسية الخ , وهذا التقسيم لا يعتمد كثيراً من علماء الاجتماع لما يتضمن من إيحاءات عنصرية بالإضافة إلى أن مفهوم المواطنة في النظم الديمقراطية يتنافى مع التقسيم الطائفي , وهناك تقسيم اقتصادي إيديولوجي كالقول بالمجتمعات الرأسمالية والمجتمعات الاشتراكية ومجتمعات العالم الثالث – وهذا التقسيم بدا يتراجع بعد انهيار المعسكر الاشتراكي منذ منتصف الثمانينيات , وهناك تقسيم أكثر اتساعاً فتنقسم المجتمعات إلى متقدمة ومتخلفة أو سائرة في طريق النمو و والمجتمع الفلسطيني ينتمي إلى هذا النوع من المجتمعات .
وبغض النظر عن التباين ما بين المجتمعات فكلها تنقسم داخلياً على أسس اقتصادية واجتماعية و فالمجتمع هو بناء أو نسق يعرف تراتيبه وتباين , إما طبقي كالقول بالطبقة الرأسمالية والطبقة البرجوازية والطبقة الوسطى والطبقة العالمية الخ أو يتباين حسب أنماط المعيشة والمستوى الحضاري , فنقول مجتمعاً حضرياً ومجتمعا فلاحيا ومجتمعاً بدوياً , ونظراً لخصوصية المجتمع الفلسطيني حيث تضعف الصراعات الطبقية لصالح الصراع من الاحتلال , فسنقتصر على مقاربة أنماط المجتمع .
عرف المجتمع الفلسطيني قبل نكبة 1948 عدة أنماط أو تشكلات وهي:

المطلب الأول : المجتمع الحضري: Urban Society
المقصود بالمجتمع الحضري سكان المدن , فالحاضرة عكس البادية , وقد سبق للعلامة ابن خلدون أن تحدث عن الموضوع ووصف خصائص الحواضر وما تتميز به عن البوادي . وعليه المجتمع الحضري هم سكان المدن , والمدينة هي مركز للنشاط الصناعي والتجاري والخدمات وغالبية سكان المدن يشتغلون بهذه المجالات , وهذا لا يعني أنهم ينتمون لطبقة واحدة أو يتشاطرون ذات الحال و فمنهم الفقير ومنهم الغني , كما يتمايزون طبقياً حسب الأصول العائلية أو الأوضاع الاقتصادية و فهناك الرأسماليون والبرجوازيون والحرفيون والعمال الخ . وقد اشتهرت فلسطين بمدنها وصناعاتها فالقدس كانت محجا للمؤمنين من كل الديانات , وحيفا وعكا وغزة كانت موانئ مشهورة بتصدير الحمضيات وما تنتجه البلاد من صناعات والتي كانت غالباً صناعات تحويلية .
طوال الحكم العثماني كان النشاط الصناعي والثقافي محدوداً أسوة بما عليه في بقية مناطق الإمبراطورية العثمانية إلا أنه مع بداية الانتداب البريطاني على فلسطين شهدت البلاد تحولا واضحا حيث بدأت بعض الصناعات والأنشطة الخدمية تنشط بالإضافة إلى انتقال عديد من الفلاحين من قراهم إلى المدن ليعلموا كعمال وحرفيين وفي معسكرات الجيش البريطاني الذي كان يحتاج لهم لشق الطرق , وفي تلك الفترة نشطت صناعة المعدن والنسيج والورق والصناعات الكيماوية والصباغة والخشب والجلود ... الخ .
بالرغم من حاجة سلطات الانتداب البريطاني لليد العامة الفلسطينية وللصناعات الفلسطينية إلا أنها مارست تمييزاًً كبيراً ما بين العمال الفلسطينيين والعمال اليهود وبين الصناعات الفلسطينية والصناعات اليهودية , فدعمت بكل الوسائل العمال والصناعات اليهودية من حيث حرية التصدير والاستيراد والتنقل ومنح الرخص وإعفاءات ضريبية الخ , فيما كانت تضيق الأمر على الفلسطينيين و ولهذا تميزت الصناعات اليهودية بالازدهار والجودة على الصناعات العربية كما ازدهر ونشط رأس المال اليهودي بشكل أكبر من رأس المال العربي وخصوصاً مع تدفق الرساميل اليهودية من الخارج .
أما بالنسبة للتعليم Education فمن المعلوم أن الإمبراطورية العثمانية لم تول اهتماماً للتعليم ولم تكن سلطات الانتداب البريطاني أفضل حالا , ويستدل على ذلك مما جاء في تقرير اللجنة الملكية الذي قدمته على البرلمان البريطاني في صيف عام 1937 حيث ورد ما يلي:
من اشد دواعي السف أن لا يكون في مقدور نظام الحكومة بعد مرور سبع عشرة سنة على حكم الانتداب أن يسد إلا نصف حاجة العرب إلى التعليم ز فإن نحواً من خمسين في المائة من طلبات الالتحاق بالمدارس في السنين الأخيرة في المناطق التي توجد فيها مدارس , رفضت بسبب قلة المعلمين وعدم وجود اماكن للتلامذة . هذا فضلاً عن عدم سد الحاجة للتعليم بالمرة في المناطق التي لم تنشأ فيها حتى الآن بنايات للدارس على مسافة قريبة نوعاً ما من بعضها البعض ز ومن بين الأولاد الذين هم في سن التعليم , وقدر عددهم بما يقرب من 260.700 ولد يتعلم في مدارس الحكومة الان , 42.7000فقط . وقدر شهود العرب أن نحواً من 85% من الفلاحين لا يزالون أميين ومما جعل هذا الأمر أشد إيلاماً أن قسما كبيراً من القرى العربية يرغب في التبرع بالمال لإنشاء المدارس في القرى إذا قامت الحكومة بنصيبها من ذلك ".
كما جاء في تقرير لجنة التحقيق الانكليز – الأمريكية التي عينتها حكومتا الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة في عام 1946 ما يلي :
" يتبين لنا أن اقل من نصف عدد الأطفال العرب الذين يودون أن ينتسبوا إلى المدارس يستطيعون أن يجدوا يغيتهم في يومنا هذا . وفي مدينة حيفا الفتية أخبرنا المجلس البلدي أن نصف عدد الصبية من العرب والأغلبية من فتياتهم لا يتلقون أي تعليم أبداً . والوضع في اغلب مقاطعات الريف أكثر سوءاً , ولا سيما بالنسبة إلى الفتيات , ففتاة واحدة فقط بين ثماني تحصل على التعليم الآن بين الطبقات الفقيرة لا في المدن فحسب بل في كل قرية عربية تقريباً . فبعض القرى التي زارتها اللجنة عملت في الواقع إما على بناء مدارس خاصة باشتراكات اختيارية صرفة قام بها الفلاحون أو المساهمة من تلقاء نفسها في تكاليف تلك المدارس على قياس واسع " .
وبالرغم من ذلك شهدت فلسطين حركة تعليمية وخصوصاً في المدن , فكان هناك ما يسمى الكتاتيب وهي المدارس أهلية غالباً تهتم بتدريس الصغار مبادئ الكتابة والقراءة وتحفيظه القرآن الكريم , أيضاً وجدت مدارس خاصة بالكبار منها ما هو حكومي ومنها ما هو خاص وكانت المدارس الخصوصية أكثر استيعاباً للتلاميذ وأكثر تطوراً في مناهجها , وأنقسم نظام التعليم إلى مرحلتين : ابتدائية ومدتها سبع سنوات ويقبل في صفها الأول الابتدائي الطلاب الذين تراوح أعمارهم بين السادسة والسابعة , ومرحلة ثانوية مدتها أربع سنوات .
بلغ عدد المدارس الرسمية الابتدائية الكاملة التي تتألف من سبع سنوات دراسية في العام الدراسي 1945-1946 مدرسة ضمن 2.503 طلاب في الصف السابع الابتدائي, وفي عام 1946-1947 كان في فلسطين أربع مدارس ذات صفوف ثانوية كاملة, ثم بلغت 12 مدرسة في عام 1947-1948 , كما كان هناك نحو ثماني مدارس ثانوية للصبيان والبنات لم تكتمل فيها سنوات الدراسة الثانوية .


جدول (1)
نتائج امتحانات شهادة المتريكيوليشن عامي 1945-1946

امتحان عام 1945
عدد الطلاب
الناجحون
% الحاصلون على شهادة الدراسة الثانوية
% مجموع الذين حصلوا على الشهادات
%
الطلبة العرب 215 129 60 56 26 185 86
الطلبة اليهود 140 42 30 45 32 87 62
المجموع 355 171 101 272
امتحان عام 1946 الطلبة العرب 249 119 48 99 39 218 87
الطلبة اليهود 114 46 40 42 37 88 77
المجموع 363 165 141 306
المصدر: حكومة فلسطين, مديرية التعليم, التعليم في فلسطين, مسح عام 1936–1946 , نقلا عن مركز المعلومات الوطني الفلسطيني.

المطلب الثاني : المجتمع الريفي Rural Society
كبقية المجتمعات العربية والاسلامية آنذاك كان المجتمع الفلسطيني في غالبيته مجتمعاً فلاحياً , ووصف المجتمع ما بأنه فلاحي يعني أن غالبية سكان يشتغلون بالفلاحة وبالتالي هم من الفلاحين , فقد شكل الفلاحون في فلسطين أكثر من 70 % من إجمالي عدد السكان . إلا أن القول بأن المجتمع الفلسطيني مجتمع فلاحي لا يعني بأن هذه النسبة من السكان كانت كلها مالكة للأرض و فقله كانت تملك الأرض والغالبية كانت من الفلاحين الذين يشتغلون بأرض غيرهم أو يملكون قطع أرضية بالكاد تؤمن لهم المسكن وبعض الفلاحة البسيطة وكانوا يتعرضون دوما للاضطهاد والتضييق من قبل جباة الضرائب أو من قبل الإقطاعيين حتى يضطرون لبيع أرضيهم ومن ثم من قبل الحركة الصهيونية التي وظفت كل الحيل وأساليب الخداع والتضليل للاستيلاء على أراضي الفلاحين.
وبالعودة للوثائق والدراسات المتعلقة بتلك الفترة نجد أن عدداً قليلاً من الإقطاعيين والأعيان وخصوصاً من سكان المدن كانت تحتكر ملكية الأراضي في فلسطين ,وقد لعب نظام الطابو الذي صدر عام 1861 والذي ينص على ضرورة تسجيل الأراضي وكذلك نظام الضرائب الذي ترتب عليه في التضييق على الفلاحين الذين لم يستطيعوا تسديد الضرائب أو تخوفوا من تسجيل أراضيهم بأسمائهم وبالتالي اضطروا لتسجيلها بأسماء شيوخ القرية والأعيان أو تفويتها للأوقاف ليضمنوا العمل بالأرض دون دفع الضرائب و إلا أن هذه المحاولات الساذجة من الفلاحين انقلبت عليهم حيث أصبح أعيان المدن وكبار الإقطاعيين هم المسيطرون على الأرض وأصحاب النفوذ الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في الريف الفلسطيني .

أنواع الأراضي في العهد العثماني:
أسوة ببقية ولايات الإمبراطورية العثمانية فقد قسمت أراضي فلسطين إلى خمس أقسام:
أ‌- الأراضي المملوكة:
وهي الراضي المملوكة ملكية خاصة والتي يتصرف بها صاحبه كيف شاء كما يتصرف بالمنقولات فله رقبتها وكافة حقوقها كالرهن والبيع والوصاية والميراث.

ب‌- الأراضي المملوكة:
وهي الأراضي التي تعود ملكيتها لبيت المال وتشمل الأراضي الزراعية والمراعي والغابات الخ , وكان يمكن للفلاحين الاستفادة من تلك الأراضي بإذن وتفويض من مأمور من قبل الدولة أي أن الدولة أصبحت الجهة الوحيدة المخولة بتحديد التصرف بهذه الأراضي فتبيع منها ما تريد بموجب سند طابو , وبين قانون الأراضي كيفية التصرف بالأراضي الأميرية
ج- الأراضي الموقوفة:
وهي أراضي توقفها الدولة لاعتبارات دينية حيث يعود ريعها لمساعدة المعوزين وللمنفعة العامة , أيضا الأراضي التي خصصها بعض الأغنياء او الأراضي التي أوقفها بعض الفلاحين وخاصة بعد صدور التنظيمات للتهرب من دفع الضرائب والرسوم كما بينا سابقاً .
إلا أنه مع تدهور الأوضاع السياسية بشكل عام فقد تسلم غدارة الأوقاف أشخاص غير مؤهلين لذلك قاموا بتحويل أملاك الأوقاف إلى أملاك خاصة وتسجيلها في سجلات التمليك ملكاً لهم ثم انقلبت لورثتهم وذلك بتواطؤ مع دائرة الأوقاف.
د- الأراضي المتروكة:
وهي الراضي التي ترك حق الانتفاع بها لعامة الناس أو لأهالي قرية أو مجموعة قرى وقصبات تكون مشتركة فيها وقسمت الراضي المتروكة وفق قانون الراضي العثماني إلى قسمين :
1- الأراضي المتروكة لعامة الناس كالطرق والأسواق العامة والساحات والمسطحات المائية من بحار وبحيرات وعيون ومجاري سيول الأودية وغير ذلك مما ترك لاستخدامات الناس .
2- الأراضي التي تركت لأهالي قرية أو قصبة أو التي تركت لأهالي عدة قرى وقصبات كالمراعي والبيادر والمحتطبات والمشار.
هـ- الأراضي الموات:
وهي الراضي الخالية والبعيد عن العمران وليست بتصرف أحد والتي لم تترك ولم تخصص لأهالي القرى والقصبات كما أنها لم تكن بتصرف أحد بالطابو كالجبال وتبعد عن أقصى العمران مسافة ميل ونصف الميل أو نصف ساعة سيرا على الأقدام بحيث لا يسمع فيها صيحة الرجل الجهير الصوت.
وقد طبق قانون الأراضي العثماني الشرع الإسلامي بهذا الخصوص فسمح بإحياء هذه الأراضي من قبل الناس على أن يكون إحياؤها في مدة لا تزيد عن ثلاث سنوات مع دفع بدل الطابو وإذا لم يستصلحها خلال هذه المدة تؤخذ منه وتعطي لشخص آخر.

جدول(2)
توزيع الأراضي في مختلف أنحاء فلسطين على فئات الملاك عام1909م
المنطقة عدد الملاك مساحة ملكيتهم بالدونم معدل المساحة
القدس والخليل 26 240.000 9.231
يافا 45 162.000 3.600
نابلس وطولكرم 5 121.000 24.200
جنين 6 114.000 19.000
حيفا 15 141.00 19.400
الناصرة 8 123.000 15.375
عكا 5 157.000 31.410
طبريا 6 73.000 12.176
المجموع 118 1.131.00 9.750
ويتبين من هذه الإحصائيات أن عددا قليلا من الملاك 116 مالك كانوا يملكون 1,13,00 دونما وذلك بمعدل 9750 دونم للمالك الواحد أما في قضاء غزة وبئر السبع فكان هناك 28 ملاكا يملكون أكثر من مليوني دونم وكان 11 ملاكا منهم يملك كل واحد أكثر من 100 ألف دونم وتتراوح ملكية سبعة ملاك منهم ما بين 30.000-100.000 دونم أما الأسر الفلسطينية الإقطاعية التي كانت تمتلك مساحات واسعة من الأراضي فكان أشهرها سبعة عائلات امتلكت 270.000 دونم وهي :


جدول (3)
اسم العائلة موقع الأرض مساحة ملكيتهم بالدونم
الحسيني القدس واريحا 50.000
عبد الهادي نابلس وجنين 60.000
التاجي الفروقي الرملة 50.000
الطيان يافا 40.000
أبو خضرة يافا وغزة 30.000
الشوا غزة 100.000
الغصين الرملة 40.000
جدول (4)
بين توزيع الأراضي حسب نوع الملكية
المالك وطبيعة الأراضي المساحة بالدونم النسبة
أراضي مسجلة باسم الدولة ( أميرية) 12.000.000 42.9%
أراضي مسجلة باسم الملاك العرب 13.673.032 52%
أراضي مسجلة باسم اليهود 650.000 2.5%
أنهار وبحيرات 704.000 6.2%
المجموع 27.127.032 100%

ملكية الأراضي في عهد الانتداب البريطاني 1917-1948 :
مع وقوع فلسطين تحت الحكم الانتداب البريطاني بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى (1914-1918) تم تشكيل إدارة عسكرية في البلاد قامت باتخاذ عدة قرارات لها علاقة بملكية الأرض , ومنها وقف جميع معملات ملكية الأراضي الميرية الخاصة وإغلاق دوائر تسجيل الأراضي ( الطابو) وتعيين لجنة للأراضي يمثل فيها أعضاء من البعثة الصهيونية لمعالجة المسائل المتعلقة بتملك الأراضي في فلسطين وذلك تمهيداً لتطبيق وعد بلفور . وقد تمكن اليهود بالفعل من شراء بعض الأراضي وخصوصاً في فترة ولاية المندوب البريطاني هربرت صموئيل الذي اصدر قوانين جديدة لتسهيل انتقال الأراضي لليهود وهو المر الذي استمر طوال فترة الانتداب. ففي عام 1943 بلغت مساحة الراضي الدولة 1.542.680 دونما كانت موزعة على النحو التالي .
جدول (5)
توزيع الأراضي في فلسطين عام 1943
النوع - الصنف المساحة بالدونم
1- الأراضي التي تستخدم للاغراض العمومية مثل الطرق واسكك الحديدة والغايات 839.553
2- الأراضي التي يشغلها المزارعون العرب منذ صدور القانون العثماني 172.691
3- الأراضي المؤجرة لليهود لفترة طويلة 175.088
4- الأراضي المؤجرة إلى اليهود لفترة طويلة 2.433
5- الأراضي المؤجرة إلى العرب لفترة طويلة 1.222
6- الأراضي المؤجرة إلى العرب لفترة أقل من 3 سنوات 62.522
7- الأراضي التي ليست بيد العرب أو اليهود 3.249
8- الأراضي المقدمة للإيجار لفترة قصيرة 20.082
9- الأراضي الموضوعة للاستخ\ام العمومي 4.713
10- الأراضي غير المزروعة كالرمال والصخور والمستنقعات 167.429
11- الأراضي غير المشغولة 84.699
المجموع 1.542.680


المطلب الثالث : المجتمع البدوي : Society Nomad
البدو هم سكان البادية والبداوة عكس الحضارة وتختلف عن المجتمع الفلاحي , فالمجتمع البدوي هم السكان الذين يسكنون خارج المدن وعلى أطراف التجمعات الفلاحية ومهنتهم الغالبة هي الرعي ويعتاشون من تربية المواشي والإبل والغنام مع بعض الزراعات البسطة , ويسكنون الخيام , وتتميز حياتهم بالتنقل والترحال بحثاً عن الكلأ ومصادر المياه ز ومن المعروف بان غالبية المجتمعات مرت بمرحلة البداوة قبل أن تتحضر . يرى ابن خلدون أن أصل الحضر والمدن هم البدو والبداوة , وأول أشكال المجتمع كانت بدوية:
" فقد تبين أن أجيال البدو والحضر طبيعة لا بد منها ". فالبدو أصل المدن والحضر وسابق عليها لن أول مطالب الإنسان الضروري, ولا ينتهي "إلى الكمال والترف إلا إذا كان الضروري حاصلا, فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة
فأول اجتماع بشري حدث عند البدو " إنما هو للتعاون على تحصيله ( المعاش) والابتداء بما هو ضروري منه وبيط قبل الحاجي والكمالي , فمنهم من يستعمل الفلح من الغراسة والزراعة , ومنهم من ينتحل القيام على الحيوان من الغنم والبقر والمعز والنحل والدودي لنتاجها واستخراج فضلاتها ... وكان حينئذ اجتماعهم وتعاونهم في حاجاتهم ومعاشهم وعمرانهم من القوت والكن والدفاءة إنما هو المقدار الذي يحفظ الحياة ويحصل بلغة العيش من غير مزيد عليه للعجز عما وراء ذلك ".
ثم تتبدل أحوال هؤلاء بتغير حاجاتهم وتزايدهم , فتلبية الضرورات الأولى يدفعهم إلى البحث عن مزيد من الرفة والكماليات " واستكثروا من الأقوات والملابس والتأنق فيها وتوسعه البيوت واختطاط المدن والأمصار للتحضر . ثم تزيد أحوال الرفه والدعة فتجئ عوائد الترف البالغة مبالغها في التأنق في علاج القوت واستجادة المطابخ وانتقاء الملابس الفاخرة في أنواعها من الحرير والديباج وغير ذلك ومعالاة البيوت والصروح وأحكام وضعها في تنجيدها والانتهاء في الصنائع في الخروج من القوة على الفعل إلى غاياتها , فيتخذون القصور والمنازل ... وهؤلاء هم الحضر , معناه الحاضرون , اهل المطار والبلدان ".
وسسيولوجيا يتميز المجتمع البدوي بانه مجتمع تقليدي ومحافظ في لباسه ومالكه وعاداته وتقاليده , والتقسيم الطبقي فيه ضعيف ويحل محله التقسيم القبلي ونظام القرابه , حيث ينقسم لعدة قبائل وكل قبيلة عدة عشائي وكل عشيرة عدة حمائل وهذه تنقسم إلى أسر , وتتميز الأسرة البدوية بانها أسرة ممتدة كما هو الحال بالمجتمع الفلاحي عكس األسرة في المجتمع الحضري فغالباً هي أسرة نووية . هذه التركيبة السيولوجية جعلت في المجتمع البدوي مجتمعاً عصبوياً أي تسود فيه العصبية القبلية التي تقوم على مبدأ النصر أخاك ظالما أو مظلوماً وعلى الأخذ بالثأر . أيضا يمتاز المجتمع البدوي بنظامه القضائي الخاص به وهو ما يسمى بالقضاء العشائري .
لم يشذ المجتمع البدوي الفلسطيني عن التوصيف السابق للمجتمع البدوي عموماً والعربي على وجه الخصوص , وتعتبر منطقة النقب ومنطقة نهر الأردن أهم تجمعات البدو , وفي كثير من الحالات تتداخل القبائل البدوية في فلسطين مع قبائل الأردن ومصر وقبل الانتداب البريطاني لم تكن هذه القبائل تعرف حدوداً أو جوازات سفر فترحل من مكان لخر بين دول الجوار.
أهم القبائل البدوية في فلسطين ومنازلها قبل 1948:
1- بدو النقب:
يشكل النقب ما يقارب نصف مساحة فلسطين حيث تبلغ مساحتها 12577كم2 وقدر عدد سكانه من البدو في أواخر فترة الانتداب البريطاني بنحو 92 ألف سنة ينتمون على قبائل " صفوف " كبرى هي :
الترابين – التياها – العزازمة – الجبارات – وقبائل أخرى اقل عدداً منها:
الحناجرة – السعيديون – الحيوات.
2- بدو برية القدس والخليل :
برية القد\س والخليل هي الأراضي الواقعة إلى الشرق من جبال القدس والخليل والممتدة حتى البحر الميت شرقاً . وبلغ عدد سكانها من البدو المستقرين والمتنقلين في عام 1945 زهاء 9000 نسمة , منهم سبعة آلاف في برية القدس وألفان في برية الخليل .
3- السعيديون:
تقع منازلهم في شمال وادي العربة , وهم فرع من قبيلة الحويطات التي تقطن شرقي الأردن.
4- الحيوات:
معظم أملاك القبيلة في سيناء , وتمتد منازلهم إلى القسم الجنوبي من وادي العربة المتاخم للعقبة , ويقال لهم " الأحيوات " نسبة إلى "الحوي" الذي قيل إنهم أول من أكله في سيناء فسموا به والحوى : نبت ؤبيعي بأكله البدو زهراً وورقاً . ومن عشائرهم التي تسكن فلسطين , الخلايفة .
هذا , وقد نزح القسم الأكبر من سكان قضاء بئر السبع إلى قطاع غزة والأردن , وفي عام 1954 قام اليهود بإحصاء البدو الضاربين خيامهم في قضاء بئر السبع فكان عددهم حوالي اثني عشر ألف نسمة , ينتمون إلى تسع عشرة عشيرة , مع أن عشائر بئر السبع بلغت حوالي ثمانين عشيرة , ومن بقي ذكر الإحصاء منهم : أبو رفيق , من القديرات تياها , وعشيرة أبي ربيعة من الظلام تياها , وعشيرة الهزيل من الحكوك تياها وذكرت إحصائية سنة 1966 م إن عدد البدو في فلسطين المحتلة سنة 1948 م بلغ 22 ألف نسمة , بينهم خمسة عشر ألفاً في منطقة النقب.
القبائل العربية في شمال فلسطين والغور ونواحي أخرى غير النقب:
" القبائل العربية في شمال فلسطين وشرقها ووسطها لم يذكروا لها فروعاً وأفخاذا , وتصاف عادة إلى المكتن الذي نزلت فيه , أو إلى المهنة التي كانت تعمل فيها , وكل تجمع من هؤلاء يقال له "عرب" فيقولون : عرب السواحرة , أو عرب العلاقمة .... الخ ويريدون بقولهم "عرب كذا " أن هؤلاء الناس ليسوا من المدينة أو القرية , وقد يسكنون في خيام , او بيوت ليست دائمة , وقد ينتقلون من مكان على اخر و ويسكنون في أطراف المدن والقرى , على ضفاف الأنهار والوديان والمستنقعات,وفي الوقت نفسه يكون تجمعاً مبنياً على النسب والقرابة غالباً , هذه الميزات جعلتهم يطلقون عليهم اسم " العرب " ويريدون بذلك " البدو الرحل " وليس معنى ذلك إن هؤلاء هم العرب فقط , وغيرهم من أهل القرى والمدن من العجم , بل جميع أهل فلسطين من العرب بلا شك.
وقد يطلقون على أهل البادية والقبائل الطارئة على الريف اسم " العريان " أيضاً . وقد أخذت القبائل العربية المتنقلة اسم العرب أو العربان منذ القرن السادس أو السابع الهجريين لتمييزهم عن العرب الذين تبلدوا أو تحضروا واستقروا , أو نزلوا الحواضر والقرى , حيث ورد ذكر اسم " العرب " مراداً به أهل البادية في مذكرات أسامة ين منقذ التي سماها " الاعتبار " وتوفى أسامة بن منقذ سنة 584 هـ , وهو أمير عربي من بني منقذ من كنانة" .


المبحث الثاني
التداعيات النفسية والاجتماعية للنكبة على المجتمع الفلسطيني
لم تكن النكبة مجرد هزيمة عسكرية أو سياسية , ولم تكن مجرد جولة من الجولات التي خاضها الشعب العربي والفلسطيني ضد الاستعمار , أو التي تخوضها الشعوب المقهورة ضد مستغليها وقاهريها , بل كانت حدثاً فريداً من نوعه , استهدف اجتثاث الكيان الفلسطيني من جذوره , كشعب و هوية وانتماء بالإضافة إلى شطب اسم شعب فلسطين من على خارطة العالم وإحلال اسم " دولة " جديدة مصطنعة محله بالإضافة إلى تداعياتها المدمرة على المجتمع الفلسطيني كوحدة جغرافية وديمغرافية ونفسية .
المطلب الأول : التداعيات النفسية :
أن يقتلع مجتمع من أرضه أو يخضع للاحتلال فهذا معناه زعزعة وتشوية القيم وأنماط السلوك والعادات و وهذا ما يجعل ثقافة المجتمع عاجزة عن القيام بدورها الضابط والمحدد لسلوك المجتمع , فهناك علاقة وثيقة بين قيم المجتمع وعاداته وأعرافه وترابيته الاجتماعية من جانب والأرض التي عاش فيها على مر الأجيال , الأرض والوطن يمنحان الإنسان قيمة وثقة بالنفس لا يجدها في أي موطن غير موطنه . وإن ينتزع حوالي 850 ألف مواطن من أرضهم ويتحول الباقون لقلية في وطنهم وتحت الاحتلال فهذا معناه ان المجتمع الفلسطيني لم يعد هو المجتمع الفلسطيني .
بفعل النكبة أصبح الفلسطينيون شعباً تائهاً مشرداً , يعاني الأمرين في معسكرات للتجمع تتناثر في الأقطار العربية و فاقداً وعيه وفكره , يعيش في ذهول بسبب الحركة السريعة التي تطورت بها الأحداث من حوله .
كان واقع النزوح واللجوء قاسياً رهيباً زعزع أسس المجتمع الفلسطيني وأحدث اضطراباً في قيمة ومعتقداته و وكانت الضربة قاسية على النفس , جارحة للاحساس , أن يتحول الإنسان فجأة من مواطن كريم في وطنه إلى لاجئ يعامل كمواطن من درجة ثانية شيء لا يطاق . لقد تحول الشعب الفلسطيني بفعل النكبة إلى شعب مفكك البنية الاجتماعية , فاقد لعملية التفاعل والتواصل الاجتماعي بين أفراده وطبقاته , هذه العملية التي تشكل الأساس الضروري في تشكيل القاعدة التي تنبع منها القيم والأفكار والمبادئ وعلى أرضيتها تصاغ أسس التعامل وأهداف المستقبل.
في أرض الغربة أصبحت مهمة غالبية الفلسطينية البحث عن لقمة العيش وما يسدون به رمقهم في المنفى عاش اللاجئون في ظروف تنظر إليهم فيها الحكومات العربية كحمل تقيل , ومصيبة نكراء وقعت عليهم وعلى حد قول الشاعر الفلسطيني محمود درويش " منذ أن ألقت حراب الاحتلال الإسرائيلي بالفلسطيني " ضيفاً" على إخوته العرب – هكذا سموا اللاجئ في البداية – قدموا له كل الوعود التي لا تتحقق وظل مطارداً بما هو أكثر من التمييز , كان موسوعاً بالعار , أنه متهم ومطارد ومشار إليه أنه لاجئ , أنه التائة الجديد " فكيف يمكن للإنسان دون مأوى ودون أمل ودون مستقبل , جائع عار , مطارد , أن يفكر نشئ غير لقمة العيش؟
كانت هموم الفلسطيني " التائه " متواضعة محدودة في نظر الإنسان العادي لا تتعدى تأمين المأوى ولقمة العيش ورد المهانة , ولكنها بالنسبة للفلسطيني و كانت بمثابة رحلة طويلة مع العذاب والمعاناة , فلا الأقطار العربية كانت مهيأ لاستقبال اللاجئين الفلسطينيين ولا الأمم المتحدة مهتمة جدياً بهذه القضية و بالإضافة إلى غياب القيادة الفلسطينية المسئولة وسياسياً فرض واقع الغربة والتشرد على من كان نشيطاً سياسياً من الفلسطينيين , أن يعيش حيلة اللجوء السياسي التي تحيل الحياة إلى معاناة وقلق رهيب , كفيلة بتشوية أحاسيس كل مناضل يحترم نفسه , وتدمير إيمانه بالغد وتشويه نظرته إلى الوجود .
وكانت المعاناة أكثر وطأة وقسوة , عندما كانت أصابع الاتهام تشير على الفلسطيني بانه مسئول عن نكيته و وبأنه باع أرضه لليهود !! وقد حاولت بعض الأنظمة العربيةزرع مثل هذا الوهم عند جماهيرها لتسقط عن نفسها عن نفسها مسؤولية ما حدث , ومارست على الإنسان الفلسطيني كل أنواع القهر والاضطهاد , وقتلت كل بارقة أمل أمامهم , وجعلتهم مجرد أرقام في سجلات المخابرات ومكاتب وكالة غوث اللاجئين . ومما زاد الأمور تعقيداً بالنسبة للفلسطيني , أنه فقد كل مؤسساته الاجتماعية والسياسية التي كانت تنظم حياته , وتقود مسيرته النضالية , فلم يحمل منها معه إلا إطاراً شكلياً " الهيئة العربية العليا " وحتى هذه أفرغتها الحكومات العربية من محتواها بالرغم من أنها صنعتها , فالحظة كانت محكمة ... ومن ساهم في ضياع فلسطين تواطؤاًاو اتخاذلا أو جهلاً , فإنه لن يسمح بوجود أي شكل من أشكال التمثيل الفلسطيني , تبقى على القضية الفلسطينية صفة الحياة والديموية و حتى الجزء الباقي من فلسطين بعد الاحتلال والضم – قطاع غزة – رفضوا أن يكون موطناً لحومة فلسطينية أو أن يجسد رمزاً للكيان الفلسطيني , الفلسطيني كانت تهمة وكلمة فلسطين كانت تشكل عند البعض استفزازاً ولو كان المقصود منها التعريف بالهوية .
ضمن هذه الظروف والأوضاع تشكلت نفسية الإنسان الفلسطيني "لاجئ" ابغض كلمة في قاموس اللغة العربية على قلب الإنسان الفلسطيني, بما أضحت توحي به من معاني القهر والسحق والإذلال , نفسية تفشت فيها روح إتكالية , أفقدت الفلسطيني الرغبة في عمل أي شيء وفقد الأمل في تحقيق أي شيء , وتفشت اللامبالاة , التي جعلت الفلسطيني رقماً مهمشاً في مجريات الأحداث , وكأن ما يجري حوله لا يعنيه , فقد الثقة بنفسه وبمن حوله , وأصبح يعيش حالة من الإحساس بفقدان الأمان المستمر والدائم , والذي عززته حالة التسلط التي مارستها عليه بعض الأنظمة ومعاملته كمواطن من درجة ثانية , الأمر الذي ولد لديه عقدة الاضطهاد.
وضمن هذا الجو المحيط لكل شيء غرق الفلسطيني في متاهات الشك , فأصبح يشك في كل شيء , وهي حالة نفسية من الصعب على الفرد أن يكون قناعة تامة وثابتة حول أية أيديولوجية , أو فكر أو موقف , والكفيلة بتدمير كثير من القيم التي تربى عليها , وفي الوقت نفسه تجعل من الصعب عليه فرز قيم جديدة وقناعات جديدة , ويبقى موقفه سلبياً يتابع الأخبار والأحداث التي يصنعها أو يصنعها له غيره .
إلا ان كل هذا لا يعني الوقوف أمام طريق مسدود , خصوصاً أن الفلسطيني لم ينته تماماً , فحالة القهر والتشرد التي عاشها الفلسطينيون بفعل النكبة , لم تخمد تماماً نار الوطنية التي بقيت مشتعلة في صدورهم , فالجوع والإرهاب إن لم يقضيا على الإنسان فأنهما يصنعان منه إنساناً جديداً صلباً ومتمرداً . وهكذا التفت الفلسطينيون حولهم يبحثون عن طريق يضعون فيه أقدامهم , ونجاً يعتقدون أنه موصلهم للهدف , ونظراً لعدم امتلاكهم وسائلهم الخاصة , بل حتى صعوبة الاختيار لديهم , فإنهم امتدوا بأنظارهم نحو الحركة السياسية العربية , يستقرئون اتجاهاتها ويستشرفون الأقرب إليهم في توجهاتهم نحو فلسطين .
كانت الحركة القومية العربية بالنسبة للفلسطينيين هي المنفذ الوحيد أمامهم في هذه المرحلة لخروجهم من حالة الحصار , إلى حالة الاسهام في المعركة الجارية على الأرض العربية لخلق الوحدة العربية , لأن الوحدة في المفهوم الفلسطيني تعني القوة , هي سبيلهم للعودة على ديارهم . هكذا في ظل غياب البديل توزيع الفلسطينيون على كافة الولاءات الحزبية القومية و الموجودة في الساحة , وفي كثير من الأحيان كان الولاء على حساب فلسطينيتهم , ولكن أيضاً شعوراً منهم بأن القومية العربية , والوحدة العربية هما التعويض عن فدانهم الوطن والكيان وما ساعدهم في ذلك عيشهم في مخيمات وسط هذه المجتمعات العربية .
وهكذا ناضل الفلسطينيون سياسياً تحت شعارات قومية عربية واعتبروا أنفسهم جزءاً من المجتمع العربي الكبير , ساعد اللجوء وكونهم ضيوفاً – غير مرحب بهم – في البلاد العربية على توهم البعض منهم بأن مشكلتهم وقضاياهم الاجتماعية جزء لا يتجزأ من مشاكل وقضايا المجتمع العربي . وأن إعطاء الأولوية لحل قضايا المجتمع العربي هو المدخل الصحيح للتفرغ لحل قضايا المجتمع الفلسطيني . ومن هذا المنطق كان موقف غالبية الفلسطينيين من الوحدة متطابقاً مع موقف الأحزاب القومية المنتمين إليها وهو ( الوحدة طريق التحرير ) , ولم يحاولوا أن يبلوروا لأنفسهم موقفاً مميزاً داخل أحزابهم القومية , إلا في نهاية الخمسينيات وبداية الستينات مع بروز الدعوة للكيان الفلسطيني وإحياء الشخصية الوطنية الفلسطيني , حيث نظم الفلسطينيون أنفسهم في إطارات خاصة بهم بلوروا رؤيتهم المستقلة للمستجدات الحاصلة في الساحة الفلسطينية , ولكن ضمن إطار الشعارات القومية العربية والتزاماً بمنهجية ( الوحدة طريق التحرير) .
إذا طوال الخمسينات وحتى منتصف الستينات ربط الفلسطينيون مصيرهم بمصير الأنظمة والأحزاب العربية , ما دامت هذه تسعى للوحدة التي تعني ( خلف الكماشة التي ستخنق إسرائيل ) , وتحشد جيش الوحدة العربية للمعركة الفاصلة معها !, وكان هذا أقصى ما يتمناه الفلسطينيون . إلا أن الالتزام الفلسطيني بالوحدة العربية , ورفعهم شعار الوحدة على غيره من الشعارات ة, وتجاوبهم مع القضايا العربية ومشاركتهم في معارك البناء والتنمية العربية , كان مرتبطاً بإعطاء الأحزاب القومية الأولوية للقضية الفلسطينية , وتقديمها على غيرها من القضايا , وهو الأمر الذي تجاوزته الأحزاب والحركات القومية العربية بفعل التطورات الاجتماعية والسياسية الجارية في الوطن العربي , وبفعل تغلغل الأفكار اليسارية ذات المضامين الاجتماعية إلى معاقل الفكر القومي , وبفعل ترسخ وتعزز الاتجاهات الإقليمية المتسربلة بلبوس القومية والوحدة .
إذن اقترن تراجع مركزية القضية الفلسطينية في اهتمامات الحركة القومية العربية مع انحسار الحركة القومية العربية عموماً وتراجع مواقعها , إلا أن الحدث الأهم هو الوعي الكياني الفلسطيني وظهور الثورة الفلسطينية التي طرحت تصورها الخاص سواء منهجية حل الصراع او للشكل الذي سيأخذه هذا الحل وكان شعارها المميز " التحرير طريق الوحدة " . بما يتضمنه هذا الشعار من إعطاء الأولوية للقضايا المجتمعية والسياسية الوطنية الفلسطينية على غيرها من القضايا.

المطلب الثاني : التداعيات الاجتماعية للنكبة على وحدة وتواصل المجتمع:
بالإضافة إلى هذه التداعيات النفسية والسياسية فقد خلقت النكبة وضعاً اجتماعياً جديداً , فحولت المجتمع الفلسطيني إلى مجتمعات متناثرة (تجمعات ) يخضع كل منها لظروف سياسية واجتماعية وقانونية مغايرة للأخر . فقبل النكبة وبالرغم من ظروف الاحتلال كان المجتمع الفلسطيني أسوة ببقية المجتمعات العربية يعرف درجة من الانسجام والاستقرار المجتمعي والانقسامات التي كانت فيه هي انقسامات اجتماعية وتوزع في المنافي وفي بقى في الوطن خضع قسريا لنظم سياسية أثرت بشكل أو أخر على خصوصيته الاجتماعية والثقافية , نعم حافظ المجتمع على هويته الوطنية وقاتل من أجل ذلك إلا أنه كان للغربة ثمنها .
وهكذا أدت النكبة إلى وجود تجمعات فلسطينية متعددة يقوم كل منها حسب ظروفه الخاصة للحفاظ على قيم وعادات وخصائص المجتمع الفلسطيني الأصيل والمجتمعات ( التجمعات ) الفلسطينية التي وجدت بعد النكبة مباشرة هي :

أولاً : المجتمع الفلسطيني داخل الخط الأخضر:
وهو الفلسطينيون الذين بقوا متمسكين بأرضيهم ولم تتمكن القوات الصهيونية من إخراجهم من مدنهم وقراهم في الوطن السليب, وهؤلاء هو الذين يطلق عليهم ( عرب إسرائيل ) أو فلسطينيو 48 الفلسطينيون داخل الخط الخضر وتعتبرهم إسرائيل أقلية عربية. كان مجموع الفلسطينين قبل عام 1948 حوالي 1.200.000 فلسطيني يعيشو في حدود فلسطين الانتدابية وقد تم تهجير حوالي 850000 وبقي 150000 في المناطق التي أعلن عليها قيام الدولة العبرية وهؤلاء شكلوا ما يقرب من 18% من السكان آنذاك ويقدر عدد هؤلاء اليوم بما ينيف عن مليون فلسطيني ويتمركزون في المنطقة الشمالية ( الجليل ) ويشكلون 50% من سكان المنطقة ,18% يعيشون في حيفا ويشكلون 22% من السكان ( مدن مختلطة), و12% يعيشون في منطقة الجنوب (النقب ويشكلون 13% من السكان ).
فمنذ 1948 وحتى عام 1966 فرضت إسرائيل على الفلسطينيين نظام الحكم العسكري على عزل الأقلية العربية عن أي نشاط اقتصادي , اجتماعي , سياسي ... إلخ .
وتعتبروثيقة ( كنج) مثالا واضحاً على الميز العنصري الذي فرض على الفلسطينيين وكنج , ويطرح فيها اقتراحات لقمع الجماهير العربية وترويضها عبر سياسة عنصرية ومن أهم بنود هذه الوثيقة , الدعوة لمصادرة الأراضي العربية وإغلاق أبواب المعاهد العليا والجامعات الإسرائيلية أمام الطلاب العرب , وذلك بهدف تحويلهم إلى حطابين وسقاة ماء حسب أقواله , واعتبر العرب في إسرائيل قنبلة ديمغرافية , تشكل خطراً أمنياً على الدولة . ولن إسرائيل تركز على الأرض تطبيقاً لسياستها ارض أكثر وسكان عرب أقل , فقد مارست ميزا عنصرياً بهذا العنصر الخصوص , مثلاً فبالرغم من أن الفلسطينيين يشكلون حوالي 20% من مواطني الدولة , إلا أنهم يملكون 3% ملكية خاصة من الأرض , كما أن مناطق نفوذ السلطات العربية حوالي 2.5 من مساحة الدولة , حوالي نصف الأراضي التي كانت ملكية للعرب الذين بقوا في حدود الدولة عام 1948 صودرت منذ ذلك الحين بقرارات من الدولة , ومنذ قيام إسرائيل لم يسمح للعرب بإقامة تجمعات سكانية جديدة فيما كان اليهود يمارسون حريتهم بالسكن والتنقل والاستيطان في أية منطقية , بالإضافة إلى أنه لا تزال عشرات التجمعات السكانية العربية القائمة قبل قيام الدولة غير معترف بها , والدولة تسعى لاختلائها من سكانها , وهناك حوالي 300 ألف مواطن عربي هو لاجئون في وطنهم , ويحظر عليهم العودة إلى بيوتهم التي يسكنون بعد مئات الأمتار منها .
وبالنسبة للحالة الاجتماعية , نسبة من هم تحت خط الفقر في إسرائي بشكل عام بلغت عم 2000 حوالي 17.6% وكانت نسبة الفلسطينيين منهم 42% وبلغ عدد العائلات الفلسطينية في إسرائيل التي تقع تحت الفقر 58.900 عائلة , وحسب مكتب الإحصاء الإسرائيلي لعام 1999 فأن نسبة البطالة الفلسطينية في إسرائيل فبلغت عام 1999 11.0% في حين بلغت لدى اليهود 8.5% و فيما نسبة الاشتراك في قوى العمل لدى الفلسطينيين 41.6% لدى اليهود , أيضاً متوسط دخل افرد في الشهر في مدينة مثل الناصرة التي تشمل حوالي 60.000 نسمة من الفلسطينيين يبلغ 1834.53 شيكل فيما يمثل متوسط دخل الفرد في مدينة يهودية مثل نسيرت عيليت ( الناصرة العليا ) والتي تبلغ عدد سكانها 44.000 نسمة حوالي 2464.9 شيكل . أما في مدينة مثل أم الفحم العربية في الجليل والتي يبلغ عدد سكانها 36.800 نسمة يبلغ متوسط الدخل الشهري للفرد 1153 شيكل بينما في أور يهوداً التي يبلغ عدد سكانها 27.900 نسمة من اليهود فيبلغ متوسط الفرد حوالي 2659.05 شيكل و وتنعكس تلك الفروقات في الأوضاع الاقتصادية على قطاعات التعليم والصحة بين اليهود والفلسطينيين.

وكما سبق الذكر فالمجتمع ليس مجرد تجمع لأفراد بل هو بنية أو نسق , وبالتالي فغن الاستقرار والتواصل شرط بقاء بنية مجتمعية متماسكة تبلور هوية وطنية , وتنتج ثقافة , وهذا بدوره لا يتأتى إلا باستمرار الترابط ما بين الجماعة والأرض , وتزرع الأراضي المتبقية في ملكية عرب 1948 يقوض أساس كيانيتهم وهويتهم القومية المستقلة , ويجعل مواطنتهم منقوصة حكماء , عندها ينصرف حقهم إلى حق بالإقامة دون حق بملكية الأرض , أي تحويلهم على مواطني درجة ثانية " أقرب في الحقوق توصيفاً برعايا دولة أجنبية لهم حق الإقامة الدائمة , وحتى هذا الحق محفوف بخطر الإسقاط".
وما زاد من معاناة فلسطيني الداخل هو المحاولات الحثيثة لإسرائيل لفرض الطابع اليهودي على الدولة الأمر الذي يغيب الحق بالمساواة تطبيقا لما تزعمه إسرائيل من كونها دولة ديمقراطية . وضمن سياسة فرق تسد في تعاملها مع مجتمع فلسطيني 48" أوجدت إسرائيل فرزاً خاصاً يهدف إلى تكريس مبدأ التعامل مع الفسيفساء الدينية والطائفية المكونة لهذا المجتمع كمجموعات منفصلة , فهي تقسمهم إلى عرب وهذا يشمل مسلمي ومسيحي الجليل والمثلث , ودروز وبدو وشركس , وفي إطار سياسة فرق تسد فرضت إسرائيل قانون الخدمة العسكرية الإلزامية على " الدوروز والبدو" دون غيرهم من مكونات مجتمع فلسطيني 48 , ليصبح الحديث هذا عن أقليات دينية وطائفية متفاوتة الاندماج في المجتمع الإسرائيلي , وليس عن أقلية قومية فلسطينية عربية , وأهداف هذه السياسة ضرب الوحدة الكيانية الهوية القومية المتميزة لفلسطيني48" .
كان من نتيجة عدم المساواة ما بين اليهود والعرب في كافة المجالات , بالإضافة إلى سياسة القهر والإذلال والإقصاء إضافة إلى عيش الفلسطينيين وسط أغلبية مختلفة عنهم اجتماعياً وثقافياً , أن أدى كل ذلك لفرض تحديات غير مسبوقة على المجتمع الفلسطيني في الداخل , وكان وقع هذه المستجدات على سكان المدن أكثر تأثيراً مما هو على القرى , فهذه الأخيرة حافظت نسبياً على القيم التقليدية للمجتمع الفلسطيني سواء من حيث العلاقات الاجتماعية من إحياء المناسبات الدينية والعادات والتقاليد والزواج و أو الارتباط بما تبقى من أرض .
في المقابل أدى القهر القومي الممارس على عرب الخط الأخضر لزيادة الوعي بأهمية النضال الجماعي ضد السياسات التمييزية للدولة العبرية تجاههم , وأصبحت الإشكالية الأساسية للفلسطينيين في مناطق عرب 48 هي وضعيتهم القانونية كمواطنين في دولة لا تعترف سوى بحقوق مواطنيها اليهود .., دولة قامت على أنقاض شعبهم وتمثل النقيض لطموحاتهم الجماعية وهذا التناقض في الوضعية أدى تناقض في أداء الفلسطينيين وردود أفعالهم بين رفض الدولة وبنيتها الصهيونية والمشاركة في برلمان من منطلق المطالبة بالحقوق المدنية والمساواة داخل إطار دولة لجميع المواطنين الأمر الذي شعر فرض واقع مشوه وأكثر ازدواجية مما هو عليه .
وبالرغم من اضطرار هؤلاء لحمل الجنسية الإسرائيلية والعمل في مؤسسات الدولة الصهيونية بل نجند بعضهم في الجيش الإسرائيلي , إلا أنهم بقوا بشكل عام أمناء على هويتهم الوطنية الفلسطينية ومحافظين على انتمائهم للمجتمع الفلسطيني , بل كانوا ومازالوا يشكلون مجتمعاً فلسطينياً داخل الدولة العبرية .
ثانياً : المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية والأردن:
بعد نكبة 1948 قامت إمارة شرق الأردن يضم الضفة الغربية مستغلة تواجد الجيش الأردني في الضفة الغربية بعد توقيع اتفاقيات الهدنة مع إسرائيل, وأصبحت الضفة الغربية جزءاً من الدولة الأردنية – التي أصبحت تحمل اسم المملكة الأردنية الهاشمية- خاضعة لسيادتها , وقد تزايد عدد الفلسطينيين في الأردن بعد حرب حزيران 1967. وبالرغم من ذلك كان وما زال الفلسطيني الأردن وضعاً مغايراً عن فلسطيني إسرائيل وعن بقية التجمعات الفلسطينية الأخرى , فبالرغم من حملهم للجنسية الأردنية – باستثناء أبناء قطاع غزة – واندماجهم ضمن الدولة الأردنية والمجتمع الأردني و إلا أن كونهم يمثلون الغالبية بالنسبة لعدد سكان الأردن وكونهم حملوا معهم إلى الأردن قيم وعادات ومستوى حضارياً أكثر تقدماً مما كان سائداً في الأردن , بالإضافة إلى أن المجتمع الأردني مجتمع تربطه كثير من الأواصر المشتركة بالمجتمع الفلسطيني , كل هذا ساعد على محافظة غالبية الفلسطينيين في الأردن وتحديداً في الضفة الغربية على خصوصيتهم الاجتماعية , وتكرست هذه الخصوصية الوطنية بعد فك الارتباط 1988.
نظراً لخصوصية العلاقة ما بين الفلسطينيين والاردنيين ومرورها بمراحل توتر وصراع أحياناً كما حدث كما حدث عام 1970 فقد أنشأت الحكومة الأردنية دائرة لشؤون الفلسطينيين وهي مؤسسة حكومية مستقلة كوريث لوزارة شؤون الأرض المحتلة وتعمل على تنفيذ سياسات الحكومة الأردنية وأسند لهذه المؤسسة وظيفتين أساسيتين وهما:
1- التعاون والتنسيق مع وكالة المم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى في جميع أعمالها داخل الأردن فيما يتعلق بالخدمات التي تقدمها .
2- رسم السياسات العامة لعمل الوكالة الدولية من خلال عضوية لجنتها الاستشارية ومنتدى كبار الدولة المانحة والمضيقة للانروا . وفي محاولة من الدولة الأردنية لدمج الفلسطينيين في المجتمع الأردني فأنها توفر خدمات الكهرباء والماء الخدمات الصحية , إضافة لشق الطرق وتعبيدها وتوفير شبكات الصرف الصحي والهاتف , وكما ساهمت الحكومة الأردنية بتقديم خدمات التعليم للمرحلة الثانوية والمرحلة الجامعية لأبناء اللاجئين حيث أن وكالة الغوث يقتصر تقديم الخدمات التعليمية فيها حتى نهاية المرحلة الأساسية والتي تنتهي بالصف العاشر . أيضاً أنشأت في كل مخيم لجنة محلية للإشراف على تحسين الخدمات في المخيم أطلق عليها اسم " لجنة تحسين المخيم " , ويتم تعيين رئيسها وأعضائها من قبل دائرة شؤون الفلسطينية–سنتطرق في فصل قادم على عدد وتوزيع المخيمات في الأردن.
ثالثاً: المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة:
تميز قطاع غزة عن بقية أماكن التجمع الفلسطيني بأنه حمل الهوية الفلسطينية دون تعرض لتهديد من هوية أو سيدة دولة أخرى , فبعد حرب 48 تم وضع القطاع تحت إشراف حاكم عسكري مصري دون ان يلحق القطاع إدارياً أو سيادياً بمصر , هذا الوضع مكن الفلسطينيين في القطاع من التحرك السياسي بحرية اكبر , كما أن المجتمع الفلسطيني في القطاع حافظ على خصوصيته وعاداته وتقاليده دون أي تشويه أو تهديد .
رابعاً : المجتمع الفلسطيني في الشتات:
بالرغم من عدم دقة إطلاق مصطلح مجتمع الشتات أو المغتربين على الفلسطينيين الذين يعيشون خارج وطنهم إلا أنه في الحالة الفلسطينية الوضع مختلف , حيث أن الهجرة الفلسطينية كانت جماعية وقسرية و كما أن الفلسطينيين في المهجر شكلوا تجمعات (مخيمات ) مارسوا فيها نمط وطريقة حياتهم الفلسطينية الأصيلة, كما أنه في بعض البلدان العربية يعيش الفلسطينيين بمئات الآلاف , كما هو الحال في الأردن ولبنان وسوريا , ونصف الشعب الفلسطيني تقريباً يعيش في بلا الغربة . انظر الجدول الخاص باللاجئين.
خامساً: المجتمع الفلسطيني في المخيمات:
لم يعرف الشعب الفلسطيني قبل 48 ظاهرة المخيمات , كما لم تعرفها مجتمعات أخرى غلا البعض منها ولفترات محدودة , اما في الحالة الفلسطينية فقد عاش ملايين الفلسطينيين في الخيمات منذ عام 1948 وحتى اليوم . وتتوزع هذه المخيمات ما بين الأردن والضفة وغزة وسوريا ولبنان – انظر الجدول الخاص بعدد وتوزيع المخيمات الفلسطينية -.

ويعتبر لمخيم حالة خاصة من المجتمع الفلسطيني و فالمخيم ليس قرية ولا مدينة وبالتالي سكانه ليسوا فلاحين ولا حضريين ولا بدوا , بل هم خليط من كل هؤلاء , حيث يعيش في المخيم ابن القرية وابن المدينة و مما يجعل المخيم فسيفساء تعكس كل أشكال الطيف الاجتماعي , من تعدد في اللهجات وفي اللباس وفي الصول الاجتماعية وسنتوسع في فصل قام حول الموضوع .










الفصل الثالث
المجتمع الفلسطيني وتأسيس الشخصية الفلسطينية " المستقلة"

منذ نهاية الخمسينات , وبالتحديد عام 1959 بدأت تظهر الاتجاهات الأولى لانبثاق وعي كياني سياسي عند الفلسطينيين , محورها رفض الوصاية العربية , ورفض نهج التعامل الرسمي العربي مع قضيتهم , والمتاجرة بقدسية القضية , وقطع الطريق على استمرار التعامل الدولي مع القضية كقضية لاجئين , وقد عزز هذا التيار – الذي كان خافتاً ومنبوذاً في البدء – انحسار حركة الوحدة العربية وتراجعها النسبي بعد نكسة انفصال مصر وسوريا عام 1961 وإجهاض أول تجربة حدودية ثورية في الوطن العربي وما رافقها من انقسام الوطن العربي إلى تيارات متنابذة , متناحرة , لغة التخاطب الوحيدة بينها هي الحرب الإعلامية والنفسية وأحياناً الحرب الساخنة – حرب اليمن – والحرب المغربية الجزائرية .

المبحث الأول
أسباب انبثاق الشخصية السياسية الفلسطينية
لقد أدى فشل الوحدة وتراجع زخم الاندفاعية الثورية للحركة القومية العربية وبروز أطروحات النضال الاجتماعي و والأفكار الاشتراكية عموماً و بما تعنيه من تقديم قضايا النضال الاجتماعي على قضايا الضال السياسي الوحدة المتجه على فلسطين و مثل هذا النسب للفلسطينيين خسران الرهان الذي راهنوا عليه " ووضعوا كل بيضهم في سلته" وهذا يعني تراجع المسافة التي تبعدهم عن فلسطين .
وبعد عام تقريباً من نكسة الانفصال , حقق الشعب الجزائري بثورته " الوطنية" انتصار باهراً بالحصول على الاستقلال وإرغام فرنسا على التسليم و هذا ما ساعد على اختمار الأفكار والقناعات عند الوطنيين الفلسطينيين , بإمكانية الانتصار في المعركة دون انتظار تحقيق الوحدة العربية , وأنه ليس شرطاً أن تكون الوحدة هي المدخل لمعركة فلسطين , فالمهم البدء بالمعركة وإطلاق الرصاصة الأولى على حد قول الزعيم الجزائري الراحل هواري بومدين , كانت الدعوة لاستقلالية للعمل الفلسطيني حذرة في خطواتها الأولى , فأصابع الاتهام كانت ستوصم أي اتجاه قطري بغض النظر عن مبرراته وظروفه , بالانفصال وبالعمالة والإقليمية التي كانت أبشع كلمة في القاموس السياسي العربي في الستينات , ومع ذلك فقد تصدت مجلة فلسطينينا , والتي عبرت عن وجهة نظر حركة التحرير الوطني الفلسطيني " فتح" قبل أن تظهر هذه الأخيرة للعلن , لتطرح ما يمكن تسميته انتقاداً تشكيكاً بالطرح " القومي" للقضية الفلسطينيون لتصحيح الأوضاع وردها إلى نصابها " نحن الفلسطينيون مع تحمسنا وحدبنا على تحقيق الوحدة إلا إننا ومع كل الأسف و لا نستطيع أن نفعل شيئاً في الموقف الدولي في المنطقة لعدم وجود كيان يمثلنا , ويقف على قدم المساواة مع الكيانات العربية الأخرى للمشاركة في التخطيط لتحقيق الوحدة " , وحملت (فلسطيننا) التيار القومي العربي مسؤولية ما آلت إليه القضية الفلسطينية . حيث تقول : أما معركة فلسطين التي اتخذت شكلاً قومياً من البداية لا بد أن نردها إلى مركزاتها الأساسية , وعواملها في حدودها القطرية لتضمن لها النجاح والنصر في الجولة القادمة ".
لم يقتصر أمر إحياء الشخصية الفلسطينية وتحسس الفلسطينيين بضرورة وجود دور خاص لهم وموقف مميز , على أللا حزبيين من الفلسطينيين , بل أنها اخترقت حصون التنظيمات القومية العقائدية المغلقة على أفكارها الوحدوية المعارضة لأي نهج إقليمي أو كياني لتدفع الفلسطينيين المنخرطين فيها إلى التساؤل عن دورهم الخاص في هذه المرحلة من النهوض الفلسطيني .وكان المأزق لهؤلاء الفلسطينيين ولتنظيمات التي ينتمون إليها فعقيدتهم القومية ترفض أي عمل وطني خارج إطار الحركة القومية العاملة , وترفض أساساً واقع التجزئة الذي تعتبره من مختلفات الاستعمار ويخدم أهداف القوى الطامعة في الأمة العربية , فكيف تسمح بانبثاق كيان جديد , وكيف تتعامل مع نهج جديد يعد تجاوزا لنهجها القومي الوحدوي؟
وجدت مسيرة إحياء الشخصية الفلسطينية وإبراز الكيان الفلسطيني دعماً من قبل جمال عبد الناصر , الذي طرح على جامعة الدولي العربية بحث مشروع إحياء الكيان الفلسطيني و وسبل إعداد الشعب الفلسطيني , وقد تبنت الجامعة العربية رسمياً هذا المشروع , أثر التهديدات الإسرائيلية لسوريا , ومحاولات إسرائيل لتحويل مجرى نهر الأردن بالرغم من معارضة الأردن , وطرح الموضوع رسمياً في مؤتمر القمة العربي الأول 1964. نتج عن مؤتمر القمة هذا الموافقة على إحياء القضية الفلسطينية وإبراز الكيان الفلسطيني وتحميل الفلسطينيين هذه المسؤولية . وكلف احمد الشقيري باتخاذ افجراءات اللازمة لتنفيذ الفكرة , التي تجسدت علناً بإنشاء " منظمة التحرير الفلسطينية " , والتي وضعت " ميثاقا قومياً فلسطينياً " عام 1964 , تبدل عام 1968 ليصبح ( الميثاق الوطني افلسطيني ), وذلك بعد هيمنة منظمات الكفاح المسلح ذات التوجه الوطني الاستقلالي على المنظمة
لعبت خلفية نشأة المنظمة والتداخلات العربية فيها , وطبيعة العلاقة التي تربط احمد الشقيري مع جمال عبد الناصر , في سيطرة الاتجاه الوحدوي القومي على المشاورات التي مهدت لانعقاد المجلس الوطني الفلسطيني الأول . وقد ذكر الشقيري في خطابه الافتتاحي " للمجلس الوطني الفلسطيني الأول " إن الوحدة طريق التحرير , إلا أن الشقيري وبصفته رئيسياً لمنظمة التحرير الفلسطينية للشعب الفلسطيني بكل اتجاهاته , حاول أن يوازن بين التيارات الموجودة على الساحة وخصوصاً تيار( الوحدة طريق التحرير) وتيار(التحرير طريق الوحدة).
الهزيمة العربية في 1967 في أطروحة الحرب النظامية العربية وأدت لتراجع فكر الوحدة العربية وفي نفس الوقت كانت بمثابة الشهادة بصحة منطلقات منظمات الكفاح المسلح و" حرب التحرير الشعبية " . وجاء تصاعد العمليات الفدائية في الأرض المحتلة , ومعركة المواجهة في ( الكرامة ) آذار / مارس 1968 , لتعزيز من أطروحات التيار الوطني الفلسطيني المقاتل , مما ساعد على فرض هيمنته على منظمة التحرير الفلسطينية ابتداء من 1968 وليدخل تغييراً على بعض بنود (الميثاق القومي الفلسطيني ) لتتوافق مع النهج الجديد , حيث تم التذكير في ( الميثاق الوطني الفلسطيني ) الجديد على استقلالية القرار الفلسطيني والشخصية الفلسطينية . وعند تعديل الميثاق عام 1968 جاءت بعض بنود ( الميثاق الوطني الفلسطيني ) لتعكس هذا التوازن , فالمادة الثانية عشرة نصت على أن " الوحدة العربية وتحرير فلسطين هدفان متكاملان يهيئ الواحد منها تحقيق الأخر , فالوحدة العربية تؤدي إلى تحرير فلسطين , وتحرير فلسطين يؤدي إلى الوحدة العربية , والعمل لهما يسير جنباً إلى جنب".
إلا أن الواقع أن منظمات الكفاح المسلح التي وجدت تجاوباً كبيراً من الشعب الفلسطيني وتحولت إلى ثورة فلسطينية كانت متعددة الأفكار والإيديولوجيات , وكانت تعكس كل الفسيفساء السياسية العربية , إلا أنه يمكننا التمييز بين ثلاثة تيارات في داخلها :
1- التيار القومي الوحدوي :
مثلته على الخصوص منظمة الصاعقة "وجبهة التحرير العربية", الذي مثل امتداداً لحزب البعث العربي الاشتراكي بشقية السوريوالعراقي .
2- التيار الماركس :
بالرغم من كونه مثل امتداداً " لحركة القوميين العرب" , إلا أنه أخذ طابعاً فلسطينياً خالصاً مع انتهاء " الحركة " الأم وتنبيه مبادئ جديدة تأخذ بنظرية الصراع الطبقي و وبالفكر الماركسي اللينيني , ويمثل هذا التيار على خصوص – الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.
3- التيار الوطني " المستقبل "
ومثلته حركة التحري الوطني الفلسطيني " فتح" , والتي كانت سباقة في ممارسة إستراتيجية الكفاح المسلح و وفي الدعوة لاستقلالية العمل الفلسطيني . ويبرر ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية وقائد حركة " فتح " أسباب التوجه الفلسطيني للبحث عن هوية مستقلة للفلسطينيين بالقول " إننا لم نكن على مستوى البعد الوطني الفلسطيني عملاً قومياً ملموساً ينسجم مع هذا النهوض , لقد كانت اليقظة القومية كبيرة , ولم يكن العمل من أجل فلسطين يحتل المرتبة الأولى من الأولويات القومية , وخصوصاً عندما قال عبد الناصر " الذي يقول لكم أن عنده خطة التحرير فلسطين يضحك عليكم , وهكذا فتحركنا في بداية عملنا " فتح " كان لعلمنا أنه لا يوجد عمل عربي من أجل فلسطين : أي أن المناخ الموضوعي الذي أولد الفكرة هو غياب عمل قومي حقيق لفلسطين " .
وقد أوضحت حركة " فتح الدوافع الكامنة وراء انطلاقتها في مذكرة قدمتها إلى ملوك ورؤساء الأقطار العربية في مؤتمرهم الثالث في الدار البيضاء في أيلول / سبتمبر 1968 حيث ذكرت " أن الحركة – فتح – بكل صراحة لا تنتظر أبداً أن يأتي يوم تعلن فيه الدول العربية بدء معركة التحرير , أو الحرب الحقيقية على إسرائيل , لا بسبب من ظروفها ولا بارتباطاتها الخارجية , بل سبب طبيعة الحكم والأوضاع الداخلية التي يحرص الاستعمار على إبقائها في جو من التخلخل والتضارب والعجز يجعلها تميل دائماً إلى تأجيل المعركة إلى ما لا نهاية لها "
كما أن كيفية طرح المشاكل الفلسطيني على المستوى الدولي لم يكن يتوافق مع حقيقة النزاع وجوهره , فالمسار الذي اتخذته القضية من خلال التبني الرسمي العربي لها , شوه حقيقتها , وجرفها عن طبيعتها , حيث أصبحت القضية الفلسطينية تتداول في المحافل الدولية على أساس أنها نزاع على الحدود بين القطار العربية والدولة الصهيونية – إسرائيل – صراع بين الأقطار العربية بملايين سكانها , ثوراتها الباهظة , ومساحتها الشاسعة , وبين ( شعب) صغير العدد والمساحة , مضطهد عالمياً مطارد في كل مكان !! وينشد الهدوء والاستقرار في بقعة من الأرض ( الفائضة) بالنسبة للعرب!! وبفعل الصورة السلبية للواقع العربي ( المتخلف ) و( الإقطاعي) و( الدكتاتوري) في نظر العالم الغربي على الخصوص , فإن النزاع أخذ أيضاً صورة بين واحة الديمقراطية التي تمثلها ( إسرائيل) وبين أعداء الديمقراطية والحرية وأعداء الحضارة وهو العرب!
أما شعب فلسطين فقد غاب عن الصورة , وفي أفضل الآلات كان العالم ينظر للمشكلة على أساس أنها مشكلة لاجئين تبحث كغيرها من مشاكل اللاجئين في العالم على أسس إنسانية أخلاقية تحلها المساعدات المادية والتعويضات . وجاءت الثورة الفلسطينية لتصحح الصورة , ولترجع المشكل إلى حقيقته كقضية شعب صغير مشرد من أرضه , يعيش لا مأوى , تقف في وجه حقوقه الوطنية كشعب , دولة صهيونية عنصرية , تفوقه قوة وعدة , مدعومة بالإمبريالية والصهيونية العالمية , فأرجعت الثورة بذلك للقضية صورتها الحقيقة كقضية صراع على الوجود , وجود شعب فلسطين وليست قضية نزاع على الحدود.
إن كان الذوبان الفلسطيني في المد القومي الوحدوي العربي يعد تجسيداً لعمق الشعور القومي الوحدوي لدى الشعب الفلسطيني وتعبيراً عن نظرة قومية متقدمة للخطر الذي بتجسده إسرائيل في المنطقة العربية , وعن الإحساس بالبعد القومي للقضية الفلسطينية , إلا أنه كان لغياب الشخصية الوطنية الفلسطينية نتائج مدمرة على القضية حيث خدم هذا الغياب الإستراتيجية الصهيونية الإمبريالية , وعزز المقولات الصهيونية التي رفعتها الحركة الصهيونية لتبرير استعمارها لفلسطين , وهي المقولة التي يحلو للقادة الصهاينة ترديدها كلما طرلبوا بالاعتراف بالشعب الفلسطيني . وكما استغلت الدعاية الصهيونية غياب الهوية الوطنية الفلسطينية وعدم وجود حركة وطنية تمثل الشعب الفلسطيني , لتصور للعالم وكأن الصراع الدائر في المنطقة العربية هو صراع بين " دولة إسرائيل واحة الديمقراطية في الشرق " وبين الدول العربية بملايينها البشرية وثروتها المادية , وأن هذه الأخير تود أن تقضي على " الشعب اليهودي الصغير والضعيف".
وعلى الجانب المقابل لا يجد الفلسطينيون ما كانوا يتمنون ويتطلعون إليه , فالإستراتيجية القومية العربية بقيت حلماً بعيد المنال , وأن وجدت فمجرد قرارات وتوصيات لم تجد طريقها للتطبيق , والخلافات العربية أصبحت هي القانون الذي يحكم العلاقات العربية , ومع احتدام الخلافات تتكرس الأحقاد بين الأنظمة وهذه بدورها تنقلها وتفرضها على الجماهير , فتتكون النعرات الإقليمية , وتتباعد تبعاً لذلك الوحدة العربية , وكان الشعب الفلسطيني – مع أنه لم يكن طرفاً مباشراً في أي من التجارب الوحدوية المجهضة – يصاب بألم وحسرة على كل تجربة وحدوية فاشلة , ويشعر بأنه المتضرر الأول من هذا الفشل .
بالإضافة إلى ذلك شعر الفلسطينيون أن الأنظمة العربية والأحزاب السياسية العربية استغلت القضية الفلسطينية كورقة مساومة لخدمة مصالحها الخاصة , كما شعر الفلسطينيون بالضيق لحالة الحصار المفروضة عليهم في المخيمات وإبقائهم كماً مهملاً لا دور لهم في صنع الحدث المتعلق بمصيرهم , يراقبون الأحداث وكأنهم غرباء لا علاقة لهم وكانت أية محاولة لا براز الصوت الفلسطيني والهوية الفلسطينية كفيلة بأن تضع صاحبها في السجن وأن يوضع اسمه في سجلات رجال المخابرات وما أكثر التهم الجاهزة لتلصق بالفلسطيني.


المبحث الثاني
دور حركة فتح في إحياء الكيانية السياسية الفلسطينية

ساعدت كل من هذه العوامل على تسريع عملية المخاض التي كانت تعتمل في الجسم الفلسطيني , لتولد الكيانية الفلسطينية والهوية الوطنية الفلسطينية ولكن هذه المرة في ظل الاحتلال والهيمنة وفي حياة الغربة والتشرد . بدأت الإرهاصات الأولى للوعي الوطني الفلسطيني تبرز لدى الفلسطينيين المنضوين في الحركات القومية العربية كحركة القوميين العرب وحزب البعث العربي الاشتراكي , إلا أن هذا الوعي بقي أسير الفكر القومي لهذ الحركات التي كانت تعارض أية توجهات قطرية ولم يتبلور الوعي الوطني الكياني إلا عبر نشرة ( فلسطيننا) التي تنطلق باسم الحركة التحرير الوطني الفلسطيني ( فتح) قبل ان تعلن هذه الأخيرة عن نفسها رسمياً , فقد انتقدت حركة فتح روح اللامبالاة والإتكالية التي فرضت على جموع الفلسطيني , وانتقدت الحكومات والحركات الحزبية العربية لاستغلالها القضية الفلسطينية لغير صالح الشعب الفلسطيني , وطالبت بإبراز الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني , ونفت حركة ( فتح) أن تكون المطكالبة بإبراز الهوية الوطنية الفلسطينية , انسلاجاً عن قضايا النضال القومي العربي , أو تعبيراً عن ردة فعل إقليمية , واوضحت فتح أن إحياء الهوية الوطنية الفلسطينية يعبر عن رفض المعالجة الخاطئة للقضية الفلسطينية , واستنكار حالة التغييب التي فرضت على الفلسطينيين وأوضحت أن طمس الشخصية الفلسطينية لا يشكل خطراً على شعب فلسطين فحسب , ولكنه يشكل إضراراً بالمسيرة النضالية القومية العربية , ذلك أن ذوبان الشعب الفلسطينين يعني : " ذوبان القضية الفلسطينية , إذ أن قضية وطن بلا شعب لا يعني شيئاً مطلقاً في النطاق الدولي على الأقل ينبغي ان تعلم الحكومات العربية جميعاً أن شعب فلسطين هو الممثل الشرعي للقضية الفلسطينية لأنه وحدة الذي يمثل المأساة ويواجهها , إلا فمن هم الذين يشردون من بلادهم ؟.... إنه لا يحق لأية دولة عربية بأن تقول بأنها تمثل عرب فلسطين , فعرب فلسطين لا يمثلهم إلا يحق لأية دولة عربية بأن تقول بأنها تمثل عرب فلسطين , فعرب فلسطين لا يمثلهم إلا أبناء فلسطين , إن شعب فلسطين سيفرض نفسه ليتحمل قضية وطنه وليشارك إخوانه أبناء العروبة في النضال من أجل تحرير الوطن السليب , فشعب فلسطين أصدق من يعمل لقضية فلسطين , فلا الوطنية تنقصنا ولا القافة والاختصاصات بعيدة عنا , فتحن نحمل مشعل الثقافة والوطنية في أية منطقة عربية نحل بها ".
وكانت " فتح " في ذلك تطرح المبررات العملية لوضع القضية الفلسطينية في يد الشعب الفلسطيني , ولكنها في النفس الوقت تحذر الحكومات العربية وخصوصاً الأردن , من مغبة الوقوف في وجه الوطنية الفلسطينية الصاعدة , التي أرادت لها "فتح" , أن تمارس نشاطها الوطني انطلاقاً من كيان فلسطيني يمارس من خلاله نضاله الوطني المشروع , وبضرورة وجود كيان للشعب الفلسطيني يمارس من خلاله نضاله الوطني المشروع , وبضرورة وجود قيادة فلسطينية للشعب الفلسطيني , وأن يوضع حد لتحكم الأنظمة والأحزاب العربية بالشعب الفلسطيني وبالقضية الفلسطينية , فالشعب الفلسطيني " بحاجة إلى قيادة فلسطينية تنفعل مع القضية الفلسطينية انفعالاً وطنياً فتقود طلائع شعبنا إلى تحرير وطنهم " .
هذه القيادة تمارس دورها في الكيان الفلسطيني الذي يجب أن يقام في مرحلة أولى على الأرض الفلسطينية الخاضعة للإدارة العربية , والمقصود بذلك الضفة الغربية وقطاع غزة . "إن الكيان مطلب أساسي من مطالبنا نحن عرب فلسطين المشردين , وقد طال علينا الزمن , ونحن نعيش حياة الذل والهوان والتشرد . والكيان حق شرعي لنا ... إن هناك أقساماً عربية من فلسطين وعلى هذه الأقسام ينبغي أن نشيد صرح حكم وطني فلسطيني ثوري قيادي .
ولم يكن استنهاض " فتح للهوية الوطنية الفلسطينية , ومطالبتها بوجود كيان للشعب الفلسطيني يأخذ دور القاعدة والمنطق لتنظيم الشعب الفلسطيني , مجرد فكرة منعزلة بل كانت تعبيراً عن حالة عمت الشعب الفلسطيني في كل مكان أماكن تجمعه , ووجدت تجاوباً من قبل أنظمة وحركات عقائدية عربية , ففي فلسطين المحتلة , انتقض الفلسطينيون بعد عشر سنوات من الاحتلال والاضطهاد , ليردوا على عمليات غسل الدماغ التي يقوم بها الصهاينة لقطع كل الروابط والانتماءات التي تربطهم بشعبهم الفلسطيني وأمتهم العربية وأعلنوا في أبريل 1959 عن قيام حركة " الأرض " التي شكلت المستطاع ضمن واقع الاحتلال البغيض , وقد دعت " الحركة " إلى ضرورة أن ينظم الفلسطينيون أنفسهم , وان ينفضوا عن أنفسهم اللامبالاة والاتكالية التي فرضت عليهم طوال السنوات الماضية , وقد تعرضت هذه " الحركة " إلى مضايقات من السلطات الصهيونية , إلا أنها تمثلت حالة في النهوض الوطني الفلسطيني لعرب 1948 ما زالت مستمرة حتى اليوم.
وعلى مستوى الفلسطينيين المنخرطين في الحركات السياسية العربية , فقد غاد\ر الكثيرون الأحزاب التي كانوا ينتمون إليها وانخرطوا في الحركة الوطنية الفلسطينية وخصوصاً في " فتح" الذي لم يشترط لعضويتها لونا أيديولوجيا محدداً , وبالنسبة للذين بقوا في هذا الحركات وخصوصاً حركة القوميين العرب وحزب البعث العربي الاشتراكي اللذين استقطبا أكبر عدد من الفلسطينيين فقد بدأوا يلتمسون طريقاً خاصاً ودوراً مميز لهم في إطار الحركات التي ينتمون إليها , وقد وعت الحركات التي ينتمون إليها أهمية التجاوب الوعي الكياني الفلسطيني الجديد وخطورة الوقوف في وجهه.
وهكذا شكل الفلسطينيون المنضوون في حركة القوميين العرب عام 1958, لجنة سميت " لجنة فلسطين " وقد بحثت هذه اللجنة في الدور الذي يمكن للفلسطينيين أن يمارسون في إطار الحركة التحررية العربية , وعن أنجع السبل لتحرير فلسطين , وقد خلصت اللجنة إلى أن تحرير فلسطين يتم من خلال الفلسطينيين واعتماداً على دولة الوحدة العربية . وقد طورت اللجنة في عام 1960 أصبحت تسمى " إقليم فلسطين" يخضع لها كل الكوادر الفلسطينية المنتمين للحركة في مختلف مناطقهم , وعقد الفلسطينيون في حركة القوميين العرب أول مؤتمر قطري لهم عام 1952 , وفي عام 1964 أنشئ في الحركة قيادة خاصة للعمل الفلسطيني سميت " قيادة العمل الفلسطيني اسند إليها مهمة الإشراف على جميع التنظيمات الحزبية الفلسطينية التابعة للحركة , وقد شكلت إليها مهمة الإشراف على جميع التنظيمات الحزبية الفلسطينية التابعة للحركة و وقد شكلت هذه القيادة فيما بعد الثورة التي انبثق عنها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين .
أنا بنسبة للفلسطينيين المنضويين داخل حزب البعث العربي الاشتراكي , فغن عملية التعبير لديهم عن كيانهم وهويتهم الوطنية بقيت ضمن إطار الحزب ومستوعبه بما يخدم سياسته وإستراتيجيته العربية وخصوصاً بعد\ وصوله للسلطة عام 1963 في كل من سوريا والعراق, ولقد أيد البعثيون عام 1964 عشية انعقاد المجلس الوطن الأول .
أما على المستوى الرسمي العربي فقد استجاب مجلس الجامعة العربية في مارس 1959 لمبادرة مصرية لبحث القضية الفلسطينية , وإبراز الكيان الفلسطيني وإنشاء جيش فلسطيني , وقد أوصى المجلس بدراسة موضوع " إعداد وتعبئة الشعب الفلسطيني شعباً موحداً لا مجرد لاجئين , يسمع العالم صوته في المجال القومي وعلى الصعيد الدولي بواسطة ممثلين يختارهم " , إلا أن الأردن وقف ضد هذا الاقتراح عندما قدم في دورة مجلس الجامعة في سبتمبر 1959.
وفي أغسطس 1960 , اجتمع وزراء الخارجية العرب في دورة استثنائية لمجلس الجامعة , في بلدة شتورا اللبنانية , وأخذ الوزراء بما سبق وأوصت به اللجنة السياسية , حيث قرروا بأن " الشعب الفلسطيني هو صاحب الحق الشرعي في فلسطين , له أن يعمل لاستيراد " وطنه بمؤازرة ومشاركة الدول والشعوب العربية . وأن على الدول العربية ان تحافظ على الشخصية الفلسطينية وتجانب كل ما يؤدي إلى إذابة هذه الشخصية .
قد واصل الأردن دورة المعارض لكل من شأنه أن يبرز الشخصية الوطنية لأن هذا في نظره يمهد الطريق للسيادة الفلسطينية على الأرض غير المحتلة وخصوصاً الضفة الغربية الخاضعة للحكم الأردني , هذه المعارضة الأردنية أدت لتجميد القرار السابق لوزارة الخارجية العرب حتى سنة 1963, موعد الدورة الأربعين لمجلس الجامعة , حيث اتخذ المجلس قراره الشهير رقم 1933 , وأهم ما جاء فيه :
أ‌- " التأكيد على أن الشعب الفلسطيني هو صاحب الحق الشرعي في فلسطين , وأن من حقه أن يسترد وطنه ويقرر مصيره ويمارس حقوقه الوطنية الكاملة.
ب‌- التأكيد على أن الوقت قد حان ليتولى أهل فلسطين أمر قضيتهم وأن من واجب الدول العربية أن تنتج لهم الفرصة وأن تمكنهم من ممارسة ذلك بالطرق الديمقراطية ".
شكلت كل هذه التطورات المناخ السياسي المناسب لقيام منظمة التحرير الفلسطينية في مايو 1964 , حيث أبرز ميثاق المنظمة مكاناً مرموقاً للهوية الوطنية الفلسطينية وخصصت المواد السبع الأولى لتحديد الهوية الفلسطينية مكاناً مرموقاً للهوية الوطنية الفلسطينية وخصصت المواد السبع الأولى لتحديد الهوية الفلسطينية والوطن الفلسطيني مؤكدة في نفس الوقت على عروبة شعب فلسطين . وجاءت كما يلي :
"المادة(1) فلسطين وطن الشعب الفلسطينيين وهي جزء لا يتجزأ من الوطن العربي الكبير والشعب الفلسطيني جزء من الأمة العربية .
المادة(2) فلسطين بحدودها التي كانت قائمة في عهد الانتداب البريطاني وحدة إقليمية لا تتجزأ
المادة(3) الشعب العربي الفلسطيني هو صاحب الحق الشرعي في وطنه ويقرر مصيره بعد أن يتم تحرير وطنه وفق مشيته وبمحض إرادته واختياره
المادة (5) الفلسطينيون هم المواطنون العرب الذين كانوا يقيمون إقامة عادية في فلسطين حتى عام 1947 سواء من اخراج منها أو بقي فيها , وكل من ولد لأب عربي فلسطيني بعد هذا التاريخ داخل فلسطين أو خارجها هو فلسطيني
المادة (6) الانتماء الفلسطيني والارتباط المادي والروحي والتاريخي بفلسطين حقائق ثابتة , وأن تنشئه الفرد الفلسطيني تنشئة عربية ثورية واتخاذ كافة وسائل التوعية والتثقيف لتعريف الفلسطيني بوطنه تعريفاً روحياً ومادياً عميقاً وتأهيله للنضال والكفاح المسلح والتضحية بماله لاستيراد وطنه حتى التحرير واجب قومي ".
وبعد ذلك توالت الاعترافات العربية والدولية بمنظمة التحرير الفلسطينية بصفتها تمثل الشعب الفلسطيني , وتعبر عن هويته الوطنية المستقلة الأمر الذي تكرست رسمياً بقرار مؤتمر القمة العربي في الرباط 1976 ثم بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كمراقب في هيئة الأمم المتحدة في نفس العام .
تلاقت مصالح دعاة الخطاب القومي الزائف مع مصالح وسياسات أنظمة عربية إقليمية , حول مسألة مناصبة الهوية الوطنية الفلسطينية العداء والتشهير والتشكيك باستقلالية القرار الوطني الفلسطيني . وأصبحت الهوية الفلسطينية , تهمة تثير الشكوك حول صاحبها وتعرضه للمسائلة والنبذ والملاحقة , مما أوجد تيارا وطنياً يطالب بوضع حد لظاهرة " اللافلسطينية " التي لا تلحق فقط أضراراً بالقضية الفلسطينية بل تصر أيضاً المصلحة القومية العربية .
ولكن حتى لا نسقط في مهاوي الإقليمية المقيتة , وحتى لا نغلب الضرورة المرحلية على المبادئ القومية إلى ما لا نهاية , علينا أن نستدرك الأمور ونؤكد بأن التركيز على القطرية الفلسطينية في تلك المرحلة , وما يترتب عليها من شعارات كإعلاء شأن الهوية واستقلالية القرار الفلسطيني والدولة الفلسطينية المستقلة , لم تكن بالخيار النهائي للشعب العربي الفلسطيني , بل كانت قطرية وهوية مشروطة مرحلياً . وحتى لا تسقط القطرية الفلسطينية في مستنقع الإقليمية , وحتى لا تخرج عن الخط القومي الثوري السائد آنذاك فقد كانت مشروطة بالشروط التالية :
أولاً: أنها قطرية صدامية تمارس الكفاح المسلح ضد العدو الصهيوني.
ثانياً: أنها قطرية لا تعرف بالعدو الصهيوني , وفي حالة اعترافها به يسقط مبرر وجودها.
ثالثاً: أنها قطرية ترد على حالة غياب دولة الوحدة العربية , وعدم وجود إستراتيجية قومية عربية تقوم بعملية تحرير فلسطين ,وفي حالة توفر دولة الوحدة العربية أو الإستراتيجية القومية العربية المجندة لتحرير فلسطين , يسقط مبرر وجود القطرية الفلسطينية.
رابعاً أنها قطرية تجمع شتات الشعب الفلسطيني وتحافظ على الهوية الوطنية الفلسطينية من التبعثر والاستلاب
خامساً: أنها قطرية ملتزمة بالانتماء إلى الأمة العربية وبالنضال من اجل إقامة دولة الوحدة العربية .
سادساً: إنها قطرية متشبثة بالعودة إلى أرض فلسطين , وفي حالة ظهور أي بوادر للتوجه نحو الاستيطان في مكان آخر , يسقط عنها مبرر وجودها
سيطرت النقاشات المتعلقة بالشخصية الفلسطينية , والاستقلالية الفلسطينية , على حيز كبير من الجدل الذي صاحب ظهور المنظمة , ذلك أن التيار القومي وخصوصاً الناصريين , كان يشكل قوة ضاغطة حتى تبقى المنظمة أداة خاضعة للإستراتيجية الرسمية العربية , بينما أرادها الوطنيون الفلسطينيون أداة تعبر عن الاستقلالية في العمل الفلسطيني , وسيطر الاتجاه الأول طوال السنوات الأربع (1968-1964) , حيث أن الميثاق القومي المعمول به خلال تلك الفترة , أوضح أن لا أطماع للمنظمة لممارسة أي سيادة فلسطينية , فالمادة الرابعة والعشرون نصت على أن " لا تمارس هذه المنظمة أية سيادة إقليمية على الضفة الغربية في المملكة الأردنية الهاشمية ولا قطاع غزة ولا منظمة الحمة ".
إلا أن النصوص " الميثاق الوطني (1968) " , كانت أكثر تأكيداً على الشخصية والاستقلالية الفلسطينية وإن كانت تقرن بين الاستقلالية والشخصية الفلسطينية وبين الانتماء القومي والوحدة العربية , فالمادة الثانية عشرة أكدت على أن " العشب العربي الفلسطيني يؤمن بالوحدة العربية , ولكي يؤدي دوره في تحقيقها يجب عليه , في هذه المرحلة من كفاحه الوطني , أن يحافظ على شخصية الفلسطينية ومقوماتها , وأن ينمي الوعي بوجودها , وأن يناهض أياً من المشروعات التي من شأنها إذابتها وإضعافها ." وجاء في المادة الثامنة والعشرين :" يؤكد الشعب العربي الفلسطيني أصلة ثورته الوطنية واستقلاليتها , ويرفض كل أنواع التدخل والوصاية التبعية " . أما المادة التاسعة والعشرون , فأكدت على أن " الشعب العربي الفلسطيني هو صاحب الحق الأول , والأصيل , في تحرير واسترداد وطنه , ويحدد موقفه من كافة الدول والقوى على أساس مواقفها من قضيته ومدى دعمها في ثورته لتحقيق أهدافه ".
واصلت المجالس الوطنية الفلسطينية التأكيد على الاستقلالية الفلسطينية في كل مؤتمراتها , وكان هذا التشبث بالاستقلالية يتسم بأهمية بالغة ويشكل محور اهتمام الفلسطينيين , عندما تكون هذه الاستقلالية وحرية العمل الفلسطيني محل تهديد أو مصادرة , كما حدث في السنوات الأولى التي تلت خروج المقاومة من الأردن , أو بعد خروجها من لبنان صف 1982 أو عندما تطرح مشاريع تسوية تتجاهل دور الثورة الفلسطينية . كما أن الاحباطات والضربات المتوالية التي تلقها الثورة الفلسطينية من قبل العدو الصهيوني , ومن قبل أطراف عربية , لم تمنعها من مواصلة التركيز على هذه الاستقلالية , بل نجد أن الحفاظ عليها يصبح الشغل الشاغل للحركة الوطنية , بعد كل أزمة تمر بها . وهذا ما بدا واضحاً في الدورة السادسة عشر للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر و حيث جاء في البيان الصادر عن المجلس : " يؤكد المجلس الوطني الفلسطيني على استمرارية التمسك بالقرار الوطني الفلسطيني المستقل وبصيانته ومقاومة الضغوط التي تستهدف النيل من هذه الاستقلالية".
إلا أن تأكيد الميثاق الوطني على الاستقلالية الفلسطينية وإبراز الشخصية الفلسطينية لا يعني توافق التصورات وتناعم الاجتهادات بين فصائل المقاومة حول مفهوم الاستقلالية وحدودها ومعنى القطرية الفلسطينية المترتبة على إبراز الشخصية الفلسطينية .
كانت "فتح" أكر التنظيمات الفلسطينية دفاعاً عن الوطنية (القطرية) الفلسطينية , من منطلق خصوصية القضية الفلسطينية , إلا أن هذا لا يعني التنكر للانتماء القومي , ولكنه " البحث عن الخاص الفلسطيني في العام القومي" مع ضرورة وجود علاقة جدلية ترابطية وبين الخاص والعام .
في إطار دفاع " فتح " عن المنطلق القطري في النضال و وأعطت تعليلاً نظرياً فكرياً يربط ما بين النضال القطري في أي بلد عربي وبين متطلبات الثورة العربية الشاملة , حيث ترى أن من الصعب حدوث ثورة على مستوى الأمة العربية كلها , بل الأقرب إلى الصواب هو حدوث ثورات قطرية تلتقي فيما بينها لتشكيل أداة ثورية قومية , وبالتالي , فإن " فتح " ترى " أن تحرير أي قطر عربي لن يبدأ قبل أن يتحرك هذا الفكر ذاته , بكل قواه الثورية , نتيجة العوامل الثورية فيه, أن عملية التفاعل الثوري في هذا القطر المعين لا يمكن أن تتم خارج هذا القطر بل لابد أن تكون ضمن إطاره الخاص"
وبناء على هذا فإن النضال القطري الفلسطيني , حسب هذا التحليل النابع من إدراك تفاوت الظروف النضالية , واختلاف المراحل التي قطعها نضال كل قطر من الأقطار العربية , ولا يتناقض مع النضال القومي , بل يصب في طاحونته , ففلسطين بعد قومي وليس جغرافياً , الثورة الفلسطينية إن كانت فلسطينية الوجه فهي عربية العمق والامتداد , وطبيعة الوجود الصهيوني في فلسطين المحتلة , كمركز انطلاق للصهيونية والإمبريالية للهيمنة على المنطقة , تفرض قومية أي عمل من أجل فلسطين و وهو الأمر الذي يعطي للثورة الفلسطينية شروطها الموضوعية , من حيث استحالة تبلورها في شكل ثورة إقليمية تداخلها السياسي والاجتماعي , الاقتصادي , مع الأقطار العربية .
كما ردت " فتح " مبررات التركيز على الشخصية , والقطرية , الفلسطينية إلى اعتبارات عملية لها علاقة بالواقع الدولي , وبتحديد المسؤولية , حيث أن الممارسة العربية الخاطئة للقضية الفلسطينية , عربياً ودولياً , أظهرت للعالم كأن الصراع الدائر في المنطقة هو صراع لبين دولة إسرائيل الصغيرة المحاصرة وبين الدول العربية التي تحاصرها من كل جانب وتهدد بقذف اليهود إلى البحر ! هذا التصور المغلوط لدى الرأي العام العالمي , خدم السياسة الصهيونية , وأوجد تأييداً عالمياً لإسرائيل . ومن هنا أرادت " فتح " أن تبين دولة أن الصراع في حقيقته , صراع بين الشعب الفلسطيني الصغير العدد المشتت في المنافي , الطرود من أرضه و وبين إسرائيل المدعومة بالحركة الصهيونية وبالإمبريالية العالمية .
وعلى هذا لخصت " فتح " تركيزها على الشخصية الفلسطينية بثلاثة دوافع :
أولا: كإستراتيجية يمكن بها التصدي لمحاولات التضليل والخداع التي يضعها الترك الإسرائيلي في المجال الدولي لينفي عن هذه الحركة وجهها العادل.
ثانياً: كوسيلة لتحديد المسؤولية وتحديد الاختصاص في تنظيم يؤمن بالثورة ويتفاعل معها .
ثالثاً" فلسطينية الثورة هي مدخل قادر على تجميع واستقطاب الجماهير الفلسطينية التي تتناثر في أطراف الدنيا بلا رابط يجمعها أو يشدها إلى الأرض والقضية والمستقبل . وهي الوسيلة الوحيدة لتنقية الأوساط الفلسطينية من جو السفسطة والتعقيد , من خلال التعدد في الولاء والاتكالية التي صنعتها السنوات الطويلة من الضياع" .
فالاستقلالية الفلسطينية , والقطرية الفلسطينية , من هذا المنطق, هما تصحيح لوضع خاطئ ووضع الأمور في نصابها , ذلك أن فلسطينية الثورة تعني الرجوع إلى وضع الحصان أمام العربة , بدل من وضع العربة أمام الحصان , كما كانت عليه الحال قبل ظهوره الثورة , وفي ظل الهيمنة العربية على القضية , مما أعجز العربة عن التقدم .
ويمز منير شفيق بين القطرية المرادفة للإقليمية كواقع يميز الإقليميات العربية بفعل واقع التجزئة ويفعل المصالح المترتبة على هذا الواقع , وبين واقع الشعب الفلسطيني الذ يفتقر إلى الواقع المادي الذي منه تستمد المصالح القطرية الإقليمية : إن واقع الجماهير الفلسطينية واقع غير قطري , بدليل أن الجماهير الفلسطينية , بغالبيتها , وبشكل خاص الفاعلة في الثورة الفلسطينية , لا تتواجد على قطر عربي واحد , وحتى قطرها العربي فقد منها , وهي موزعة بين مختلف الأقطار العربية , وبالتالي لا يمكن أن تتحرك إلا ضمن مختلف هذه الأقطار العربية , وبالتالي , أن تلتحم مع الجماهير العربية في كل قطر , سواء أرادت أم لم ترد " .
ويسيطر شفيق موضحاً ان الثورة الفلسطينية , التي تناضل من أجل هدف تحرير فلسطين , لا يمكن أن تكون ثورية قطرية , لأن هدف تحرير فلسطين ليس قطرياً , وإنما هو هدف قومي , بالإضافة إلى أن حركة المقاومة الفلسطينية لا تنطلق في ممارساتها ونضالها المسلح من على أرض فلسطينية , بسبب خصوصية القضية , وإنما تتواجد قواعدها وتنطلق مجموعاتها المقاتلة وتتحرك على امتداد الأرض العربية , وهو الأمر الذي يفرض عليها الاحتكاك مع الواقع العربي لتثويره , وهذا يجعل من الثورة الفلسطينية " نقطة الالتحام العربي مع العدو الصهيوني , وهي بذلك قد بدأت عملية التفاعل في المجتمع بكل مؤسساته , وأبرز شئ في هذا التغيير هو حالة القلق والتوتر الجماهيري التي سادت في المنطقة العربية , فأحدثت أثراً مباشراً على اتجاهاتها السياسية وروابطها القطرية وعلاقاتها الدولية ".
إلا أنه يلاحظ وجود تباينات داخل صفوف فتح لمفهوم القطرية , فبينما نجد البعض يقر بوجود القطرية الفلسطينية , ويبرز وجودها , باعتبارها قطرية ثورية تصب في المجرى العام للنضال القومي , وهم بهذا يميزن بين القطرية بمفهوم الخصوصية النضالية , وبين الإقليمية , نجد تياراً آخر ينفي الصفة القطرية عن الحركة , لأنه يعتبر القطرية مرادفة للإقليمية التي هي نقيض للقومية , وقد مثل هذا التيار , تحديداً , منير شفيق , الذي مع إقراره بالوجه الفلسطيني للثورة , إلا أنه ينفي عنها صفة القطرية , انطلاقاً من رؤيته للقطرية كرديف للإقليمية التي هي السمة الغالبة في الواقع العربي الحالي , والتي يرجع جزء كبير من تردي الوضع العربي لوجودها وممارساتها الضارة بالمصلحة القومية العامة , وحتى بمصالح الشعب العربية في كل قطر على حدة . وبهذا ينبه شفيق إلى أن " من الضروري الانتباه إلى أن الواقع العربي واقع قطري , ورفض كل الممارسات القطرية " .
كما حدث بعض قادة " فتح" من الآثار السلبية التي يمكن أن تترتب على التركيز على الوجه الفلسطيني للثورة . وفي هذا المجال , يعتبر ناجي علوش أن الثورة الفلسطينية ولدت وهي تعاني من إشكال خطير يتمثل في دعوتها إلى قيام كيان فلسطيني , ويعتبر هذا تحولاً من الدعوة القومية إلى الدعوة القطرية , ويرى أن الممارسات اليومية للثورة أعطت القضية بعداً " فلسطينياً " من جهة , وبعداً قومياً من جهة أخرى , إلا أن هذا الأخير عفوي وسطحي . ويوضح علوش , هنا , المأزق المترتب على التركيز على الوجه الفلسطيني للقضية , وتجاهل العامل القومي , أو عدم إيلائه الأهمية المناسبة بالقول : " لقد دخل الفارس الفلسطيني الميدان قائلاً للأمة العربية : أنا فارس الميدان والقضية قضيتي . واستطاع الفارس الفلسطيني أن ينتزع الإعجاب والتأييد , كل الإعجاب والتأييد , ولكنه , في غمرة الإعجاب والتأييد والانتصارات , لم يسأل نفسه : ماذا بعد ؟ لم يطرح على نفسه , بجدية , هذا السؤال : هل أستطيع , وحدي, أن أسير بالمعركة إلى نهاية الشرط ؟ وماذا حدث لو بقيت وحدي, ولم يهرع الفرسان العرب, كلهم, إلى الميدان ؟".
وبالفعل , خاضت الثورة الفلسطينية أشرس معركة تخوضها وأطول معركة عربية , وهي حرب بيروت , ولم يهرع إليها الفرسان العرب , بل وقفوا موقف المتفرج وهذه السلبية دفعت إلى مزيد من التشبث بالاستقلالية الفلسطينية , وقد أكد رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية , ياسر عرفات , على أهمية التشبث بالقرار الفلسطيني , وأن " هذا القرار سنصونه ونحميه حتى لا يمسه هؤلاء الذين أرهبتهم القوة المعتدية وأخافهم منطق المعادلات , فسقطوا في لعبة التوازنات وتاهوا في الحسابات " .
وفي الكلمة التي ألقاها صلاح خلف ( أبو إياد) , عن " فتح " في دورة المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر , جدد النفي أن تكون استقلالية القرار الفلسطيني تعني الإقليمية , وأكد إصرار" فتح " والثورة الفلسطينية على الانتماء العربي . وميز خلف بين الانتقادات الموجهة إلى الاستقلالية الفلسطينية , لاعتبارات قومية حقيقة وصادقة , وتلك التي تصب في مجرى تحطم الثورة , وقال : إن الذين يريدون أن يستروا ضعفهم وعجزهم يقولون عنا إقليميين " , وطالب بالمعاملة بالمثل : " أنا أقبل ان أذهب إلى سوريا ونقول لها : قرارنا الوطني المستقل على الطاولة وقراركم على الطاولة , وقرارنا وقراركم لنا ولكم, ولكن ليس قراركم لكم وقرارنا , فقط , هو الموضوع على الطاولة "


المبحث الثالث
الاستقلالية الفلسطينية وتجاذب الانتماءات الحزبية
وكما سبق أن أشرنا , فإن مطلب الاستقلالية الفلسطينية وإبراز الشخصية الفلسطينية لم يكن حكراً على "فتح" ,بل كان مطلباً لكل الفصائل ضمن تصورات تتباين أحيانا : فالجبهة الديمقراطية لتحري فلسطين , مع إقرارها بأن قضية فلسطين قضية فلسطينية وعربية في آن .إلا أنها ترى أن " دور شعوب القمة العربية وقواها الوطنية هو التضامن والتكاليف مع أي شعب عربي آخر في نضاله من أجل حريته وتقرير مصيره , لا أن تنوب القوى العربية محل هذا الشعب / أو ذلك فيس تقرير مصيره .. فالشعب اليمني هو المسؤول الأول والأخير عن تقرير مصيره وأن على القوى العربة أن تسانده في خطواته التي يرتئيها لحاضر ومستقبله , لا بد أن تملي عليه شكل نضالة أو خط سيره ومصيره .
وتنتقد الجبهة الديمقراطية الممارسات العربية السابقة بحق الشعب الفلسطينيين وتصرفها بالقضية من وراء ظهوره . وتعتبر أن من أهم إنجازات الثورة الفلسطينية هو تمكن شعب فلسطين من إبراز شخصيته الفلسطينية , كمطلب وطني ثوري , وبين الإقليمية والانغلاق عن المحيط العربي . وفي هذا السياق , شنت انتقاداً لا ذعاً ضد حركة " فتح " باعتبار أنها – أي " فتح " اتخذت طابعاً فلسطينياً , يقوم بالأصل على نظرية " فلسطنة" القضية الفلسطينية وإدارة الظهر للأوضاع العربية المحيطة بفلسطين , ومن هنا حملت حركة المقاومة , منذ البداية في أحشائها خطاً موقفها الأساسي من الأوضاع العربية " .
وتفصل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بين استقلالية القرار وبين الانعزال عن المحيط العربي , بفعل التداخل والترابط بين القضية الفلسطينية والأمة العربية , الذي هو وليد التاريخ والمصير والانتماء المشترك , وعليه " لن يستطيع أي شعار أن يحصر صورة الصراع ضمن دائرة القطرية الفلسطينية ... وأنه لابد من إيجاد عملية الترابط العضوي بين قطرية الثورة وقوميتها" فالاستقلالية الفلسطينية تفرضها طبيعة المرحلة التي مرت بها القضية , وبالتالي فهي ضرورة لبلورة الشخصية الفلسطينية الوطنية المستقلة ولخلق العمل الوطني الفلسطيني الواضح , إلا أن هذا العمل يجب أن يرتبط بالنضال التحريري العربي , فهما عمليتان متكاملتان , تخدم كل منها الأخرى . ففي الوقت الذي يجب أن نصل إلى بلورة الشخصية الوطنية الفلسطينية المستقلة وخلق العمل الوطني الثوري الفلسطيني الواضح الملامح والإطارات ,فإننا , حتى نحقق أهدافنا كاملة , يجب أن نعمل على ربط نضالنا الثوري بالنضال التقدمي العربي " .
وضمن هذا الترابط لا ترى الجبهة الشعبية في استقلالية العمل الفلسطيني نوعاً من الانعزالية عن الواقع العربي , لأن الثورة الفلسطينية تعيش في البلدان المحيطة بفلسطين .
وتفصل المنظمات قومية الانتماء ما بين متطلبات إبراز الشخصية الفلسطينية وبين وجود إستراتيجية فلسطينية مستقلة , فالأولى مطلوبة ولا تتناقض مع الخط القومي , حيث " لم يكن تأكيد الثورة الفلسطينية على الشخصية الفلسطينية والدور القتالي الفلسطيني منطلقاً من مفهوم القطرية المريضة , بل كان يعكس طليعية الدور الفلسطيني في معركة التحرير " , أما لقول بإمكان وجود إستراتيجية فلسطينية مستقلة , بما تعنيه من استقلالية فلسطينية في الممارسة , فهو من قبيل الخيال " وتعتبر مجرد أكذوبة كبرى يقع فيها أصحا هذه الدعوة , إلا إذا كانت الإستراتيجية المطلوبة هي إستراتيجية إيصال الفلسطيني إلى الهزيمة الحتمية" .
ويميز أحمد جبريل ( الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة ) بين استقلالية القرار بمعنى الإقليمية والانعزال . فهو يقف مع استقلالية القرار في وجه محاولات تزوير الشخصية الفلسطينية , وفي وجه محاولات تذويب الكيان , ولكنه يرفض القرار المستقل " بمعنى الإقليمية , وبمعنى الانعزال عن جسم الأمة العربية , أو أننا الوحيدون المعنيون بقضية فلسطين , وبالنضال الوطني من أجل تحرير فلسطين " ويحذر من أن هذا المفهوم لاستقلالية القرار قد " يفتح الباب أمام شرعية وقبول القرارات الإقليمية , لتصفية الصراع مع العدو الصهيوني , فنرى قراراً مصرياً , كما فعل السادات , قراراً لبنانياً , ويتبع ذلك قراراً فلسطينياً و وثم قراراً سورياً " .
لقد أثبتت الأحداث أن القضية الفلسطينية لم تعامل , فعلاً كقضية العرب الأولى , وإلا لما اعترف أنور السادات بإسرائيل ولما وافقت غالبية الدول العربية على الإقرار بالأمر الواقع في فلسطين , كما أن هناك أنظمة عربية تشكل الثورة الفلسطينية وإستراتيجية الكفاح المسلح الخطر الأكبر عليها , فكيف ستساهم هذه الأنظمة في الدفع بثورة الشعب الفلسطيني إلى الأمام ؟ كما أن المشاكل التي تواجهها الجماهير العربية , وفقرها وتخلفها , قد يشغلها عن الالتفاف حول القضية الفلسطينية , خصوصاً في غياب التوجه السياسي القومي السليم , وفي ظل التحريض المعلن , والمبطن , ضد الثورة الفلسطينية , ففكر الثورة وإستراتيجيتها الكفاحية الهادفة لتغيير الواقع تمثل النقيض للواقع العربي , وهي إن لم تهدده اليوم فإنها لا تخلق قواعد انهياره . ولقد صفيت الثورة الفلسطينية في الأردن , بعد ذلك واجهت الحصار والتصفية في لبنان ,وهي اليوم تقف موقف المتفرج والقدس تهود والاستيطان يستشري , فأين هذه الأمة العربية , وهل فعلا أن القضية الفلسطينية قضيتها الأولى التي يرتبط مصير الأمة العربية بها ؟

الفصل الرابع
المجتمع الفلسطيني ومسألة الهوية

لا مجتمع دون هوية تميزه عن بقية المجتمعات , بل يمكن القول بأن الهوية هي أهم مكونات المجتمع فيه الكيمياء أو الغراء الذي يربط أفراد المجتمع بعضهم ببعض . إن التحليل الموضوعي لملابسات ظهور الهوية الوطنية الفلسطينية , وعلاقة هذا الظهور بالنضال القومي العام الذي يعتبر أو الوجود الصهيوني في فلسطين يشكل خطراً قومياً مصيرياً بالنسبة للأمة العربية , إن هذا التحليل سيؤكد أن ( القطرية الفلسطينية ) هي القطرية الوحيدة المبررة لارتباطها بإبراز الهوية الوطنية الفلسطينية وبإقامة دولة فلسطينية , إنها القطرية الفلسطينية التي تشكل النقيض للكيان الصهيوني ونفياً لمبررات وجوده , إنها القطرية الفلسطينية التي تشكل النقيض للكيان الصهيوني ونفياً لمبررات وجوده , وحيث أن الكيان الصهيوني يشكل النقيض للوجود القومي العربي الموحد والنقيض للطموحات وللمصالح القومية العربية , فأنه نضر للهوية كتعبير عن رؤية قومية متقدمة .
المبحث الأول
تلازم الهوية والمجتمع
المطلب الأول : في مفهوم الهوية Identity
أشتق المترجمون العرب القدامى كلمة الهوية من (الهو), فالمعنى الفلسفي للهوية هو ما يكون الشيء هو نفسه , ويقول الفارابي في ذلك " هوية الشيء وعينيته وتشخيصه وخصوصيته ووجوده المنفرد له , كل واحد , وقولنا إنه هو إشارة إلى هويته وخصوصيته ووجوده المنفرد له الذي لا يقع فيه اشتراك ". وهذا ما يؤكد عليه المفكر المغربي محمد عابد الجابري بالقول بأن معنى الهوية في الفكر الفلسفي العربي "قد استقر ليدل على ما به الشيء هو بوصفه وجوداً منفرداً متميزاً عن غيره" .
لا يختلف مفهوم الهوية في القواميس الأجنبية عن المفهوم العربي إلا في المحتوى الذي يرتبط بالثقافة , فالهوية رديف النا الذي هو غير الأخر , بمعنى أن التعريف الابستمولوجي للهوية لم يتغير ولكن مشتملاتها أو تعريفها الثقافي والحضاري هو الذي طرأت عليه تغيرات . وهكذا فللهوية تعريفات متعددة حسب العلم الذي يبحث فيها : علم النفس أو علم الإناسة أو علم الاجتماع , وسنقتصر هنا على تعريفها في مجال علم السياسة وعلم الاجتماع السياسي .
تتفق أغلب التعريفات بأن الهوية هي مجموعة الخصائص التي يمكن للفر\د عن طريقها أن يعرف نفسه في علاقته بالجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها والتي تميزه عن الأفراد المنتمين للجماعات الأخرى . هذه الخصائص أو المميزات الجمعية لا تتكون صدفة أو بقرار في لحظة تاريخية ما , بل تتجمع عناصرها وتطبع الجماعة بطابعها على مدار تاريخ الجماعة من خلال تراثها الإبداعي (الثقافة) وطابع حياتها (الواقع الاجتماعي ) , وتعبيرات خارجية شائعة مثل : الرموز والعادات والتقاليد وللهجة أو اللغة , وأهم مكونات الهوية هي تلك التي تنتقل بالوراثة داخل الجماعة وتظل محتفظة بوجودها وحيويتها بينهم مثل : الأساطير والقيم والتراث الثقافي. وبداهة أن الهوية ترتبط بالشخص أو الجماعة سواء كانت الجماعة تعيش على أرضها التاريخية أو موزعة في أرض الشتات , ولكن يجب توفر عنصر الانتماء للجماعة والوعي بالهوية .
وانطلاقاً مما سبق هناك ارتباط قوي ما بين هوية الفرد وهوية الجماعة , فهذه الأخيرة جمع لأفراد لهم نفس الهوية , فهوية الفرد تؤثر على هوية الجماعة , وهوية الجماعة تؤثر على هوية الفرد , وتكون الهوية عند الطرفين أكثر قوة وتماسكاً في حالات التهديد الخارجي وإذا ما تشاطر الطرفان نفس البيئة الاجتماعية وبطبيعة الحال نفس الأرض . الهوية عند الفرد تشكل " التعبير الصادق عن ذاتية الإنسان النفسية المستقلة , التي تميزه عما عداه من آخرين في نفس محيطه . وهي تتكون من خلال عمليات توحد وتطابق ومزج بين المسلمات الشخصية للفرد , ومن يؤثرون فيه اجتماعياً ونفسياً ثم تقوم التنشئة الاجتماعية بعملية ربط الهوية الفردية بالهوية الجماعية وتعزيز الشعور بالانتماء للجماعة داخل الفرد , بالإضافة إلى تحقيق بنية دافعة بداخل الفرد وظيفتها قبول هذا قبول هذا الأخير وتكيفه مع النموذج السياسي والاجتماعي والاقتصادي السائد في المجتمع . وتتقوى هذه النزعة في المجتمع حين تتحول إلى حركات سياسية أو اجتماعية احتجاجية إما في مواجهة تهديد من هويات محلية متعارضة معها أو في مواجهة تهديد من هويات أو ثقافات خارجية كما أن الهوية تتحدد كثقافة في سياق العلاقات الإنسانية حين إدراك المسائل العالمية والوعي بتعقدها . وهذا ما تلمسه اليوم مثلاً فيما يسمى بخطر العولمة الثقافية أو صراع الحضارات . ولكن تكوين الهوية وتمايزها – إنتاجها – يحتاج إلى زمن طويل , حيث يؤكد R.stavenhagen أن الجماعة الإثنية تعد نتاجاً للتاريخ وتقاوم من أجل الأرض أو طريقة الحياة . ومن ضمن المعالم المحددة للإثنية أو الهوية العرقية نذكر ( الخصوصيات الثقافية والدين والعرق والسلالة والاقتصاد والقومية والبيولوجيا ....) وهذه كلها بنيات ثقافية وبنيات للهوية تشكل معاني مشتركة للانتماء .
في كثير من الحالات يتداخل المفهوم العام للهوية مه الهوية العرقية , فهذه الأخيرة تتميز بخصائص جسمانية أو عرقية , الدين , اللغة أو في الأصل القومي , أو كل هذه الأشياء مجتمعة , إلا أن قاموس العلوم الاجتماعية يعرف الجماعة الأخرى العرقية بالقول ( يطلق في غالب الأحيان على أي جماعة تختلف عن الجماعات الأخرى في واحدة أو عدد من عادات حياتها ). أيضاً يجب التأكيد على أن تميز بهوية لا يعني تطابق أفراد الجماعة في كل شيء وخصوصاً بعد تجاوز المفاهيم العنصرية للهوية والقومية وانتشار قيم الديمقراطية التي تؤكد على التعدية . عن التماس الوحدة والتجانس والتماثل أبدا هو التماس لموات الوجود والتماس لخاصية التحجر والجمود وبالتالي تتناقض مع جوهر الديمقراطية . الهوية الحق هي تطابق الهوية مع الاختلاف كما يقول هيجل.
واليوم تتفاهم أزمة الهوية في العالم الثالث كظاهرة يطلق عليها برتراند بادي , أثنة العالم , فالعالم يشهد اليوم خحالة لا تخلو من تناقض ظاهري , فمن جانب تتعرض ثوابت الهوية للزعزعة , ومن جهة أخرى تنبثق هويات كانت يعتقد أنها تلاشت أو كانت كامنة وخصوصاً في مجتمعات فقيرة وضعيفة وجدت في الهوية العرقية أو الدينية الجدار الأخير الذي يحفظ لها كينونتها ويحول دون اندثارها بعد انهيار الأيديولوجيا . اليوم " يجرى إخراج الإنسان من يقينية وذاتيته وكينونته , وربطه إلى عصر الكونية الذي تذوب فيه كل الخصوصيات " .تقلبت إحدى أدوات العولمة ضدا على مسارها , حيث شجعت هذه الأخيرة , المجموعات الإثنية والدينية والقومية على لبس عباءة الديمقراطية . كما أصبح خطاب الهوية لا تصاغ بقوانين ولكنها كالكهرباء تحتمي في حياة البشر وتكمن في روح القوانين وفي سلوك الناس وتفكيرهم ومشاعرهم.
لا غرو أن التهديد الرئيس للهويات الثقافية في عالم اليوم يتأتى من العولمة الثقافية التي هي تعبير عن الهوية الثقافية للأخر – الثقافة الغربية المسيحية – التي تتوفر على عناصر القوة والتأثير بحيث تصبح الهويات الثقافية للمجتمعات الضعيفة في حالة خطر , إلا أنه ومهما بلغت قوة العولمة , فليس بمقدورها تقديم نموذج ثقافي بديل يستطيع تهميش الثقافات المحلية وإفراغ الهويات الثقافية من محتواها أو الحيلولة دون التصادم بينها وهذا ما أكد عليه شاهد من أهلها وهو هنتنغتون في كتابه الحضارات , تشكل ثقافة عالمية هو نوع من المحال لن البشر بطبيعتهم مختلفون والله خلقهم كذلك ولم يحدث في تاريخ البشرية أن توجد العالم ضمن هوية , فلا الديانات السماوية نجحت في ذلك ولا الإمبراطوريات بقوتها نجحت في ذلك . قد تنجح العولمة الاقتصادية والعلمية أو المعلوماتية لأنها ترتبط بالجوانب المعنوية , من لغة وعقيدة وتراث حضاري غير قابلة للتوحد وبالتالي ستبقى مسالة الهوية ملازمة لوجود الدول والمجتمعات .
وفي حياتنا العربية يعتبر تعدد الهويات وتداخلها أمر يميزنا عن غيرنا و فمن هوية وطنية أو قطرية إلى قومية إلى إسلامية إلى أممية . وعملت التربية الحزبية والثقافية السياسية للأحزاب العقائدية على تشوه الهوية والثقافية , حيث غلبت الإيدولوجيا على الهوية الوطنية والثقافية الوطنية , فالأممية ألغت الوطنية والقومية , والقومية ألغت الوطنية والإسلامية ألغت كل شيء حتى العلم الوطني والنشيد الوطني . إن أزمة الهوية في مجتمعاتنا مرتبطة بأزمة الدولة مرتبطة بأزمة الهوية وكلاهما يبررا شرعية طرح السؤال من نحن ؟ بالإضافة إلى ما سبق فأن الهوية العربية الإسلامية مشعبة بالأشخاص , فتقديس الأشخاص والرموز أهم من تقديس الأرض والوطن , تاريخ هويتنا وثقافتنا هو تاريخ أشخاص زعماء وليس تاريخ منجزات أو تاريخ دولة ووطن .
المطلب الثاني : الهوية ضمان وجود واستمرار المجتمع الفلسطيني:
فأن يثار اليوم وأكثر من أي يوم مضى موضوع الهوية والانتماء إنما مؤشر على وجود حالة من القلق , الثقافات تعيش اليوم حالة صراع لإثبات الوجود وللحفاظ على الخصوصيات , على الهوية والانتماء , في ظل عالم يتعولم قسراً إذا كان هذا حال الهوية في المجتمعات المستقلة والمستقرة فكيف بهوية كالهوية الوطنية الفلسطينية التي تتعرض لتهديد متعدد المصادر : من العدو الصهيوني لذي يشكل حالة نفي للهوية الفلسطينية , ومن العولمة الثقافية , وبدرجة أقل من الهويات الصديقة أو التي نتشارك معها في بعض الرموز والقيم المشتركة , كالقومية العربية والإسلام والأممية الإنسانية , هذا ناهيك عن خطر الغربة والشتات .
ومن المعروف أنه عندما توجد جماعة بأكملها في حالة من الحيرة والخوف تجاه موضوع الهوية , فذها دليل على أن هناك مسببات لهذا الخوف وأن هناك خطر حقيق على الهوية , فما بالك إذا كانت الهوية هي الهوية الفلسطينية التي تواجه عدواً لا يخفي أنه يمثل حالة نفي وتناقض مع أو جود الفلسطيني والهوية الفلسطينية .
لا شك أن كثيراً من الشعوب العربية تعيش أزمة هوية أو تنازع بين هويات وخصوصاً ما بين القطري والقومي والإسلامي والعلماني , إلا أن هذه الأزمة لديهم فكرية وإيديولوجية أكثر من كونها أزمة وجود , نحن نختلف عن بقية الشعوب العربية بالنسبة للهوية , فالمصري أو السوري أو المغربي , إلخ , إن تخلي عن هويته القطرية يبقى مسلماً أو عربياً يعيش على أرضه التاريخية , أما الفلسطيني إن تخلي عن هويته أو وهنت هويته و تضيع الأرض أكثر من أي هوية أخرى , فأن ضعفت الهوية أو غابت تضيع الأرض ويضيع الوطن .
من هنا يجب أن لا تتملكنا عقدة ذنب أو تقصير , إن طرحنا مسألة الهوية , وإن طالبنا بفك الاشتباك أو إعادة صياغة الأولويات ما بين الهوية الوطنية الفلسطينية والهويات الأخرى المتقاطعة معها . ونعترف أن للحديث عن الهوية الأن محاذير , فإن أعلينا شأن الهوية الوطنية على حساب القومية والإسلام تكون كمن يخدم العدو الذي يريد أن يفضل بين فلسطين ومحيطها العربي الإسلامي ليتمكن من الانفراد بالفلسطينيين . وأن تجاهلنا هويتنا لمصلحة أبعاد مأزومة فهذا يحرق القضية عن مسارها . فالبعد القومي الرسمي هو الذي أضاع ثلثي فلسطين عام 1948 وأضاع بقيتها عام 1967 , والحسم بمسألة الهوية من حيث الدين مخاطر أيضاً , فأن حصرنا دائرة اهتمامنا على البعد الديني دون تعقل نكون كمن \يدعم جماعات دينية توظف الدين بطريقة خطأ ونخسر بذلك الرأي العام العالمي , فتطرف بعض المسلمين هو الذي دفع العالم ليدرج حركاتنا الجهادية في قائمة الإرهاب , ولكن إن تجاهلنا البعد الديني نخسر دعم الشعوب المسلمة ولو كان دعماً محدوداً وعاطفياً , في وقت تشهد إسرائيل والعالم المسيحي مد أصولياً .
لسنوات والشعب الفلسطيني يقبل بانضواء هويته وتبعيتها لهذه الإيديولوجية أو تلك ولهذا النظام أو ذاك باسم العروبة تارة وباسم الإسلام أخرى وباسم الأممية تارة ثالثة , لسنوات ونحن نجد عذراً لتعدد التنظيمات الفلسطينية وللتداخل القومي الإسلامي والأممي , حين كانت الآمال واعدة بانتصار هذه الإيديولوجية أو تلك , ولكن بعد انهيار الإيديولوجيات التي كانت تزعم أنها تحتضن قضية وبعد سقوط معسكر أو معسكرات الحلفاء يحتاج الأمر إلى وقفة مع الذات ومن أجل الذات . ليس هذا كفر لا بالقومية ولا بالقوميين الصادقين , وليس كفراً بالإسلام والإسلاميين ولكننا أيضاً كفلسطينيين لن نكفر بفلسطين ولن نتخلى عنها إذا تخلى عنها الآخرون , لأن لا كرامة للفلسطينيين لن نكفر بفلسطين ولن نتخلى عنها إذا تخلى عنها الآخرون , لأن لا كرامة للفلسطيني ولا معنى لوجوده دون هوية خاصة ومتميزة .
ومع كامل احترامنا للتنظيمات العقائدية الفلسطينية , ومع كامل التفهم للدوافع التي حذت بهم لتبني هذه الإيديولوجية أو تلك , او الالتحاق بهذا النظام أو ذاك , فإن المرحلة التي تمر بها القضية اليوم تحتم على الجميع التمسك بالهوية الوطنية الفلسطينية أكثر من أي وقت مضى , والاعتراف انه اليوم ما حك جلدك مثل ظفرك , وأن لا مدخل لفلسطين إلا عبر فلسطين والهوية الفلسطينية . وهذا يتطلب الاتفاق على برنامج وطني ودستور متحرر من الضغوطات الخارجية والحساسيات الأيديولوجية , برنامج يكون شعاره إنقاذ ما يمكن إنقاذه من فلسطين الأرض وفلسطين الوطن لإعادة بناء الدولة الفلسطينية على ما يمكن إنقاذه من أرض فلسطين التاريخية . قد لا يعجب هذا القول القوميين والإسلاميين من الأشقاء العرب والمسلمين , ولكن على هؤلاء أن يعرفوا أنهم ينظرون , منتقدين أو محرضين ورافعين شعارات كبرى , وهم في أوطانهم القطرية وعلى أرضهم ووسط شعوبهم , أما نحن الفلسطينيين ففي مفترق طرق , إما أن نكون أو لا نكون .
اليوم على الفلسطيني أن يرفع عالياً وباعتزاز راية الهوية الوطنية الفلسطينية دون عقدة تأنيب ضمير أيديولوجي أو أخلاقي و لأن الفلسطيني أعطى للأمة العربية والإسلامية الكثير وراهن حتى آخر شعار من شعارات القومين والثوريين والإسلاميين , اليوم لا يمكن للفلسطيني أن يجلس وينتظر زعيما قومياً أو إسلامياً أو أممياً جديداً ليناضل تحت جلبابه , ليس فقدنا للأمل بالمستقبل , أمل أن تنهض الأمة من كبوتها , ولا كفراً بالعروبة والإسلام ولكن رفضا لأدعياء العروبة والإسلام وحفاظاً على الهوية الوطنية وصيانة لها من الاندثار.
إن المتابع للسياسة الإسرائيلية في حربها ضد الشعب الفلسطيني , يلمس أن هذه السياسة تعمل على جبهتين : جبهة عسكرية لاحتلال الأرض وجبهة سياسية ثقافية لهزم ذاكرة الإنسان الفلسطيني وتشويه تاريخ القضية , ليصبح الشعب الفلسطيني شعباً بلا تاريخ وبالتالي بلا هوية , وعندما تنتفي الهوية الوطنية عن شعب يسقط حقه في دولة مستقلة بل يفقد حقه بالحياة وبالتالي هناك علاقة توحد ما بين الهوية والدولة , وبدون دولة تحمل اسم فلسطين تصبح هويتنا الفلسطينية مهددة بالزوال .
إن كنا نؤكد على أهمية الهوية وإعلاء شأنها , فالسؤال هو ما المقصود بالهوية الفلسطينية ؟ وهل يمكن أنه تكون شيئاً مغايراً للهوية العربية والإسلامية , وهل حصرها بنصوص دستورية يخدم القضية في هذه المرحلة ؟
من خلال ما سبق يمكن القول إن الحديث عن هوية فلسطينية لا يعني القطيعة مع الهويات الأخرى ولا تطابق أفراد الجماعة – الشعب الفلسطيني – في الدين والفكر والعرق , فالتعددية جزء من الهوية بالمقهوم الحضاري الديمقراطي ولكنها تعددية في إطار الوحدة هوية لا تقوم على الإقصاء بل على الاستيعاب والتعايش وعلى هذا الأساس يمكن للدين أن يكون جزءا من الهوية لا أن تغيب الهوية الوطنية في إطار الدين أو بالأصح لمصلحة إيديولوجية دينية , ويمكن للعروبة أن تكون جزءا من الهوية الفلسطينية , لا أن تغيب الهوية الوطنية في إطار العروبة أو بالأصح أيديولوجية قومية توظفها لمصالحها أو لخدمة هويات قطرية . فقد أتضح من خلال تجاربنا السياسية في العقود السابقة أن انضواءنا تحت رايات هويات قومية أو أممية أو إسلامية آل إلى تبعية ممقوته لأنظمة وقيادات لم تكن أمنية لا للقضية الفلسطينية ولا للأيديولوجيات التي يزعمون الانتساب إليها .
إن كان الدين والقومية جزءاً من الهوية الفلسطينية , فهذا لا يعطي للهوية الفلسطينية أية خصوصية لأنها قاسم مشترك بين عدة دول عربية , الهوية الفلسطينية هي ما سبق , ذاكرة الشعب الفلسطيني , تقاليده ولهجته ولباسه ومعاناته ومشاعره وأحاسيسه المشتركة , ورموز أخرى يجب استحضارها إن كانت مغيبة وخلقها إن كانت غير موجودة أن تكون فلسطينياً معناه أن تكون مختلفاً عن الآخر ليس الاختلاف النقيض بل اختلاف لتميز , أيا كان هذا الأخر , وهذا لن يكون إلا بدولة فلسطينية مستقلة.



المبحث الثاني
المجتمع الفلسطيني وتداخل الهويات
المطلب الأول : جذور الهوية السياسية الفلسطينية:
تتميز القطرية الفلسطينية عن غيرها من القطريات العربية بأنها قطرية قسرية نضالية لم تأت اختيار ذاتي أو تعبيراً عن اختمار لمصالح وأفكار إقليمية أرادت أن تعبر عن نفسها علناً , كما أنها قطرية ولدت في ارض المعركة ومن خلال الصراع الدامي مع العدو , وأنها قطرية جاءت كرد فعل على المشروع الصهيوني الهادف إلى اجتثاث فلسطين من قلب الأمة العربية , وإقامة كيان يهودي على أرض فلسطين , على حساب نفي وإنكار وجود الشعب الفلسطيني صاحب الحق التاريخي في فلسطين.
لقد روجت الصهيونية المدعومة إمبريالية مقولة "أرض بلا شعب بلا أرض " , خدعت الرأي العام العالمي وغلطته بهذه المقولة التي تمثل تجنياً صارخاً على الحقيقة والواقع لأنها تتأهل أن أرض فلسطين يقظتها تاريخياً الشعب الفلسطيني وأنه حسب كل القوانين والشرائع لا يمكن أن تعطي المبرر لاغتصاب ارض فلسطين بالإدعاء بأنها أرض بلا شعب , وكأنهم يتحدثون عن ارض مكتشفة في كوكب جديد وليس عن أرض تقع في كركز الكرة الأرضية ومنبع الحضارات والأديان السماوية , وعندما صدر وعد بلفور في 1917 , والذي أعطى اليهود الحق بإقامة وطن قومي لهم في ارض فلسطين , وتجاهلت بريطانياً في وعدها غير الشرعي وغير القانوني وجود الشعب العربي الفلسطيني , واعتبرت الفلسطينيين العرب مجرد اقليات .
هذا التجاهل للوجود الوطني الفلسطيني استمر يحكم السياسة السهونية والأمريكية ومن يدور في فلكهم وذلك لأن الإعتراف بحقوق وطنية هذا الشعب على أرضه فلسطين , وعليه لا نستغرب تصريح غولدا مائيير في 1969 لجريدة "صانداي تايمز" اللندنية والذي قالت فيه بكل وكل وقاحة " لا وجود للفلسطينيين , ولا يوجد شعب في فلسطين يعتبر نفسه الشعب الفلسطيني , وليس صحيحاً أن هذا الشعب كان موجوداً وأننا طردناه وأخذناه أرضه وبلاده , وإنما المسألة أنه لم وجد بفلسطين قط.
إن التحليل الموضوعي المنزه عن أي أغراض تحريضية تشهيرية والساعي إلى الحقيقة خدمة للحق في تعامله مع القطرية الفلسطينية يجب أن يأخذ بعين الاعتبار أن هذه القطرية تشكل رداً ثورياً قومياً على المشروع الصهيوني الإمبريالي الذي ينكر الوجود الوطني للشعب الفلسطيني . والمغالطة الكبيرة التي يقع فيها أولئك الذين يلصقون صفة الإقليمية بحركة المقاومة الفلسطينية , إنهم يجهلون أن إبراز الخصوصية الفلسطينية والمطالبة بالتأكيد على الهوية الوطنية للشعب العربي الفلسطيني اسبق من ظهور الحركة القومية العربية المنظمة , فالقطرية الفلسطينية ليست بنت يومها بل وجدت منذ أن وجد الخطر الصهيوني المهدد لعروبة أرض فلسطين وشعب فلسطين وحتى تتضح كل أبعاد القضية سنرجع إلى البدايات الأولى لتلمس الفلسطينيين لخصوصية قضيتهم .
مع اقتراب التاسع عشر من نهايته بدأت تضح معالم المخطط الصهيوني الاستعماري لإقامة وطن لليهود في فلسطين كحل لما سمي بالمسألة اليهودية , وليشكل قاعدة للاستعمار تخدم أهدافه في المنطقة العربية , وكان نجاح هذا المخطط يعتمد اعتماداً كلياً على قدرة أصحابه على جلب اليهود من بقاع المعمورة لإسكانهم في فلسطين , ومن هنا بدأت تتدفق أفواج المهاجرين اليهود مشبعين بالعقيدة الصهيونية والتطرف الديني , وكانوا لا ينظرون لدخولهم إلى فلسطين على أنه مجرد زيارة أو مهرب من الاضطهاد المسلط عليهم في أوروبا , بل اعتبروا دخولهم فلسطين عودة إلى " أرض الميعاد " , العودة التي وعدهم فيها "ربهم" وتعاملوا مع السكان الفلسطينيين أصحاب الأرض على أنهم محتلون لا حق لهم في فلسطين , وعليه اتسمت العلاقة بين الطرفين منذ بداية بالتوتر والتشاحن , وشعر الفلسطينيون بأن هؤلاء الدخلاء يشكلون تهديداً عليهم , وعلى استقرارهم ومعيشتهم فارتفعت النداءات الفلسطينية تندد بهذا الخطر الداهم وتحذر أولى المر من السكوت على المشروع الصهيوني الاستيطاني .
حيث أنه في نهاية القرن الماضي لم يكن هناك حركة قومية عربية ولا إستراتيجية قومية عربية , بل يكن هناك دول عربية مستقلة يتوجه إليها الفلسطينيون لطلب العون , فقد اتجه الفلسطينيون إلى الإمبراطورية العثمانية التي كانت فلسطين جزءاً منها . ففي 24/6/1891 أرسل عدد من زعماء القدس رسالة إلى الصدر الأعظم في الآستانة يطالبون فيها منع اليهود من دخول فلسطين وتحريم شرائهم الأرض فيها , وقد أصدر الباب العالي قرار في عام 1901 يمنع بمقتضاه أي يهودي من دخول السلطنة إلا إذا كان سيغادر بعد ثلاثة شهور , إلا أن القرار لم يطبق بفعل مدخلات خارجية , كما أن السلطان عبد الحميد رفض الخضوع للإغراءات التي عرضها عليه الصهاينة من أجل أن يبيعهم فلسطين أو يسهل عليهم الهجرة والإقامة فيها .
وبعد وصول جماعة الاتحاد والترقي إلى الحكم في الإمبراطورية العثمانية , ونظراً للعلاقة الجيدة التي كانت تربطهم بالحركة الصهيونية , والتأثير الذي كانت تمارسه الحركة الماسونية عليهم , تزيد النشاط الصهيوني في فلسطين , الأمر الذي أدى بالفلسطينيين إلى أن يرفعوا شكواهم إلى مجلس " المبعوثان " العثماني , حيث تساءل حافظ بك السعيد نائب يافا في المجلس , في يونيو 1909 , عما إذا كانت الحركة الصهيونية ومشاريعها الاستيطانية متوافقة مع مصلحة الإمبراطورية العثمانية وطالب النائب بأن تتخذ الحكومة الإجراءات الكفيلة بالحد من الهجرة اليهودية , وأن تغلق ميناء حيفا في وجه المهاجرين .
وفي العام التالي وجه عبد الله مخلص وهو كاتب فلسطيني كتاباً مفتوحاً إلى مجلس المبعوثان نشرته جريدة المقتبس , يحذر فيه من الخطر الذي يتهدد أرض وشعب فلسطين نتيجة الهجرة الصهيونية واستيلاء اليهود على الأراضي العربية بشتى الطرق ومما جاء في الكتاب " إن البلاد الفلسطينية أصبحت على شفا جرف من الخطر وقد لا يمضي عليها عشرات من السنين إلا ويعمل بها ناموس تنازع البقاء عمله الطبيعي .
وتصبح البلاد كلياً للاجئين اليهود " , وقد أدى الكاتب خشيته من " أن ينبذ الدخيل الأصيل وتخرج من بلادنا . ثم نميل بوجوهنا إلى بقعتنا النضرة نبكها . ويصيبنا ما أصاب الأندلسيين في أواخر أيام أدبارهم " وقد أثبتت الأحداث صدق تخوفاته وتحقق تنبؤاته .
لم تجد المناشدة الفلسطينية بدرء الخطر الصهيوني أي تجاوب من الحكومة العثمانية أو من الرأي العام العربي الذي كان مشغولاً آنذاك بظهور حركة جنينية لفكرة القومية العربية والاستقلال العربي , وكانت الاهتمامات منقسمة ما بين الحركات القومية التي تطالب بالانفصال عن الإمبراطورية وإقامة حكومة عربية وكان أبرز هذه الحركات حزب العربية الفتاه وحزب العهد . وهذه الحركات كان نشاطها محصوراً , وبين دعاة اللامركزية الذين كانوا يطالبون بإعطاء العرب حكماً لا مركزياً في ظل الإمبراطورية العثمانية , وحيث أن هذا التيار الأخير كان نشاطه علنياً وكان على علاقة بالسلطة العثمانية , فقد اتجه إليه الفلسطينيون عسى أن يتفهم قضيتهم ويوصلها على المعنيين بالأمر في الآستانة .
بنى الفلسطينيون آمالاُ عريضة على انعقاد المؤتمر العربي الأول في باريس في يونيو 1913 , الذي أقامه دعاة اللامركزية , واعتقد الفلسطينيون أن المؤتمرين سيولون القضية الفلسطينية الاهتمام الذي تستحقه , ومن بين 387 رسالة وصلت للمؤتمر تندد بالخطر الصهيوني وتبارك المؤتمرين , كانت 139 وردت من فلسطين .
إلا أن المؤتمر تجاهل الفلسطينيين ولم يتطرق للخطر الصهيوني , الأمر الذي آثار استنكار فلسطينياً عكسته الصحف الفلسطينية وأهمها صحيفة الكرمل التي كان يصدرها نجيب نصار , حيث تساءلت الصحيفة " هل جري الاتفاق على الرضا بمناهضة كل حركة حياتية تظهر منا وترك أبناء الصهيونية يحيون قوميتهم بموت قوميتنا ؟ . هل جرى الاتفاق على أن نبيعهم وطننا قطعة ليرحلونا عنه فرادي وجماعات ؟" وأوضحت الصحيفة بأن الدفاع عن عروبة فلسطين واجب قومي فهو دفاع عن الأمة العربية وأن المصلحة القومية تتطلب ايلاء اهتمام للمسألة الفلسطينية .
لقد أدى تفاهم الخطر الصهيوني الذي أصبح الهم اليومي للفلسطينيين و والموقف السلبي للسلطات العثمانية وللرأي العام العربي المغيب , الموقف السلبي للسلطات العثمانية وللرأي العام العربي المغيب عن مجريات الأحداث , تجاه الخطر الصهيوني , الهجرة اليهودية إلى الحاجة لأن يتلمس الفلسطينيون حلولا ذاتية لقضيتهم , ومن هنا بدأت الدعوة للتأكد على الخصوصية الفلسطينية , والدعوة إلى وجود شكل ما لحركة وطنية فلسطينية تدافع عن مصالح الفلسطينيين ضد الخطر الصهيوني , فكتب نجيب نصار في جريدته الكرمل " ليس لنا نصيب في طلاب الإصلاح وحزب اللامركزية ومؤتمر باريس . نحن أملنا أن يدفعوا عنا خطر الصهيونية . لأننا فريق من العرب الذي يطلب لهم الإصلاح . وهذا الفريق يؤلف قوة لايستهان بها , وطننا جزء لا يتجزأ من الوطن العربي العثماني . ولمواجهة الوضع فقد دعر نصار لأهلها لترقية شؤونهم الزراعية والاقتصادية والعلمية وإيجاد الألفة الاجتماعية فيما بينهم " .
لقد أكد الفلسطينيون بجلاء بأن دعوتهم لبلورة خصوصية وطنية وهوياتية كانت الوسيلة الوحيدة أمامهم للحفاظ على وطنهم " علينا أن نطلب الحياة من طريقها الصحيح لا أن نقول للغير ارحمونا وادفعوا عنا البلاء ولا للطامعين فينا أشفقوا علينا وكفوا عن الطمع فينا , فهذه الأقوال ليس لها وجود في قاموس تنازع البقاء " تجاوب الفلسطينيون مع هذه الدعوة التي تشكل درع وقاية وحماية لهم في مواجهة محاولات شطب الهوية الوطنية الفلسطينية وانتقلت الفكرة إلى حيز التطبيق لتفتح الباب أمام الفلسطينيين لتلمس دور خاص لهم في معركتهم المصرية .
وهكذا شهد عام 1914 ظهور عدة جمعيات وطنية فلسطينية وضعت هدفاً أساسياً لها مواجهة الجمعيات الصهيونية , والتأكيد على الهوية الوطنية الفلسطينية , ففي نابلس قامت جمعية ( الشبيبة النابلسية) وفي القاهرة تداعى الطلبة الفلسطينيون إلى تأليف جمعية (اللاصهيونية) , إلا أن نشوب الحرب العالمية الأولى وقيام الثورة العربية الكبرى , أديا إلى أن يجمد الفلسطينيون وجودهم بين منظمي الجمعيات القومية , وكانوا من بين قادتها , كما أعدم العديد من الفلسطينيين في المجازر التي اقترفها جمال باشا السفاح ضد القوميين العرب في سنوات الحرب الأولى , وأصبحت مطالب الفلسطينيين هي نفس مطالب القوميين العرب والتي حددها ميثاق دمشق 1915.
ولم تأت الرياح بما تشتهي السفن . حيث تبددت الآمال التي بناها العرب على تحالفهم مع الحلفاء , وأنت نتائج الحرب إلى خلق وضع جديد في المنطقة أرست نتائج الحرب إلى خلق وضع جديد في المنطقة أرست دعائمه اتفاقية سايكس يسكو , ووعد بلفور , أي التجزئة وخلق كيان يهودي يحفظ استمرارية هذه التجزئة وكان لا بد أن تتأثر الحركة القومية العربية الناشئة بهذا الوضع المستجد , فاتفق أعضاء حزب العهد على أن يصيغوا إستراتيجية جديدة لمواجهة متطلبات المرحلة , وانقسموا غل حزبين سوري وعراقي , يقوم كل منهم بجهوده في نطاقه الإقليمي , وحل بذلك مفهو الوطن القطري محل الوطن القومي الذي يواجههم , بفعل تبدد ما بنوه من آمال , وترتيب أوضاعهم القطرية , ومواجهة القوات الأجنبية المحتلة لأراضيها , والمخطط الصهيوني أصبح سافراً ومكشوفاً ولم يعد خافياً على أحد , والقوات البريطانية احتلت فلسطين وعملت على وضع وعد بلفور موضع التطبيق .
صور ساطع الحصري ما آلت إليه الأوضاع العربية بقوله " فهذا فلسطيني يعتبر الصهيونية أول كما يجب أن يهتم به من مشاكل , وذلك سوري يرى في أطماع فرنسية أكبر الأطماع والأخطار التي تهدد قضيته , وذاك عراقي يقول بوجوب الثورة ضد الإنكليز أولاً ". وبقي الفلسطينيون وحدهم في الميدان محبطي الآمال , فحطم الوطن القومي تلاشي وبعد , والوطن القطري أصبح مهدداً بالضياع وغير معترف لهم به .
وجد الفلسطينيون في الحكومة العربية التي اعلن عن قيامها فيصل الأول في سوريا حلا المأزق الذي وجدوا أنفسهم فيه أواخر الحرب العالمية الأولى . فالانتماء لسوريا الكبرى حقيقة يؤكدها التاريخ من جانب والانتماء للحكومة الفصيلة يعني الاعتماد على سلطة قومية موجدة تدافع عن حقوق عرب فلسطين الذين لم تتبلور لديهم أية هيئة سياسية معترف بها تدافع عن حقوقهم في مواجهة المخطط الصهيوني البريطاني , وبالإضافة على ذلك فإن الإقليمية كانت بالنسبة للفلسطينيين هي أسوأ الحلول , وعليه لم تتبلور آنذاك لدى الانتلجنيسيا الفلسطينية , وحتى لدى أصحاب المصالح أية منظومة فكرية إقليمية تقوم على أساس فصل فلسطين عن محيطها العربي .
أحيا الفلسطينيون فكرة إيجاد جمعيات مسيحية إسلامية تقف في وجه الحركة الصهيونية المدعومة استعمارياً وكان 1918 عام تبلور هذه الجمعيات وأخذها شكلاً تنظيمياً تجسد في دعوتها إلى عقد المؤتمر الفلسطيني الأول في فبراير من نفس العام , حيث أكد الفلسطينيون انتمائهم القومي من خلال تأكيدهم على الروابط الجغرافية التي تربطهم بسوريا الكبرى . وقد افتتح بنشيد الأمير فيصل , وصادق المؤتمرون على القرارات التالية:
1- "إننا نعتبر فلسطين جزءاً من سوريا العربية إذ لم يحدث قط أن انفصلت عنها في أي وقت من الأوقات ونحن مرتبطون بها بروابط قومية ودينية ولغوية وطبيعية واقتصادية وجغرافية .
2- إن التصريح الذي أدلى به المسيوبيكو وزير خارجية فرنسا , فقال فيه إن لفرنسا حقوقاً في بلدنا على رغائب ومطامح السكان , ليس له أساس ونحن نرفض جميع التصريحات التي أدلى بها لأن تمنياتنا ومطامحنا تنحصر في الوحدة العربية والاستقلال الناجز.
3- على بناء ما تقدم نعرب عن رغباتنا بأن لا تنفصل سوريا الجنوبية ( فلسطين ) عن حكومة سوريا العربية وأن تكون متحررة من جميع أنواع النفوذ والحماية الأجنبيين.
4- وفقاً للمبدأ وضعه الرئيس ولسون وأقرته معظم الدول الكبرى نعتبر كل وعد صدر أو معاهدة عقدت فيما يتعلق ببلادنا ومستقبلها لاغيين وباطلين ونحن نرفضها .
وفي خطوة لاحقة طالب الفلسطينيون باستقلال مع تأكيد انتمائها إلى سوريا الطبيعية , هذا ما تضمنته العريضة التي قدمها الفلسطينيون إلى لجنة كنغ كوين التي أوفدها مؤتمر الصلح المنعقد في باريس للبحث في المطالب العربية , فقد طالب الفلسطينيون :
‌أ- أن تكون سوريا التي تمتد من جبال طوروس شمالاً على ترعة السويس جنوباً مستقلة استقلالا تاماً ضمن الوحدة العربية .
‌ب- أن تكون ففلسطين التي هي جزء لا ينفك عن سوريا مستقلة استقلالها داخلياً , تختار حاكمها من الوطنيين حسب رغائب أهلها وحاجات البلاد .
‌ج- المطالبة بدولة فلسطينية مستقلة .
إذا كانت الدولة القطرية إحدى إفرازات المشروع الاستعماري في المنطقة العربية وشكل وجودها بالنسبة لراسمي مخطط التجزئة والمدافعين عنه الحاجز المعرقل للوحدة العربية والمشتت للجهد العربي , فإن الدولة القطرية الفلسطينية مثلت النقيض لذلك , حيث وضع المخططون الاستعماريون تغييب هذه الدولة ونفي عروبة سكانها كأحد مرتكزات مخططهم في المنطقة . هكذا إذا كان مطلب الوحدة العربية وتجاوز الواقع الإقليمي العري يشكلان أحد مرتكزات النضال القومي التحرير العربي , فإن المطالبة الفلسطينية المستقلة وإقامة الكيان العربي الفلسطيني يصبان في نفس الاتجاه .
ومن هنا نجد أن المطالبة بالدولة الفلسطينية شكل مطلباً نضال للشعب الفلسطيني ناضل وما يزال يناضل من أجله ابتداء من عشرينات هذا القرن وحتى يومنا .
منذ 1920 أخذت الأحداث منحي خطيراً , فالمشروع الصهيوني أخذت تتضح أبعاده العدوانية , الحركة الصهيونية أخذت تستقطب المزيد من المهاجرين اليهود , وتقيم المستعمرات المسلحة وتدرب اليهود على أحدث أنواع الأسلحة , وأصبحت اعمال التحرش بالمواطنين العرب وإثارة مشاعرهم الدينية والقومية , عملية يومية مخططا لها . وبدأت بريطانيا واستفزازاتهم . وفي ظل هذه الأجواء المتوترة داخلياً , سقطت الحكومة العربية في دمشق , وضربت الثورة العراقية في نوفمبر 1920 وأعلن الانتداب على فلسطين .

تكالبت كل هذه الظروف المحيطة , لتزعزع ما تبقى لدى الفلسطينيين من أمل المراهنة على الحركة القومية العربية أو على الاحتماء بالانتماء على سوريا الكبرى , وشعروا أن الظرف يفرض عليهم , تحديد مطالبهم بوضوح وموضوعية آخذين بعين الاعتبار الوضع العربي العام , وكان بروز حركة وطنية فلسطينية هو الحل المرحلي للرد على متطلبات المرحلة , وكان عقد المؤتمر الفلسطيني الثالث في ديسمبر 1920 تحت رئاسة موسى كاظم الحسيني , ووضع المؤتمرون ( الميثاق الوطني الفلسطيني ) وانتخبوا لجنة تنفيذية لتقوم بالسهر على قيادة العمل السياسي ومتابعة تنفيذ القرارات , وقد حدد المؤتمرون مطالبهم في التقرير الذي رفعه رئيس المؤتمر إلى هربت صموئيل ممثل الحكومة البريطانية في فلسطيني , حيث طالبوا ب " تشكيل حكومة وطنية أمام مجلس نيابي ينتخب أعضاؤه من الشعب المتكلم باللغة العربية القاطن في فلسطين حتى الحرب ".
كان المؤتمر الوطني الثالث بمثابة التطبيق العلمي للدعوة التي سبق أو وجهها نجيب نصار قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى , عبر جريدة الكرمل مطالباً بأن يعتمد الفلسطينيون على أنفسهم , ويخلقوا جامعتهم الوطنية الخاصة بهم وكان المؤتمر إشارة انطلاق لحركة وطنية فلسطينية عبرت عن نفسها في نفس الفترة وأصبحت المطالبة بدولة فلسطينية تشكل جزءاً مركزياً من الفكر السياسي الفلسطيني , تبرز بقوة حينا وتخبوا وتتراجع أحياناً , وفي جميع الحالات كانت تعبر عن وعي , كياني غامض المعالم إلا أنه ثابت في الوجدان الفلسطيني .
على أثر إعلان اليهود عن قيام دولتهم في مايو 1948 , طالبت الحركة الوطنية الفلسطينية ممثلة في الهيئة العربية العليا , بإقامة حكومة فلسطينية , استناد على قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في نوفمبر 1974 ,وكان دافع الهيئة العليا وراء ذلك هو الخشية من حدوث فراغ سياسي في المناطق المخصصة للعرب حسب قرار التقسيم إلا أن طلب الهيئة العربية العليا لم يجد تجاوباً عربياً في حينه . وفي خريف نفس العام , مع اقتراب دورة الأمم المتحدة الخاصة بالقضية الفلسطينية , وما يتطلبه الأمر من وجود فلسطينيين يمتلكون الشرعية لتمثيل الشعب الفلسطيني قانونياً , تحمست الدول العربية لإيجاد هؤلاء الممثلين . وانتهزت الهيئة العربية العليا الفرصة ودعت إلى عقد مؤتمر غزة في أكتوبر 1948 , وأهم ما خرج به المؤتمرون هو تشكيل حكومة عموم فلسطين , وقد جاء في قرار الإعلان الذي أبلغت به الدول العربية " تقرر إعلان حكومة فلسطين بأجمعها وحدودها المعروفة وإقامة حكومة فيها تعرف بحكومة عموم فلسطين على أسس ديمقراطية " .
على اثر الإعلان عن تشكيل حكومة عموم فلسطين , عقد " المجلس الوطني الأول , الذي أعلن عن استقلال فلسطين وليس عن المطالبة باستقلال فلسطين أو الدعوة للعمل من اجل استقلال فلسطين و حيث أن فلسطين آنذاك كانت خاضعة لقوات أجنبية – وورد في المقررات الختامية للمجلس : " بناء على الحق الطبيعي و التارخي للشهب العربي الفلسطيني في الحرية والاستقلال , هذا الحق المقدس الذي بذل في سبيله أزكى الدماء , وقدم من أجله أكرم الشهداء وكافح دولة قوى الاستعمار والصهيونية التي تألبت عليه وحالت بينه وبين التمتع به فإننا نحن المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في غزة هاشم نعلن استقلال فلسطين كلها التي يحدها شمالا سوريا ولبنان وشرقا الأردن , وغرباً البحر الأبيض المتوسط وجنوب سيناء.
إلا هذه الحكومة جوبهت بالرفض ليس فقط من قبل العدو الصهيوني , بل أيضا بالتجاهل العداء من قبل أطراف عربية ودولية , كانت الوقائع تتعزز وتتكرس بقوة السلاح وقوة الباطل الصهيوني الاستعماري و فالأرض الفلسطينية التي من المفروض أن تمارس حكومة فلسطين سيادتها عليها والتي أعلن عن استقلالها , كانت إما خاضعة للقوات الصهيونية , أو تتواجد عليها جيوش عربية تفرض قوانينها العسكرية عليها , وزاد الخريفية لعام 1948 رفضت الاعتراف بها كحكومة شرعية , واعتبرتها حكومة صورية , كما مارست بريطانيا ضغوطا على الدول العربية لتهميش فاعلية حكومة عموم فلسطين ونسقت جهودها مع الأردن , الذي حاول أن يسحب بساط الشرعية الفلسطينية من تحت أقدام الحكومة الفلسطينية بدعوته إلى عقد مؤتمر فلسطيني مناوي لمؤتمر غزة . فبعد حوالي شهرين من مؤتمر غزة عقد مؤتمر فلسطيني سمي " المؤتمر الفلسطيني الثاني " وحضرته شخصيات فلسطينية استمالها الملك عبد الله أو أجبرت على الحضور ح حيث أن المجتمعين كانوا من سكان المنطقة الخاضعة لسيطرة الجيش الأردني – وقد اتضحت أهداف المؤتمر المعايدة للهوية الوطنية الفلسطينية والاستقلالية الفلسطينية من خلال القرار الصادر عن المؤتمر والذي جاء فيه " إرسال برقية للهيئة العربية يشعرها بأنه نزع منها ثقة عرب فلسطين , فهي لا تمثلهم ولا حق لها أن تنطلق باسمهم أو تعبر عن رأيهم لأن الحكومات العربية قد احتضنت قضية فلسطين , وهي أصبحت وديعة بين يدي الملوك العرب الذين يطمئن الشعب الفلسطيني إلى مساعيهم في سبيل صيانة عروبتها وتحقيق وحدتها " .
رافقت الخطوة الأردنية هذه مع بداية شهور الحكومات العربية وخصوصاً المحيطة بفلسطين , بأن حكومة عموم فلسطين أصبحت تشكل عبئاً عليها وحجر عثرة في طريقها نحو إنهاء المشكل الفلسطيني بأي شكل من الأشكال وخصوصاً بعد توقيع الحكومات المشاركة في حرب 1948 على اتفاقيات الهدنة مع إسرائيل , والتي بمقتضاها تخلصت الحكومات العربية من التزامها العسكرية في فلسطين . وعلى المستوى الدولي فمنذ الدورة السابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة 14/10-21/125/1952 طوت الجمعية العامة البلد المسمى " القضية الفلسطينية " عن جدول أعمالها السنوي العام لوكالة الإغاثة .
ومما ساهم في سرعة طي القضية الفلسطينية في المنتظم الدولي , أن الحكومات العربية الممثلة في هيئة الأمم المتحدة لم تقف جدياً في دعم حكومة عموم فلسطين دولياً , ولم تستغل علاقاتها مع الدول الأجنبية لكسب هذا التأييد المر الذي ترتب عنه عدم اعتراف دول أجنبية بالحكومة الفلسطينية في وقت اعترفت غالبية أعضاء المم المتحدة بالكيان الصهيوني , كما كان من نتيجة عدم الالتزام العربي الجاد بحكومة عموم فلسطين – التي مثلت الهوية الوطنية الفلسطينية والحق الفلسطيني – أن احتاج الشعب الفلسطيني والأمة العربية لتقديم قوافل الشهداء وخوض نضالات على كافة المستويات حتى تستعيد القضية الفلسطينية موقعا الحقيق كقضية سياسية قضية شعب تحتل أرضه , وليس مجرد قضية لاجئين , ومازالت القضية بين اخذ ورد على المستوى الدولي .

المطلب الثاني : مسألة الهوية في المواثيق الفلسطينية ما قبل سلطة الحكم الذاتي :
كما بينا سابقاً نحتاج ولا شك إلى مشروع وطني خاص بنا يعبر عن هويتنا التي يجب أن نبينها ونؤكد عليها كضرورة للبقاء , ويجب الاعتراف أننا نعيش أزمة هوية ليس اليوم بل منذ عام 1948 إن لم يكن قبل ذلك , لأن شعبا دون دولة مستقلة تكون هويته معرضه للتشويه أو للزوال , فهناك فرق بين الوطنية والثورية من جانب والهوية من جانب آخر , إن أزمة الهوية التي نلمسها من خلال التداخل بين الهوية الوطنية الفلسطينية وهويات أخرى , قومية تارة من 1948 إلى 1965 – وماركسية واشتراكية تارة أخرى , ثم إسلامية أخيراً , وهي هويات إن كانت تفسح المجال للشعب الفلسطيني لممارسة حقه بالنضال من أجل الاستقلال إلا أنها لا يمكن أن تكون بديلا عن هويته الوطنية ولا تشكل ضمانة لهذه الهوية , فإلحاق هويتنا بهذه الهويات وبالقوى السياسية التي تمثلها سيؤدي – وادي بالفعل – لانتكاس هويتنا وقضيتنا بانتكاسه هذه الهويات أو تراجعها , أو نعيش على هامشها وفي تبعيتها .
هذا التغيب والاستلاب للهوية الفلسطينية لصالح هويات شمولية مسيسة , غامضة أو مغامرة , أضر بنا على كافة الأصعدة وفي جميع المجالات , ومن هنا لزاما علينا بلورة هويتنا الخاصة بنا التي لا تقطع من الهويات الأخرى ولكن في نفس الوقت لا تكون تابعة وملحقة بها . ومن المعلوم أن الهاجس الذي سيطر على مفجري ثورة فاتح يناير 1965 هو موضوع الهوية , فالثورة الفلسطينية المعاصرة كانت تجسيدا وتعبيراً عن انبثاق الهوية الوطنية بعد سنوات من التغييب والتعامل مع القضية الفلسطينية كقضية لاجئين , ومن يراجع أدبيات الثورة الفلسطينية خلال الخمسينيات والستينيات سيلمس التركيز الكبير على مسالة الهوية , سواء كانت أدبيات سياسية أو رواتية وشعرية
هذا الغموض للهوية الفلسطينية أو الحث عنها نلمسه في تعدد وتناقض التعبيرات عنها في مشاريعنا السياسية في الميثاق القومي الوطني , وفي مشروع عنها في مشاريعنا السياسية اليسارية والدينية , حيث لا يتطابق كل تحديد للهوية مع غيره , وفي جميع الحالات كانت المحددات الخارجية تلعب دوراً في تحديد الهوية وفي رسم الاستراتيجيات , الأمر الذي يطرح تساؤلات هل الهوية الوطنية تعبير عن ثوابت ورموز ثابتة أم هي تعبير عن ظروف ومتغيرات خارجية؟.
ولمقاربة إشكال أزمة الهوية التي صاحبت تاريخنا ما بعد النكبة – مع أن الأزمة تمتد إلى ما قبل النكبة – وكيف كان تحديد الهوية خاضع لمتغيرات إقليمية ودولية أكثر مما هو خاضع لمحددات وطنية فلسطينية , سنتطرق إلى ما يدل عليها في المواثيق الفلسطينية التي هي مشاريع دساتير . فمثلاً في الميثاق القومي الفلسطيني لعام 1964 , حيث كان الفكر القومي العربي هو السائد , غابت الهوية الفلسطينية لصالح الهوية القومية , كما لم يشر الميثاق إلى الهوية الإسلامية نظراً لحالة الصراع ما بين القوميين والإسلاميين في تلك الحقبة و بل ونظرا للدور الذي لعبته الدول العربي في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية فقد تجنب واضعوا الميثاق الإشارة إلى كلمة وطنية أو هوية وطنية فلسطينية , فحمل الميثاق اسم الميثاق الإشارة إلى كلمة وطنية أو هوية وطنية فلسطينية , فحمل الميثاق اسم الميثاق القومي الفلسطينية , بل أيضاً أكد هذا الميثاق على عدم أحقية الفلسطينيين فرض السيادة على الضفة وغزة التي كانت تحت الحكم العربي وبالتالي رفض قيام دولة فلسطينية تعبر عن الهوية السياسية الفلسطينية. وفي المثياق الوطني الفلسطيني 1968 ومع نهوض الوطنية الفلسطينية , تمت الإشارة إلى الهوية الوطنية دون القطع مع الهوية القومية وفي نفس الوقت كانت إشارة غامضة للهوية الإسلامية بتأثير الخلفية الدينية لبعض سيحدد عند التحرير , ولم يكن التأجيل نتيجة عجز بل خوفاً من معارضة بعض الأنظمة والقوي السياسية التي لم تكن مستريحة لنهوض الهوية الفلسطينية , ولأن فتح التي هيمنت على المنظمة طرحت نفسها كحركة تحرر لا تلتزم بإيديولوجية محددة .
أما مفهوم الهوية في مشروع الدولة الديمقراطية العلمانية والذي طرحته فتح لأول مرة عام 1968 وتبنته مقررات المجلس الوطني عام 1971 فيستشف من النص التالي لفتح " نحن نقاتل في سبيل إقامة دول فلسطينية ديمقراطية يعيش فيها الفلسطينيون بكل طوائفهم . مسلمين ومسيحيين ويهود في مجتمع ديمقراطي تقدمي , ويمارسون عباداتهم وأعمالهم مثلما يتمتعون بحقوق متساوية . وتأكيداً من فتح على إنسانية الهدف استطرد نفس البيان قائلاً : إن ثورتنا الفلسطينية لتفتح قلبها وفكرها لكل بنمي الإنسان الذين يريدون أن يعيشوا في المجتمع الفلسطيني الحر الديمقراطي وأن يناضلوا سبيله بصرف النظر عن اللون أو الدين أو العرق " .
وبالنسبة لحق المواطنة في الدولة الديمقراطية , حددت فتح بوضوح " إن جميع اليهود والمسلمين والمسيحيين من المقيمين في فلسطين أو المشردين عنها بالقوة والتقدمية لن تكن تيوقراطية أو إقطاعية أو ارستقراطية , كما أنها ستنبذ العنصرية والشوفينية والاضطهاد أي كان نوعه .
ولتبعد " فتح " أي التباس أو تشويه لهدف فلسطين الديمقراطية , وحتى لا تذهب الظنون أن الدولة الفلسطينية نقيض لعروبة فلسطين , فإنها حذرت من الوقوع في خطأين أن الدولة الفلسطينية خطأين قد يلصقان بمفهوم الدولة الفلسطينية الديمقراطية :
الأول : أن فلسطين الديمقراطية اللاطائفية ليست هي الدولة المتعددة الأديان أو المزدوجة القومية , فالمجتمع الفلسطيني الجديد لن ينشأ حول ثلاث ديانات للدولة أو حول قوميتين " فهو وإن كان يرفض التعصب الديني أو العرقي , وينفتح على جميع الأديان , فإنه : لا ينوي توزيع المناصب السياسية وغيرها من الوظائف وفقاً لنسب دينية معينة " وفتح بهذا ترفض النموذج اللبناني وتعبيره نموذجاً غريباً عن الثورة كل الغرابة .
أما الجبهة الشعبية فقد أكدت أن فلسطين الغد التي ستحكمها المبادئ الماركسية اللينينية التي لا خيار عنها في مرحلة التحرير والنضال وفي مرحلة ما بعد التحرير " ستكون جزءاً من مجتمع عربي ثوري جديد " إن المجتمع العربي الجديد الديمقراطي الاشتراكي سيكون قادراً بالاستناد إلى مبادئ الماركسية اللينينية على توفير الحل لكل مشكلات الفقر والتخلف والاضطهاد والاستغلال التي يعاني منها إنسان هذا الوطن وان اليهود في فلسطين بعد التحرر سيمارسون شأنهم شأن غيرهم كافة حقوقهم الديمقراطية كمواطنين في مجتمع ديمقراطي اشتراكي ".
ومن نفس المنطق تبنت الجبهة الديمقراطية شعار فلسطين الديمقراطية , فقبيل انعقاد الدورة السادسة للمجلس الوطني في القاهرة قدمت الجبهة مشروع قارا للمجلس تحت عنوان " حل ديمقراطي للقضية الفلسطينية " دعت فيه إلى إقامة دول فلسطينية الموحدة بعد القضاء بالكفاح المسلح على الكيان الصهيوني , واعتبر المشروع أن هذه الدولة تمثل حلا ديمقراطيا للتناحر القائم بين الشعبين العربي واليهودي , كما تطرق المشروع إلى إعطاء الحق لليهود والعرب بتطوير ثقافتهم القومية والجبهة الديمقراطية أساس المواطنة دون الإقرار بأي حقوق قومية لليهود .
وفي يناير 1970 , أعادت الجبهة الديمقراطية , تحديد مفهومها للحل الديمقراطي وأكدت على أن الحل الديمقراطي " يرفض كل الحلول الشوفينية سواء تعلق الأمر بالتوسع الإسرائيلي أو بذبح اليهود ورميهم في البحر , كما رفض أيضاً الحل الرجعي الذي قدمه قرار مجلس الأمن " يوضح نايف حواتمة طبيعة الحقوق المتساوية التي ستعطي لليهود والعرب حيث يكون " لكل منهم حرية تطوير ثقافية القومية بروح ديمقراطية وتقدمية ".
رعد خروج الثورة من لبنان واستمرار انتكاسه المشروع القومي وبداية تغلغل الإسلام السياسي بعد ثورة الخميني في إيران وبداية المد الإسلامي في فلسطين جاء إعلان الاستقلال الفلسطيني في الجزائر في نوفمبر 1988 ليعكس تاثير هذه المتغيرات على صياغة الهوية الفلسطينية , بحيث جاء بصياغة توفيقية ما بين الهويات الثلاث , وكسابقية من المواثيق لم يحدد إعلان الاستقلال دين الدولة , فنص على: " مطعما بسلالات الحضارة وتعدد الثقافات , مستلهما نصوص تراثه الروحي والزمني , واصل الشعب العربي الفلسطيني , عبر التاريخ , تطوير ذاته في التوحد الكلي بين الأرض والإنسان وعلى خطى الأنبياء المتواصلة على هذه الأرض المباركة , أعلى على كل مئذنه صلاة الحمد للخالق , ود\ق مع كل جرس كنيسة ومعبد ترنيمة الرحمة والسلام .
إن دولة فلسطين هي للفلسطينيين أينما كانوا , فيها يطورون هويتهم الوطنية والثقافية , ويتمتعون بالمساواة الكاملة في الحقوق , وتصان فيها معتقداتهم الدينية , والسياسية , وكرامتهم الإنسانية , في ظل نظام ديمقراطي برلماني يقوم على أساس حرية الرأي وحرية تكوين الأحزاب , ورعاية الأغلبية حقوق الأقلية , واحترام الأقليات قرارات الأغلبية , وعلى العدل الاجتماعي , والمساواة , وعدم التمييز في الحقوق على أساس العرق , أو الدين , أو اللون , أو بين الرجل والمرأة , وظل دستور يؤمن سيادة القانون والقضاء المستقبل , وعلى أساس الوفاء الكامل لتراث فلسطيني الروحي , والحضاري في التسامح والتعايش بين الأديان عبر القرون.
إن دولة فلسطين دولة عربية هي جزء لا يتجزأ من الأمة العربية , ومن تراثها وحضارتها ومن طموحها الحاضر إلى تحقيق أهدافها في التحرر , والتطور والديمقراطية و الوحدة .
أما ميثاق حماس فكان واضحاً في التأكيد على الهوية الإسلامية دون غيرها بل تأجيل الحديث عن الهوية الفلسطينية حتى على مستوى الشعرات والعلم , ففلسطين بالنسبة لها وقف إسلامي خالص وهي بعد التحرير ستكون جزءا من الدولة الإسلامية ! وحركة حماس واضحة في تغييبها للبعد الوطني لصالح البعد الديني الإسلامي ونشر دين الإسلام , بل اعتبرت أن سبب فشل حركة فتح وقوى اليسار في تحقيق النصر , ويعود لتسبيق هدف تحرير فلسطين على هدف الدعوة الإسلامية , ولم تخف حركة حماس أنها امتداد لحركة الأخوان المسلمين كما لا تخفي العلاقات الوثيقة سياسياً ومالياً بين الطرفين , نفس التصور للهوية نجده تقريباً عند الحركة الجهاد الإسلامي .
ربما أكثر مكونات الهوية إثارة للجدل هو ما يتعلق بالدين , وما يجعل مسالة الدين إشكال هو طبيعة المرحلة التي تتميز بالمد الأصولي, ويكون العدو يحمل مشروعا دينياً أصولياً , وأن تحدد مسالة الدين في الدستور تحت ضغط الوضع الراهن هو أمر غير صحي .
إن المشكلة الحقيقية للعلمانيين في فلسطين وفي العالم العربي لا تكمن في رفضهم للدين أو في تعارض جوهري ما بين الدين الإسلامي والعلمانية, بل مشكلتهم هي في جانب مع فريق من الإسلام السياسي الذين لهم رؤية مغلقة ومتخلفة عن الدين وعن العلمانية , وفي جانب آخر مع الثقافة الشعبية السائدة المشبعة بتأويلات وأساطير دينية أكثر من فهم حقيق للدين , وهذا الأمر يتطلب الاشتغال المكثف والمتأني على الثقافة الشعبية لتغيير بعض مفاهيمها المغلوطة , ولإقناعهم أن الإسلام المنفتح هو الذي أسس الحضارة الإسلامية في عصرها الزاهر , وليس الإسلام المنغلق الذي كان مصدر الفتنة والاقتتال , وبالتالي من الخطورة بمكان الدخول في مواجهة مباشرة مع تيار الإسلام السياسي , خصوصاً في هذه المرحلة التي يجد فيها الشعب أن الإسلام هو الحائط الأخير الذي يمكن الارتكان عليه لمواجهة الإمبريالية والمشروع الصهيوني الاستيطاني بعد انهيار الأيديولوجيا الأخرى .

الفصل الخامس
المجتمع المدني الفلسطينيين وتحديات تأسيس الدولة

المجتمع المدني هو بنية وعلاقات ومؤسسات يؤسسها الأفراد بإستقلالقة عن الدولة – أو السلطة السياسية وهو المعني الأصح – وهو بهذا المعنى لا ينفصل عن حركة المجتمع الحديث وتطوره ,وما يستجد من تطورات على علاقات أطرافه مع بعضها البعض وعلاقته بمجله بالمجتمع السياسي . كما أنه مفهوميا يتأثر بالموجات الفكرية المتسارعة وبتجديد الفكر الديمقراطي لمقولاته , لكل ذلك فإن مفهوم المجتمع المدني لابد وأن يتكيف مع هذه المستجدات , وهكذا فإن المفهوم في السسيولوجيا السياسية اليوم يستعمل بمعان لا تتفق تماماً مع ما جاء به رواده الأوائل , سواء رواد النظرية التعاقدية , أو " هيغل " أو " الماركسيون" , ومع ذلك يمكن أن نستخلص من الخطاب السياسي المعاصر الدلالات التالية للمجتمع المدني :
1- المجتمع المدني هو تلك الفعاليات – علاقات ومؤسسات وثقافة الاجتماعية والسياسية التي تمكن المواطنين من مراقبة تصرفات الدولة والتدخل عندما تعارض هذه التصرفات مصالح وحقوق المواطنين .
2- المجتمع المدني هو تنظيمات المجتمع المعبرة عن المطالب والمصالح والثقافة السائدة والتي قد تكون في حالة مصالحة مع السلطة السياسية أو في تعارض معها .
3- المجتمع المدني هو كل المؤسسات والأنشطة المنظمة التي تتح للأفراد التمكن من الخيرات والمنافع دون تدخل مباشر من الحكومة .

المبحث الأول
المجتمع المدني في فلسطين ولد في رحم حركة التحرير الوطني
إذا كانت تساؤلات عميقة تنتصب أمام الباحث في المجتمع المدني في دول العالم العربي نظراً لخصوصية الدولة العربية التي هي غالباً مقحمة على المجتمع ومفروضة عليه , ونظراً لخصوصية مجتمعات هذه الدول عن المجتمعات الغربية التي ظهر فيها المجتمع المدني وتم تأصيل مفهومه , فكيف الحال بالنسبة للباحث في المجتمع المدني في فلسطين , التي تعيش خصوصية داخل الخصوصية لعربية؟.
لا شك هنا أن المقاييس والمؤشرات المتبعة في التعرف على وجود مجتمع مدني في بلد ما , لن تسعفنا كثيراً في الحالة الفلسطينية , لأنه إذا اعتبرنا المجتمع المدني يعني تلمس نقاط ما هو مدني أو اجتماعي عن ما هو سياسي , أو ما هو عام – الدولة – عن ما هو خاص – العلاقات والتنظيمات التي يؤسسها الفراد للتعبير عن مطالبهم والدفاع عنها - , فإنه في الحالة الفلسطينية يتداخل العام مع الخاص والسياسي مع المدني , نظراً لأن الشعب الفلسطيني ومنذ أمد بعيد وحتى اليوم يعيش تحت الاحتلال , وبالتالي لم يعرف دولة وسلطة سياسية وطنية يمكن في مواجهتها بلورة مجتمع مدني أو الخاص في مواجهة العام , فالسلطة القائمة هي دوما سلطة احتلال .
وهكذا تداخل ما هو سياسي بما هو مدني في التجربة السياسية الفلسطينية , فالشعب الفلسطيني بكل فئاته ومستوياته , انتظم في حركة جماهيرية واحدة , قيادة سياسية , شعب , نقابات , أحزاب , ومجتمعات , لمواجهة الاحتلال . الجميع له هدف واحد هو مواجهة الاحتلال وليس مواجهة بعضهم بعضا , وهنا نلاحظ خصوصية المجتمع المدني الفلسطيني سواء من حيث تكوينه أو من حيث وظيفة , فهو مجتمع لم تكن في إطار حركة مطلبيه اقتصادية أو اجتماعية بل في إطار حركة جماهيرية سياسية نضالية تسعى للاستقلال والحرية وإبراز الهوية الوطنية والحفاظ عليها , وبالتالي فإن المطلب الأساسي لمؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني هو تأسيس المجتمع السياسي الوطني دولة وسلطة وطنية , بالإضافة إلى ذلك أن نصف الشعب الفلسطيني عاش ويعيش خارج أرض الوطن وتربطه علاقة خاصة وشائكة مع الدول التي يعيش فيها , وهو الأمر الذي يجعل لمفهوم المجتمع الفلسطيني دلالة رمزية أكثر مما هي سيسولوجية , وهذه خاصية لا نجدها تجارب الشعوب الأخرى .
إن المؤسسات المتعارف عليها كمكونات للمجتمع المدني – أحزاب , نقابات , جمعيات واتحادات إلخ – كانت حاضرة وبكثافة في المجتمع الفلسطيني إلا أن وظيفتها غير وظيفة مثلايتها في البلدان الأخرى , فغياب دول فلسطينية تتمتع بسيادة فلسطينية بفعل الاستعمار البريطاني ثم الصهيوني بدل من وظيفة والحفاظ عليها , وإعادة تأسيس الدولة , فالمجتمع المدني في هذه الحالة هو المؤسس للدولة وللسلطة السياسية , وليس العكس وبالتالي يحق تسميته بالمجتمع المدني/السياسي , وليس المجتمع المدني المفارق للسياسي .
ومع ذلك فقد مر المجتمع المدني الفلسطيني بعدة مراحل هي المنعطفات التي عرفتها القضية الفلسطينية , ويمكن رصد أربع مراحل في سياق تطور المجتمع المدني الفلسطيني.

المرحلة الأولى : ما قبل نكبة 1948:
واجه الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة خطراً مزدوجاً في الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية , حيث تواكب الاحتلال مع سياسة الحركة الصهيونية للاستيلاء على الأرض وتهويد العمل ومحاولة نفي كل صفة وطنية عربية إسلامية عن فلسطين , وقد ترتب على ذلك أن كل فئات الشعب الفلسطيني تضررت من هذا الخطر المزدوج , رجل السياسة , والعامل , الفلاح , الغني والفقير , الجميع وحدتهم المعاناة وضرورة مقاومة الاحتلال والتصدي لمحاولات الحركة الصهيونية الاستيلاء على أرض فلسطين . ومن هنا وضع الفلسطينيون على سلم اهتماماتهم تحقيق الاستقلال وليس مجرد تحقيق مكاسب اقتصادية أو اجتماعية . وقد عرفت هذه المرحلة تعاظما في تأسيس الأحزاب والنوادي والجمعيات , بالإضافة إلى انتفاضات وهبات وثورات , إلا أن هذا النهوض وهذه الحيوية في المجتمع المدني لم يكونا في مواجهة سلطة وطنية , بل في مواجهة قوات الاحتلال , وبالتالي زالت الفوارق بين ما هو سياسي وما هو مدني اجتماعي إلا في أضيق الحدود .
كانت جميع برامج وأدبيات الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات التي ظهرت في تلك الفترة تتفق على هدف واحد هو مقاومة الحركة الصهيونية والانتداب البريطاني وتحقيق الاستقلال الوطني , هذا لا يعني الغياب الكلي لأنشطة ذات طبيعة مدنية , حيث عرف المجتمع الفلسطيني في بعض المراحل توتراً في العلاقة بين القيادة السياسية التقليدية ومؤسسات تنسب إلى المجتمع المدني , إلا أن هذه الخلافات كانت على قاعدة المصلحة الوطنية وحول كيفية مواجهة العدو المشترك , وليس على قاعدة تقاسم غنائم السلطة أو من أجل الوصول إلى السلطة.
إن الملاحظ على غالبية مؤسسات المجتمع المدني / السياسي التي عرفتها فلسطين في تلك المرحلة , أنها أسست ضدا عن رغبات قوات الاحتلال , حيث إن قوانين الانتداب لم تسمح للفلسطينيين بتنظيم أنفسهم سياسيا واجتماعياً إلا بالشكل الذي يخدم مالح الاستعمار , وبالتالي فقد طغى العمل السري على غالبية نشاط مؤسسات المجتمع المدني , ومن جهة أخرى وتحايلا على قوانين الاحتلال أخذت مؤسسات المجتمع المدني حيث لعبت العائلات المشهورة والمنتمية إلى الطبقة الإقطاعية والبرجوازية دوراً في تشكيل مؤسسات المجتمع المدني وقيادتها .
المرحلة الثانية : 1948 – 1965 مرحلة التيه الوطني:
أدى الاحتلال الصهيوني لفلسطين عام 1948 ,إلى إضفاء خصوصيات جديدة على واقع حال الشعب الفلسطيني بالإضافة إلى خصوصيته الأولى , وتكمن هذه الخصوصية الجدية بتقطيع أوصال المجتمع الفلسطيني تحت الاحتلال , وجدت تجمعات فلسطينية في دول عربية تخضع لسلطة غير فلسطينية , وأهمها في الضفة الغربية , غزة , سوريا , لبنان , و العراق.
مما لا شك فيه أن حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال الصيوني ليست على شاكلة حياتهم تحت الحكم العربي , ومع ذلك فقد غاب عنصر التنظيم المدني الوطني عن المجتمع الفلسطيني , إما قهرا كما جرى في فلسطين المحتلة , أو تحت شعارات وإيديولوجيات قومية وأممية واعتبارات أمنية كما جرى في سوريا ولبنان والأردن ومصر والعراق , واضطرت مؤسسات المجتمع المدني التي ظهرت قبل 1948 إلى تجميد نشاطها أو انحلت تلقائياً لغياب القاعدة المجتمعية الفلسطينية الأساسية لوجودها . كانت الفترة ما بين 1948 إلى 1965 مرحلة قاسية على الفلسطينيين – كما بينا في الفصل الثاني , وعرفت الحركة الوطنية الفلسطينية حالة من الجمود , سياسياً واجتماعياً بحيث لم يلحظ – خصوصاً في السنوات الأولى للنكبة – ما يدل على وجود مجتمع مدني مستقل في تنظيمات سياسية أو نقابية في بعض البلدان العربية وكالأردن – التي ضمت إليها الضفة الغربية وحمل الفلسطينيون الجنسية الأردنية – وسوريا والعراق من منطلقات قومية ومع ذلك شهدت نهاية الخمسينات وبداية الستينات نهوض الوطنية الفلسطينية بفعل الدور النشط للفلسطينيين المنضوين داخل الأحزاب القومية وكذا ظهور جريدة " فلسطيننا" التي كانت تصدرها حركة التحرر الوطني الفلسطيني " فتح " قبل أن تعلن عن نفسها رسمياً . ولكن وحيث أنه الوضع العربي لم يكن يسمح بعد بعمل فلسطيني سياسي مستقل , فقد مارس الفلسطينيون نشاطهم السياسي من خلال اتحاديات وتنظيمات شعبية نقابية فتأسس في عام 1959 الاتحاد العام لطلبة فلسطين وفي عام 1963 تأسس الاتحاد العام لعمال فلسطين وفي عام 1965 تأسس الاتحاد العام للمرأة , استمر الوضع هكذا حتى قيام منظمة التحرير الفلسطينية 1964 ثم انطلاق الثورة الفلسطينية المسلحة عام 1965 وما جاءت به من مستجدات .
المرحلة الثالثة : من 1964 إلى قيام الحكم الذاتي 1994:
تميزت هذه المرحلة باستعادة الحركة الوطنية الفلسطينية لحيويتها , ذلك أن تيقظ الشعور الوطني الفلسطيني وانطلاق الثورة الفلسطينية المسلحة منذ 1995 , والهزيمة العربية في حرب 1967 , كل ذلك أعاد لحيوية للمجتمع الفلسطيني , ودفع بحركته الوطنية التي تمثلها منظمة التحرير الفلسطينية على تعزيز علاقاتها بالمجتمع الفلسطيني في ارض الشتات ووضعه تحت إشرافها , ومن هنا سعت م ت ف على تأسيس وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني – نقابات اتحاديات و نواد , جمعيات وتنظيمات – بما يعزز الشخصية الوطنية الفلسطينية في مواجهة محاولات التشويه والإلغاء التي كانت تتعرض لها , ولا استقطاب قطاعات المجتمع الفلسطيني المختلفة , لتصب في مواجهة العدو الصهيوني .
وهكذا عرفت هذه المرحلة بروز العشرات من الأحزاب والتنظيمات السياسية , وكذا النقابات والجمعيات والنوادي , إلا أن استعادة المجتمع المدني لحيويته لم يأت في سياق مواجهة سلطة سياسية فلسطينية أو دولة فلسطينية , بل عن السلطة السياسية الفلسطينية الثورية – منظمات التحرير الفلسطينية – هي التي أسسته في إطار حركة مقاومة شاملة لتحرير الوطن من الاحتلال , وهكذا نصت القوانين المؤسسة للاتحاديات الشعبية يدخل الفلسطينيون في صراعات جانبية وينسون العدو المشترك .
لا غرو أن استعادة المجتمع المدني / السياسي الفلسطيني لحيويته بعد 1967 وممارسته النضالية ضد الكيان الصهيوني عزز مواقف م ت ف في أرض الغربة واكسبها احتراما وتقديراً دفع الدول العربية إلى الاعتراف بالمنظمة ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني وذلك في مؤتمر قمة الرباط 1974 , والاعتراف لها بصفة عضو مراقب في هيئة الأمم المتحدة في نفس العام , إلا أن أهم اللحظات التي تجلي فيها المجتمع المدني / السياسي , كانت سنوات الانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987 حيث تجند الشعب الفلسطيني بكل فئاته لتنظيم نفسه في جمعيات ونواد وتنظيمات ضد الاحتلال الصهيوني , وكان الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة قادراً على تنظيم نفسه ومواصلة انتفاضة تحت قيادة مؤسساته المجتمع المدني لولا تداخلات خارجية – لا داع لذكرها هنا – إلا أن انتفاضة المجتمع الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها دخلت في متاهة جديدة بعد ما سمى بمسلسل السلام وتوقيع اتفاقية أوسلو 1993 .
وعلى المستوى الاجتماعي , فقد انتقلت قيادة مؤسسات المجتمع المدني من الشرائح الإقطاعية والبرجوازية وأبناء العائلات إلى عناصر تنتمي إلى البرجوازية الصغيرة والمتوسطة , كما نشطت مؤسسات المجتمع المدني التابعة للجماعات الإسلامية وخصوصاً حماس والجهاد الإسلامي.
إن أهم ما يجب الإشارة إليه في هذه المرحلة هو أن منتسبي مؤسسات المجتمع المدني من اتحادات وجمعيات ومنظمات اجتماعية هم الذين رفدوا حركة المقاومة أو الثورة وكانوا الوقود الذي مكنها من الاستمرارية والانتشار , وعليه , فغن النخبة السياسية الفلسطينية والسلطة الوطنية خصوصاً , مدينان بوجودهما للمجتمع المدني , فما هو شكل العلاقة بين الطرفين عندما تحول الثوار إلى رجال سلطة ؟.

المرحلة الرابعة : ما بعد اتفاقية أوسلو وقيام الحكم الذاتي:
بدخول منظمة التحرير الفلسطينية مسلسل التسوية وتوقيعها اتفاقية أوسلو وبداية الحكم الذاتي الفلسطيني في مناطق من الضفة والغربية وقطاع غزة , عرف المجتمع الفلسطيني , والمجتمع المدني / السياسي خصوصاً , تحولا جذرياً , فالعملية سعت على نقل المجتمع الفلسطيني من مرحلة الثورة والنضال إلى مرحلة المراهنة على الحلول السليمة وبالتالي إنهاء الثورة وحالة الحرب مع الكيان الصهيوني , مع ما يترتب على ذلك من تغير في وظيفة المؤسسات المدنية والسياسية التي ظهرت في مرحلة الثورة , ونقل مركز قوة حركية المجتمع الفلسطيني من خارج فلسطين إلى داخلها . إلا أن أهم تحول يخص موضوع بحثنا هو بداية ظهور التمايز ما بين مجتمع مدني ومجتمع سياسي , ذلك أن السلطة الوطنية الفلسطينية التي تدير مناطق الحكم الذاتي أصبحت بمثابة السلطة السياسية أو مشروع دولة , وبالتالي لها حساباتها وسياساتها وارتباطاتها الناتجة عن مسلسل التسوية , وهي سياسة وارتباطات لا تتفق بالضرورة مع موقف كل الشعب الفلسطيني ومؤسساته المدنية والسياسية .
وهكذا لاحظنا منذ توقيع اتفاقية أوسلو ظهور ( مجتمع مدني) يمارس دور المعارضة في مواجهة السلطة الوطنية الفلسطينية من جهة وقوى الاحتلال من جهة أخرى ويمكن حصر فعاليات المجتمع المدني في هذه المرحلة كما يلي :
1- مؤسسات , خصوصاً وهذه المؤسسات للمعارضة السياسية حماس والجهاد الإسلامي , خصوصاً وهذه المؤسسات متعددة : نقابات , جمعيات , اتحاديات , مؤسسات دينية , تعليمية , خيرية , ومما يجب التنبيه له في السياق أن أهمية هذا النوع من المجتمع المدني لا تكمن في قوتها التنظيمية والتاسيسية بل في قدرتها التعبوية والتحريضية , ذلك أن سنوات الاحتلال عملت الجماعات الإسلامية كيف تحافظ على وجودها وتمارس مهامها بشكل سري.
2- مؤسسات المجتمع المدني التي تمارس نشاطها في ظل الاعتراف بشرعية السلطة , بالإضافة إلى شخصيات وطنية لها وزن في الساحة الوطنية , والجزء الأكبر من هذه المؤسسات هي التي كانت تابعة لمنظمة التحرير وحولت نشاطها إلى نشاط مدني / سياسي . ومن المؤسف أن الاتحاديات الشعبية كالاتحاد العام للمعلمين والاتحاد العام للعمال والاتحاد العام للمرأة واتحاد طلبة فلسطين واتحاد الفلاحين واتحاد المهندسين وغيرها من الاتحادات والتنظيمات التي كانت فاعلة قبل توقيع اتفاقية أوسلو , وانحلت أو أصيب بالشلل في مناطق الحكم الذاتي وتحول أمناؤها العاملون إلى موظفين سامين في السلطة وبرتب عسكرية وجوازات دبلوماسية !.
3- منظمات واتحادات غير حكومية ذات انتماءات وعلاقات متعددة داخلية وخارجية ويفرق عدد هذه المنظمات في مناطق الحكم الذاتي 2000 منظمة , منها منظمات تطوعية ومنظمات حقوقية , ومنظمات تسوية وأخرى ذات طابع يني إلخ , وقد كان لهذه المنظمات والاتحاديات دور فاعل في دعم نضال الشعب الفلسطيني قبل بداية مسلسل التسوية , حيث كانت منظمة التحرير والأحزاب الفلسطينية الأخرى تمارس من خلالها مهاماً وتنسج علاقات مع الجماهير , كانت عاجزة عن أن تقوم بها بشكل مباشر , إلا أنه بعد دخول المنظمة إلى مناطق الحكم الذاتي , التحقت بعض هذه المنظمات – مؤسسات مجتمع ديني مدني – بالسلطة وبعضها تحول إلى مؤسسات مستقلة تعارض نهج التسوية .
إن المتتبع لعملية إعادة تأسيس المجتمع المدني في فلسطين وتحديداً داخل مناطق الحكم الذاتي , يلاحظ الصعوبات التي يواجهها الفلسطينيون سواء من طرف الكيان استحقاقات اتفاقات أوسلو التي تضع خطوطاً حمراء لا يستطيع الفلسطينيون تجاوزها , كما ان السلطة الفلسطينية تحولت إلى سلطة سياسية لها أهداف ومصالح تتصادم أحيان مع فعاليات المجتمع المدني.

المبحث الثاني
واقع وآفاق المجتمع المدني في مناطق الحكم الذاتي
المطلب الأول : المجتمع المدني وتداخل السياسي والاجتماعي :
مصطلح المجتمع المدني الذي يروج في الخطاب السياسي الفلسطيني اليوم , يجب التعامل معه بحذر نظراً لغياب الدولة والسلطة السيدة من جانب وضبابية الحدود الفاصلة ما بين المهام السياسية والمهام الاجتماعية لمؤسسات المجتمع المدني . ذلك أنه بالرغم من وجود مؤسسات سياسية وأحزاب وسلطة إلا أن ذلك لا يرق لدرجة وجود دولة, كما أن الحركية السياسية التي تشهدها مناطق الحكم الذاتي لا يمكن نسبتها إلى الممارسة الديمقراطية الحقيقية ما دامت السلطة السياسية نفسها فاقدة لحرية اتخاذ القرار السيادي وكل ما يصدر عنها من قرارات يخضع لمراقبة إسرائيلية , أيضاً الخلفية السياسية لناشطي المؤسسات الأهلية وارتباطهم بقوى سياسية لا تخفي تطلعها للوصول للسلطة , هذا ناهيك عن النسبة المرتفعة للتمويل الخارجي لهذه المؤسسات .

مما لا شك فيه أن الوضع داخل مناطق الحكم الذاتي ليس هو وضع دولة أو مناطق محررة ولكنة أيضاً ليس وضع احتلال بالمطلق , إلا أن هذا لا يمنع من توحيد الجهود من أجل بناء الوطن , كثيرة هي المجالات التي يمكن للفلسطينيين أن يعملوا ويوظفوا كفاءاتهم وخبراتهم من أجل الوطن أوسع بكثير من العمل السياسي بمفهومة التقليدي , إنه من الاتساع بحث يستوعب كل ممارسة فردية كانت أو جماعية , سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية , ومن أهم هذا المجالات أنشطة المجتمع المدني أو ما يطلق عليه في فلسطين المنظمات الأهلية التي أصبح ها وزارة خاصة بها .
لا غرور أنه في الحالة الفلسطينية يفترض ان تتلاقى وتتصارع القوى السياسية والاجتماعية ليس من أجل الفوز بالسلطة أو السيطرة عليها – مع ان هذا حق مشروع ضمن شروط – بل من أجل بناء المواطن ثقافيا وسياسياً وتفعيل وتخليق الحياة السياسية والثقافية وتشكيل قوة ضاغطة على السلطة الوطنية تؤثر على مواقفها وتراقب سلوكياتها وتصحح أخطاءها , كما أنه من المفترض والملح على مؤسسات المجتمع المدني أن تقوم بوظيفة جد مهمة وهي بناء الهوية الوطنية الفلسطينية وصقل ثقافة وطنية , حيث عمل العدو الصهيوني على تشويههم وطمس معلمها أيضاً للمجتمع المدني الفلسطيني في هذه المرحلة دور في تخليق الحياة السياسية وبناء المجتمع الديمقراطي , وهو بهذه الوظائف يبلغ رسالة قوية إلى العالم مفادها أن الشعب الفلسطيني شعب حضاري وقادر على تسيير أموره بنفسه وبالتالي قادر على إقامة دولته المستقلة . كما أن الاشتغال في وعلى المجتمع المدني هو المجال الذي تستطيع المعارضة الفلسطينية والقوى الحية في المجتمع اليوم – بعد أن سدت في وجهها سبل النضال من الخارج و وصعب عليها ممارسة النضال العسكري في الداخل – أن تبدع فيه وتخدم الوطن في هذه المرحلة بدلا من التمترس في مواقع الرفض العدمي .
إلا أن واقع منظمات المجتمع المدني تتعثر بقيامها بهذه المهام و مما أربك والنوع حركات التحرر الأخرى ألا وهي المنظمات غير الحكومة التي أصبحت تقوم بجزء من مهمات المجتمع المدني وتتداخل معه في كثير من الأحيان وتوجه نشاطه وتلعب دوراً في تفعيل وتنشيط الحياة السياسية الفلسطينية حسب أجندة الجهات الممولة المر الذي يتطلب منا التوقف قليلاً عند هذه الظاهرة .
المطلب الثاني : المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية والسلطة : أية علاقة ؟
مع بداية الحكم الذاتي في 1994 في وضع ملتبس لا هو وضع دولة مستقلة ولا هو وضع احتلال حيث وجدت سلطة سياسية فلسطينية:مؤسسات وأجهزة أمنية وسجون الخ , أصبح الشعب يواجه سلطتين : سلطة الاحتلال من جهة والسلطة الوطنية من جهة أخرى , بالتأكيد لا يمكن وضع السلطتين في سلة واحدة ذلك انه يفترض بأن السلطة الوطنية هي امتداد للحركة الوطنية الفلسطينية أو وريثها وهي مكسب وطني بالرغم من كل الظروف المحيطة بتشكيلها وممارستها , ولكنها تبقى سلطة تمارس التسلط , تأمر وتنهى و تصدر قوانين وتنفذها , تعتقل وتحاكم , تمنح وتمنع , وهي في كل ذلك مقيدة باتفاقيات تفرض استحقاقات يشعر الغالبية من الشعب الفلسطيني ملزم وبالتالي غياب دولة القانون تعبر عن سيادة وطنية قابلة للتطبيق , هو الأمر الذي يدفع السلطة إلى تطبيق حزمة من القوانين ذات السمعة السيئة , كقوانين الانتداب البريطاني أو القوانين المصرية التي كانت تطبق في قطاع غزة أيام الحكم المصري أو قوانين أردنية أو القوانين الإسرائيلية أيام الاحتلال , هذا الوضع يجعل مناطق الحكم الذاتي وكأنها تعيش حالة الطوارئ.
في ظل هذه الظروف شعر المجتمع الفلسطيني في مناطق الحكم الذاتي أنه في الوقت الذي عليه واجب مساندة السلطة في عملية إعادة بناء الدولة الفلسطينية وواجب مواجهة مخططات العدو الاستيطانية , عليه في نفس الوقت العمل على تأسيس مجتمع مدني يمكن اللجوء إليه للحد من تسلط السلطة وللتعبير عن مطالبات والدفاع عن مصالح لم تلبها السلطة الفلسطينية وخصوصاً في إطار حقوق الإنسان كالحق في العمل والصحة والتعليم وحرية الرأي والتعبير , بالإضافة إلى ذلك أن قطاعاً من المجتمع يشعر أن مرحلة الثورة لم تنته بعد وأن الواجب الوطني يحتم توجيه كل الجهود لمقاومة الاحتلال الصهيوني بدلا من انشغال بقضايا ثانوية كالصراع على سلطة لا تملك إلا القليل من مزايا وصلاحيات السلطة السياسية الحقيقية .
وبفعل التداخلات الخارجية للتسوية أستجد عنصر جديدي على علاقة السلطة بالمجتمع المدني وهو ظهور ما يعرف بالمنظمات غير الحكومية والتداخل في المهام ما بين المنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني , فكلاهما يتكون من التنظيمات والعلاقات التي يؤسسها المواطنون للدفاع عن مصالحهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية أو للدفاع عن قيم إنسانية عالمية بعيداً عن السلطة السياسية أو بالأحرى بعيدا عن سيطرتها أو تدخلها المباشر , إلا أن نقطة الاحتلال بينهم تكمن في الامتداد الخارجي أو العلاقات الخارجية , فإذا كان من شروط قيام مجتمع مدني حقيق أن يقوم الأفراد لا السلطة بتشكيلية وأن يكون مستقلا عنها وغير تابع لها , فمن المنطقي أذن أن تكون مؤسسات المجتمع المدني ذات طابع وطني أي أن لا تؤسس بإيحاء خارجي أو تمول من الخارج حتى لا تصبح أداة في يد مموليها , فللمجتمع المدني وظيفة وطنية خالصة .
أما المنظمات غير الحكومية فيمكن ان نقسمها إلى قسمين : المنظمات غير الحكومية المحلية او الوطنية وهذه يمكن اعتبارها الاسم الأخر للمجتمع المدني أو هي المجتمع المدني ذاته , وهناك المنظمات غير الحكومية الدولية , وهي وأن كانت تشترك مع منظمات المجتمع المدني في استقلاليتها عن الدولة وفي طبيعة النشاط الذي تقوم به فأنها تختلف معها في أنها امتداد لمنظمات ذات صبغة دولية وأهداف إنسانية عالمية وغالباً ما تتعلق بحقوق الإنسان الأمر الذي يجعلها أكثر إثارة للجدل في دول العالم الثالث حديثة العهد بالديمقراطية . وتعرف المنظمة غير الحكومية الدولية بأنها : منظمات ذات صفة دولية ولها هدف عام يشمل عدد كبير من الدول ولا يتعارض مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أو ميثاق هيئة الأمم المتحدة , وليس لها هدف تجاري أي لا تسعى إلى الربح المادي وأن يكون لها أجهزة علنية ودائمة ومعترف بها من طرف الدولة حيث تمارس نشاطها .
بالرغم مما أشرنا إليه من اختلاف ما بين المنظمات غير الحكومية الدولية والمجتمع المدني إلا أنهما يشتركان في كونهما منظمات يجمعها النضال من أجل الحرية وحقوق الإنسان ومواجهة تعسفات الدول , فوجودها مرتبط بوجود ديمقراطية أو النضال من أجل الديمقراطية , فالدول غير الديمقراطية عدو لهذه المنظمات ولا تسمح لها بالوجود وأن اضطرت لذلك فهي تضيق الخناق على عملها .
كان ظهور المنظمات غير الحكومية في بداية الأمر نوعا من التحاليل على الاحتلال الذي كان يمنع تشكل أي تجمعات تضامنية فلسطينية , وتزايد عددها ونشاطها في مرحلة ثانية عندما تحولت م-ت-ف داخل فلسطيني إلى سلطة سياسية , حيث وجدت قوى المعارضة الفلسطينية التي أبعدت أو أبعدت نفسها عن السلطة ومؤسساتها في هذه المنظمات مجالا للعمل السياسي بستار اجتماعي وحقوقي , إلى هنا يبقى الأمر مفهوما ومقبولا , إلا أن الوضع تغير وأخذ منحى تغايرا عندما أخذت أطراف خارجية وخصوصاً المنظمات غير الحكومية الدولية والدول المناحة , تمول وتدعم ما يفترض أنها مؤسسات المجتمع المدني , هذه الأخيرة التي أصبحت تستقطب أعدادا متزايدة من النخبة السياسية والمثقفة وتدفع لهم رواتب وحوافز مادية جد مرتفعة , مما أدى إلى تسابق أفراد النخبة على الانخراط في هذه المنظمات التي بدأت تشتغل على أجندة تتفق مع توجهات وسياسيات الدول المانحة كالدفاع عن حقوق الإنسان او المرأة أو الديمقراطية والمشاركة السياسية الخ , ومن هنا لاحظنا كثرة عدد المنظمات الحقوقية ومراكز البحوث والدراسات والنوادي والجمعيات في مناطق الحكم الذاتي بل تسابق برلمانيون ووزراء وسياسيون لتأسيس جمعيات ومؤسسات موظفين مواقعهم ونفوذهم لجلب تمويل خارجي , وهو الأمر الذي أدى إلى تنافسها وتسابقها على عقد ندوات وأنشطة دون إستراتيجية واضحة دون جهة تراقب وتحاسب .
لا نقصد من كلامنا أعلاه التشكيك بالمنظمات غير الحكومية أو الزعم أن مكلف حقوق الإنسان في مناطق الحكم الذاتي ناصع البياض أو أن المجتمع الفلسطيني لا يحتاج لهذه الأنشطة المدنية , ولكننا نرى أن هناك قوى خارجية تلعب لعبة خطية توظف فيها البعض من السلطة والبعض من المنظمات غير الحكومية . هذه اللعبة الخطرة إن كان من ضمن أهدافها افتعال مواجهة ما بين المجتمع المدني الفلسطيني والسلطة الفلسطينية بحث ينشغل كل طرف بالأخر وينسى الجميع العدو المشترك الذي ليس فقط المنتهك الرئيس لحقوق الإنسان الفلسطيني بل أيضا محتل الأرض ومدنس المقدسات . وليس هذه هو الهدف الوحيد بل هناك هدف لا يقل خطورة يتمثل في خلق فجوة كبيرة ما بين النخبة الفلسطينية والشعب الفلسطيني , وإفراغ المجتمع الفلسطيني وحركته الوطنية الفعاليات النشطة ومن المثقفين إما بإدماجهم بالسلطة ومنهم مواقع ورواتب متميزة أو استقطابهم في منظمات غير حكومية حقوقية أو غير حقوقية وفي مراكز بحث ودراسات تنبت كل يوم وكأن القضية الفلسطينية غامضة لا يعرف فيها الحق من الباطل وبالتالي تحتاج إلى مراكز بحث ودراسة !.
ودون التشكيك بذوي النوايا الحسنة من الجانبين , نقول إن عملية إفساد وارتشاد كبيرة تجري للنخبة الفلسطينية لتنشغل هذه الأخيرة بمصالحها المادية وامتيازاتها ولتخل في مواجهة مع بعضهما البعض على اقتسام كعكة المنح والمساعدات الأجنبية ويفرض مزيدا من سياسية الأمر الواقع .
إن معالم نجاح هذه المخطط أصبحت جلية ذلك ان كل زائر لمناطق الحكم الذاتي يلمس انقسام المجتمع الفلسطيني إلى نخبة – أقلية – مرفهة مكونة مكن كبار رجالات السلطة ورجال الأعمال ومن النخبة العاملة في إطار المنظمات غير الحكومية من جهة , وغالبية الشعب حيث الفقر والبطالة التي زادت نسبتها ووصلت إلى ستين بالمائة من جهة أخرى – زادت هذه النسبة كثيراً في ظل الانتفاضة – لقد أدى هذا الوضع الخطير إلى إخراج أعداد كبيرة من المثقفين والنشطين سياسياً من ساحة العمل الشعبي والوطني , إما بانكفاء واغتراب بعضهم داخل الوطن نتيجة إصابتهم بالإحباط , وإما بتحول البعض إلى نخبة مرفهة تتعارض مصالحها مع أي توجه نضالي ضد العدو , نخبة مصلحتها في إبقاء الأمور على حالها وكبح اية تحركات احتجاجية أو نضالية , كما أدى هذا الوضع بالمقابل إى تحويل الجماهير الشعبية إلى جموع جائعة ومحبطة واقعة ما بين مطرقة الاحتلال وسندان الفقر والجوع . ولكن لعلاقة السلطة بالمعارضة وبالمجتمع المدني وجه أخر يرتبط بخصوصية القضية الفلسطينية – التي سبق التطرق إليها , حيث ان البعدين القومي والديني للقضية يفرضا إيجاد نوع من التعاون مابين الفلسطينيين – سلطة ومجتمع مدني والعالمين العرب الإسلامي , فكيف يمكن أن نتحدث عن البعد القومي والمسؤولية العربية دون تنسيق ما بين التنظيمات الفلسطينية ذات الخطاب القومي الحس القومي ؟ وكيف يمكن الحديث عن البعد الإسلامي والمسؤولية الإسلامية وخصوصاً في موضوع القدس دون تنسيق مع الدول والمنظمات الإسلامية وقبول دعمها المادي والمعنوي ؟ بالإضافة إلى أن تردي الأوضاع الاقتصادية لمناطق الحكم الذاتي وسياسة الأرض المحروقة التي تمارسها إسرائيل تجعل قدرة المجتمع المدني الفلسطيني على النهوض اعتماداً على قدراته الذاتية أمراً صعباً .
لا غرو أن تمارس السلطة حقوقها السلطوية على المجتمع الفلسطيني لأن لا دولة أو كيان سياسي دون سلطة ولا سلطة دون تسلط , ولكن على السلطة في نفس الوقت أن تقوم بما يمليه عليها واجباً كوريثة لحركة التحرر الوطني وكمشروع لدولة ديمقراطية عصرية , وذلك بأن تحترم إنسانية وكرامة المواطن الفلسطيني وإن تعطي الأولوية لتحقيق الاستقلال الفلسطيني على الخضوع لابتزاز الكيان الصهيوني أو الانسياق وراء أشباه الوطنين ممن تسللوا لنهب مقدرات الوطن وتحقيق مصالحهم الشخصية , ومن جهة أخرى على العاملين في مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية منها أن يضعوا نصب أعينهم المصلحة الوطنية لا ما تطلبه منهم الجهات الأجنبية الممولة فهذه الأخيرة لا تهدف بالضرورة خدمة المصلحة الوطنية أو الاهتمام بالوضع الحقوقي الفلسطينيين لا يأت من السلطة الفلسطينية بل من إسرائيل , المر الذي يعيدنا إلى نقطة البدء بالتذكير أن فلسطين لم تستقبل بعد الأمر الذي يتطلب بدوره إيجاد صيغة لتوحيد جهود المجتمع المدني والسلطة لمواجهة العدو المشترك دون تجاهل حقوق الإنسان الفلسطيني داخل مناطق الحكم الذاتي لأنه عندما تنتهك حقوق الإنسان وتصادر حريته داخل وطنه وعلى يد مواطنيه لا يستطيع أن يطالب بحقوقه وحريته في مواجهة الآخرين .

انتفاضية الأقصى تكسف ضعف السلطة وهشاشة المجتمع المدني :
فيما كانت السلطة والمعارضة ومؤسسات المجتمع المدني تتصارع على السلطة وامتيازاتها وأداءها وفيما كان كل طرف يكيل الاتهامات للآخر محاولا تسجيل نقطة لصالحة , وفيما كانت إسرائيل تنهب الأرض شبراً شبراً وتضيق سبل العيس على الشعب , جاءت انتفاضة الأقصى بكل ما لها وعليها , لتكشف ليس فقط مأزق السلطة ومراهناتها المريحة على وعود السلام الأمريكي , بل وتكشف أيضاً هشاشة ومأزق المجتمع المدني وقوى المعارضة السياسية . لقد أظهرت الانتفاضة كم هي الهوة بعيدة ما بين الشعب ونخبته السياسية .
كشفت الانتفاضة أن النخبة السياسية ليست في مستوى الحدث وخطورة المرحلة , وكشفت الانتفاضة أن من هم سدة الحكم ومن هم في المعارضة أيضاً مؤسسات المجتمع المدني لم يضعوا ضمن أجندتهم عودة المواجهة العنيفة مع العدو , ومن يزعم منهم أنه كان يعرف أن المور ستصل إلى هذه المرحلة , فأن ممارسته في الواقع لا تدل على استعداده لتحمل استحقاقات المرحلة . انتفاضة الأقصى طرحت بإلحاح ضرورة إعادة النظر في العلاقة ما بين السلطة والمجتمع المدني , وتأسيس هذه العلاقة ليس قاعدة أننا نعيش مرحلة الاستقلال الوطني بل على قاعدة أننا نعيش مرحلة الاستقلال الوطني بل على قاعدة اننا ما زلنا في أوج مرحلة التصادم والصراع مع إسرائيل , وأن خطاب السلام الذي خلق حالة الاسترخاء عند قطاع كبير من الشعب هو الخطاب مرفوض من دولة إسرائيل , كما أن إسرائيل لن تقدم لنا دولة على طبق من الفضة .
الانتفاضة أبانت أن آفاق حل الصراع مع العدو مازالت بعيدة وأن الذي تغير وأن المقصود بلك أن تعيد الاعتبار لمؤسسات المجتمع المدني , ليس كشيء معارض للسلطة بل كشيء رافد لها ومكمل كما كان عليه الحال في مرحلة الثورة . وفي نفس الوقت لا يجوز للقوى السياسية خارج الحكم ولمؤسسات المجتمع المدني التي تدور في فلكها أن تزعم أنها أفضل حالا من حال السلطة , ويجب أن لا يتبادر إلى ذهن أحد أننا نقصد إلحاق المجتمع المدني بالسلطة بحالتها الراهنة , بل المقصود إعادة النظر في طبيعة العلاقة بينهما وفي بنية وبرامج وأولويات كل منهما في نفس الوقت .
المبحث الثالث
دور ووظيفة الأحزاب والنقابات في المجتمع الفلسطيني

المطلب الأول : الأحزاب السياسية Political Barrty
أولا: تعريف الأحزاب ووظيفتها في المجتمع :
1-تعريف الحزب السياسي:
تعددت تعريفات الحزب السياسي بتعدد الأيديولوجيات من جهة وتعدد الزاوية التي ينظر منها إلى الحزب من جهة أخرى, فعل المستوى النظري تعدد التعريفات بتعدد الأيديولوجيات , فهناك التعريفات ذات المنطلقات الليبرالية والتعريفات ذات المنطلقات الماركسية ثم ذات التوجهات الإسلامية .
أ‌-وجهة النظر الليبرالية:
نلاحظ أن الفكر الليبرالي يركز على الهدف النهائي للحزب وعلى العمل الذي يقوم به ف إطار الحياة السياسية الليبرالية التي تعترف بتعدد البرامج وتنافسها للوصل إلى السلطة , فنجد موريس دفرجية Duverger يعرف الحزب بالقول " الحزب ليس جماعة واحدة ولكنة عبارة عن تجمع لعدد من الجماعات المتناثرة عبر إقليم الدولة كاللجان بينها " . وتأكيد منه على الطابع التنظيمي للحزب يقول بأن الأحزاب المعاصرة لا تعرف ببرامجها أو بطبقة أتباعها أكثر مما تعرف بطبيعة تنظيمها فالحزب هو مجموعة ذات كيان خاص".
وفي نفس الاتجاه التنظيمي يذهب اندريه هوريو Andre Henriou بورك Burk في تعريفاهما للحزب , حيث يقول الأول بأن الحزب السياسي تنظيم دائم يتحرك على مستوى وطني من أجل الحصول على الدعم الشعبي ويهدف إلى الوصول إلى ممارسة السلطة بغية تحقيق سياسة معينة، أما بورك فعرفه بأنه مجموعة منظمة من الناس اجتمعت من أجل العلم المشترك لتحقيق مصلحة الوطن عن ريق تحقيق الأهداف والمبادئ التي يعتنقونها ويعرف جورج بردو الحزب بأنه تنظيم يضم مجموعة من الأفراد لهم نفس الرؤية السياسية وتعمل على وضع أفكارها موضع التنفيذ وذلك بالعمل في أن واحد على ضم أكبر عدد ممكن من المواطنين إلى صفوفهم وعلى تولي أو على الأقل التأثير على قرارات السلطات الحاكمة .
مما سبق نلاحظ بأن وظيفة التنظيم الشعبي من أجل الوصول إلى السلطة هي التي تهيمن على الأحزاب السياسية فتعريف الحزب يؤسس انطلاقا من وظيفته السياسية فإذا فقدت هذه الوظيفة لا يعد هناك مجالا للحديث عن أحزاب سياسية حسب هذا التيار، وهذا ما أكد عليه العديد من الكتاب الليبراليين الذين ربطوا وجود الحزب السياسي بقيامه بوظائف سياسية محددة، ففي كتابها (الأحزاب السياسية والنمو السياسي) يرى كل من لا بالمبار la Balambra وفينر Wainer أن الحزب السياسي يوجد إذا توفرت أربعة شروط:
•استمرارية التنظيم الحزبي: أي أن عمر واستمرارية التنظيم الحزبي غير مرتهنين بعمر قادته في وقت ما، فالحزب غير مرتبط بقيادته بل بأهدافه وهذا الشرط كما سنرى نادرا ما يوجد في أحزاب دول الجنوب وخصوصا العربية، حيث تختزل الحزب في المكتب السياسي أو اللجنة المركزية، وتختزل هذه الأخيرة بالأمين العام.
• وطنية الطابع في التنظيم الحزبي: ومعناه أن الحزب تنظيم محلي وطيد بشكل جيد ودائم ظاهريا، يقيم صلات منتظمة ومتنوعة مع المستوى القومي.
• التوجه نحو ممارسة السلطة بمعنى وجود إرادة واعية للقادة القوميين والمحليين في التنظيم، لأخذ السلطة وممارستها أو مع الغير، وليس فقط التأثير على السلطة.
• التأثير الشعبي: أي الاهتمام بالبحث الدائم عن دعم شعبي من خلال الانتخابات أو عن طريق أخرى. .
‌ب. وجه النظر أو التعريفات الشيوعية:
أما تعريف الأحزاب السياسية عند المفكرين والكتاب الاشتراكيين والشيوعيين، فقد نحى طابعا أيديولوجيا خالصا، وكان أول من أشار إلى دور الأيدولوجيا في نشوء الأحزاب السياسية هو B. Constant سنة 1816 حيث قال بأن الحزب هو اجتماع عدد من الناس يعتنقون العقيدة السياسية نفسها، وظهرت بعد ذلك النظرية الماركسية المعارضة للنظرية الليبرالية رافضة التصور الليبرالي لوجود الأحزاب السياسية ووظيفتها، ورأت أن لا وجود للحزب السياسي إلا إذا كان بارتباط بأيديولوجية طبقة معينة يعبر عن مصالحها أو يدافع عنها، فهو بمثابة أعلى تنظيمات الطبقة، والمعبر عن وجهة نظرها والمدافع عن مصالحها في مواجهة الطبقات الأخرى، وهو إذ يعمل للوصول إلى السلطة، فإنما لتحقيق مصالح الطبقة التي يمثلها، وبديهي أن أيديولوجية الأحزاب في الأنظمة الاشتراكية هي الأيديولوجية المستمدة من النظرية الشيوعية.
وهكذا يعرف كارل ماركس الأحزاب بأنها تعبير سياسي لمختلف الطبقات الاجتماعية، أما لينين مفجر الثورة الروسية عام 1917 فقد أكد على الترابط ما بين الحزب السياسي والبرنامج السياسي، فبدون برنامج لا يمكن للحزب باعتباره تنظيما سياسيا أن يقوم بالمحافظة على خطة العام في كل مرة يجد فيها ظروفا غير متوقعة، أما ستالين فيعرف الحزب بأنه قطاع طليعي لطبقة يعكس مصالحها ويقودها صوب أهدافها المنشودة .
‌ج. وجهة النظر العربية والإسلامية:
أما في الفكر السياسي العربي فقد اقتربت نظرة الكتاب في تعريفهم للأحزاب السياسية من وجه نظر الليبرالية، فيعرف سليمان الطيماوي الحزب بالقول "أنه جماعة متحدة من الأفراد تعمل بمختلف الوسائل الديموقراطية للفوز بالحكم بقصد تنفيذ برنامج سياسي معين "بل ويؤكد بأن النظام النيابي لا يمكن تطبيقه بغير أحزاب سياسية . أما نعمان الخطيب فيعرف الحزب بأن الجمع من الأفراد المتحدين والذين يعملون بمختلف الوسائل الديمقراطية للفوز بالحكم أو المشاركة فيه بقصد تنفيذ وتحقيق برامج سياسية معينة. .
إلا أن هذه التعريفات المتأثرة بالمعنى الاصطلاحي الأجنبي لكلمة حزب (Party) لا تتفق تماما مع معنى كلمة حزب في اللغة العربية وتحديدا كما وردت في القرآن الكريم، حيث مرادفاتها الطائفة أو الجماعة أو الزمرة التي تلتف حول رجل وتدعمه، وعند المسلمين وردت كلمة أحزاب لتدل على المشركين من قبائل قريش ومن حالفهم يوم وقعة الخندق ضد المسلمين، إلا أنه ومع ظهور الفتنة بعد مقتل عثمان بن عفان ظهرت تحالفات وفرق سماها البعض بالأحزاب لأن كل فريق كان يضم جماعة من المسلمين لهم رأي وموقف من السلطة القائمة، ومن هذه الفرق (الأحزاب)، الشيعة والخوارج والمرجئة والمعتزلة....الخ.

2. تاريخ الأحزاب السياسية في فلسطين قبل النكبة:
ارتبط ظهور الأحزاب السياسية في فلسطين بحركة الشعب ضد الاستعمار والصهيونية، حيث كان ظهورها من جهة تعبيرا عن الوعي السياسي بالخصوصية الفلسطينية في مواجهة سياسة تهويد الأرض التي مارستها الحركة الصهيونية منذ بدايات القرن، ومن وجهة أخرى أداة من أدوات النضال ضد الاستعمار البريطاني، إلا أن هذا لا يعني وحدة الأحزاب السياسية الفلسطينية وتطابق برامجها وتعبيرها عن نفس المطالب، فإذا كانت مطالب الحرية والاستقلال ومواجهة الصهيونية والانتداب البريطاني، تعد القاسم المشترك بينها، فإن الخلفية الطبقية والاجتماعية لمؤسسيها والمصالح التي يعبرون عنها باعدت ما بين هذه الأحزاب.
هذه الخصوصية التي ميزت الأحزاب الفلسطينية قبل النكبة وعند لحظة التأسيس استمرت تميزها بعد النكبة 1948 وبعد انطلاق الثورة الفلسطينية 1965 حيث أن تجمع الأحزاب والمنظمات في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، لم يمنع تباين برامجها على أسس سياسية أو اجتماعية أو نتيجة ارتباطات خارجية، ومع ذلك تبقى الظاهرة الحزبية في فلسطين لصيقة بالنضال السياسي، فهي أحزاب ثورية مناضلة من أجل الحرية أكثر مما هي أحزاب تتنافس من أجل الوصول إلى السلطة أو تعبيرا عن مطالب قطاع محدد من الجمهور.
لم يعرف الفلسطينيون أحزابا سياسية خاصة بهم حتى بداية العشرينات من القرن العشرين ويعود ذل إلى ثلاثة أسباب:
الأول: أن الشعب الفلسطيني كان جزءا من الأمة العربية الخاضعة في غالبيتها للهيمنة العثمانية، وبالتالي كانت حركته السياسية جزءا من الحركة القومية العربية المعبرة عن طموحاتها في أحزاب قومية.
الثاني: أن الفلسطينيين تحت الانتداب البريطاني كانوا محرومين من حق تأسيس أحزاب سياسية خاصة بهم، فلجأوا إلى إنشاء جمعيات ونواد كنوع من الالتفاف على قانون المنع السابق.
الثالث: أن إعلان وعد بلفور 1917، والدعم البريطاني للحركة الصهيونية، شكلا عاملا دافعا للفلسطينيين لتأسيس حركة سياسية فلسطينية خاصة بهم، وأحزاب سياسية تعبر عن مطالبهم.
لهذه الأسباب لم تظهر الأحزاب السياسية الفلسطينية إلا في العقد الثاني من القرن العشرين أما قبل ذلك فكانت الجمعيات والنوادي هي الإطار السياسي المعبر عن المطالب الفلسطينية، وقد نشطت هذه الجمعيات بشكل كبير مباشرة بعد إعلان عد بلفور.
ولدت الأحزاب من رحم الجمعيات والنوادي التي جمعت المسيحيين والمسلمين واتخذت رمزا لها شارة الهلال وبداخله الصليب، أسست هذه الجمعيات فروعا متعددة فتواجدت في يافا والقدس وحيفا وغيرها من المدن الفلسطينية، ولعبت سلطات الانتداب البريطاني دورا في إفشال جهود هذه الجمعيات كما فشلت في استمالتها إليها، وتفاديا لهذا المخطط تمت الدعوة إلى توحيد الجمعيات في جمعية واحدة وبرنامج واحد، ومما عزز هذه الدعوة قرر عقد مؤتمر السلام في باريس وحاجة الفلسطينيين إلى من يمثلهم، وهكذا تم توحيد هذه الجمعيات في إطار (الجمعية الإسلامية المسيحية الفلسطينية) ومقرها القدس.
إلى جانب الجمعيات الإسلامية المسيحية، ظهر تنظيم سياسي سمي (المؤتمر العربي) وقد أخذت هذه التسمية كرد على سياسة المؤتمرات التي كانت تعقدها الحركة الصهيونية في فلسطين. فردا على عقد اليهود مؤتمرا في ديسمبر 1918، وجهت الجمعية الإسلامية المسيحية في القدس في أوائل يناير 1919، الدعوة لعقد مؤتمر (البحث 9في أمر عرض المطالب الفلسطينية بشأن تقرير المصير على مؤتمر السلام، والأعراب عن مخاوف العرب الفلسطينيين من الصهيونية ومن احتمال السيطرة اليهودية). وقد تحول المؤتمر إلى تنظيم دائم يجتمع وقت الحاجة للتعبير عن موقف العرب الفلسطينيين، حيث عقد مؤتمره الثاني في دمشق في 27 فبراير 1920 والثالث في ديسمبر 1920، والرابع في مايو- يونيو 1921، والخامس في أغسطس 1922، والسادس في يونيه 1923، وفي هذا المؤتمر الأخير ظهرت اختلافات في وجهات النظر حول كيفية التعامل مع الانتداب البريطاني، وهي خلافات مهدت لظهور أحزاب سياسية بالمعنى الدقيق للكلمة.
عن المؤتمر العربي انبثقت اللجنة التنفيذية، التي استمرت المتحدث الرئيس باسم الفلسطينيين، إلا أن ذلك لم يحل دون ظهور أحزاب سياسية أخذت في كثير من الحالات شكل تكتلات عائلية وعشائرية بحيث افتقدت مقومات التنظيم السياسي الحقيقي، ويقول عزة دروزة السياسي والكاتب الفلسطيني الذي عاصر الحركة الوطنية الفلسطينية قبل 1948" إن أكثر الأحزاب والكتل السياسية التي نشأت في بلادنا هي متقاربة في المبادئ والأساليب والمميز لها هو أشخاص القائمين عليها وكثيرا ما نشأت الأحزاب عندنا كانشقاقات عن الهيئة الأولى- اللجنة التنفيذية العربية- التي حملت لواء النضال الوطني، "نفس الأمر عبر عنه أحمد الشقيري حيث قال:" لم يكن بين هذه الأحزاب خلاف على المبادئ الوطنية، فقد كان ميثاق كل حزب هو ميثاق الحزب الآخر، وإنما هي (الشهرة) في الزعامة والقيادة، ولم تكن لهذه الأحزاب قواعد شعبية عريقة" .
وهذه الأحزاب هي:
• الحزب الوطني 1923:
في يوليو 1923 بدأت الصحف الفلسطينية والمصرية تتحدث عن تشكيل حزب سياسي فلسطيني اسمه (الحزب الحر المعتدل)، دعا بوضوح لمفاوضة الحكومة البريطانية مباشرة والاتفاق معها على تسوية القضية الفلسطينية، وفي أكتوبر من نفس العام نشرت جريدة (مرآة الشرق) خلاصة مبادئ الحزب الذي غير اسمه ليصبح الحزب الوطني، وهذه المبادئ هي السعي للوحدة العربية وعدم الاعتراف بوعد بلفور ومقاومته، ووضع دستور للأمة وتأليف مجلس نيابي وتشكيل حكومة وطنية .
• الحزب الزراعي 1923:
سمي هذا الحزب في بداية تشكيله (الحزب القروي) ثم حمل اسم حزب الزراع، وقد ظهر هذا الحزب في نهاية عام 1923 في منطقة الخليل، كما هو ظاهر في التسمية فإن تأسيسه يقوم على التمييز ما بين المدينة والقرية، ومع أن البرنامج السياسي لهذا الحزب كان قريبا من برنامج الحزب الوطني، إلا أنه وبالرغم من نشاطه الواسع في بداية ظهوره لم يستطع الاستمرار أو كسب احترام الشعب بسبب دخوله في مواجهات مع الحركة الوطنية الفلسطينية.
• حزب الأهالي 1925:
تأسس في أبريل 1925، واستقطب "العناصر الشابة المثقفة، ذات المصالح الاقتصادية الخاصة وذات التطلعات الطبقية الخاصة" ويعد أول حزب يضع برنامجا حزبيا متكاملا، ويمكن التعرف على التوجهات السياسية للحزب من خلال ما جاء في المادة الثانية من برامجه، تقول هذه المادة إن غايته "نشر المبادئ الديمقراطية بين الأهالي، اتخاذ الطرق العلمية والتدابير الايجابية المتواصلة التي تهدف تحقيق مثل الأمة الأعلى وهو الاستقلال التام والتي ليس من شأنها الاعتراف بوعد بلفور" .
• الحزب الحر الفلسطيني 1927:
تأسس في ديسمبر 1927، على يد مجموعة من شباب مدينة يافا، وقد مثل هذا الحزب الطبقة الوسطى، بحيث ضم محامين وأصحاب صحف ومدرسين وتجار.
• حزب الاستقلال العربي 1932:
يعتبر تأسيس حزب الاستقلال العربي منعطفا في مسيرة الحياة السياسية لأنه ساهم في تجديد حيوية الحركة الوطنية الفلسطينية ولأنه استقطب عناصر وطنية ذات وزن في المجتمع الفلسطيني، وقد بدا التفكير بتأسيس الحزب منذ ربيع 1930، إلا أن الفكرة وجدت مقاومة من طرف القيادة التقليدية بزعامة الحاج أمين الحسيني، ولم يعلن عن تأسيس الحزب رسميا إلا يوم 2 أغسطس 1932 ويظهر من القانون الأساسي للحزب أنه اتخذ موقفا وطنيا لا يقبل المساومة أو المهادنة مع الإنجليز والصهاينة، حيث نصت مبادئه على استقلال البلاد العربية استقلالا تاما وأن فلسطين بلاد عربية وهي جزء طبيعي من سورية وطالب الحزب بإلغاء الانتداب ووعد بلفور وإقامة حكم عربي برلماني في فلسطين .
•حزب الدفاع الوطني 1934:
تأسس في 2 ديسمبر عام 1934 برئاسة راغب النشاشيبي وقد عبر هذا الحزب عن تكتل آل النشاشيبي ومجموعة من الأغنياء والأعيان، حيث كان معظم أعضاء هيئة الحزب المركزية من رؤساء البلديات أو من أصحاب المصالح، أما برنامجه السياسي، فقد قام على السعي لاستقلال فلسطين- وهي إشارة إلى صك الانتداب ووعد بلفور-.
•الحزب العربي الفلسطيني 1935:
عبر هذا الحزب عن رغبة القيادة التقليدية بزعامة الحاج أمين الحسيني بدخول معترك الحياة الحزينة، ويظهر ذلك من خلال أخذ جمال الحسيني بادرة تأسيس هذا الحزب، ففي حديث صحفي لهذا الأخير، أشار أن دافعة لتأسيس هذا الحزب يتطابق مع قرار اللجنة التنفيذية- التي يرأسها الحاج أمين الحسيني- الداعي لتأسيس أحزاب وطنية تجدد الحركة الوطنية وتنشطها، وقال "إنه تنفيذا لهذا القرار عقد بعض الإخوان المتجانسين في المبدأ والأساليب الوطنية عدة اجتماعات، ووضعوا فيها مشروع تأسيس حزب يضم إخوانهم في العقيدة والأسلوب" وفي 27 مارس 1935 عقد المؤتمر التأسيسي للحزب واختار جمال الحسيني رئيسا وظهرت مبادئ الحزب في قانونه ونظامه الداخلي اللذان نشرا في 24 أبريل من نفس العام حيث أعلن الحزب أن غاياته "استقلال فلسطين ورفع الانتداب والمحافظة على عروبة فلسطين ومقاومة تأسيس وطن قومي يهودي"
•حزب الإصلاح 1935:
نشأ في يونيو 1935، برئاسة حسين فخري الخالدي وتركز برنامجه السياسي حول السعي لاستقلال فلسطين ضمن الوحدة العربية، واعتبار قضية فلسطين جزءا من القضية العربية الكبرى، ومقاومة السياسة والطائفية، كما طالب بوقف الهجرة اليهودية.
•حزب الكتلة الوطنية:
تأسس في أكتوبر من نفس العام بزعامة عبد اللطيف صلاح، وذلك في مدينة نابلس، وكانت أهداف هذا الحرب متقاربة مع أهداف الحزب العربي الفلسطيني .
•اللجنة العربية العليا:
خلال عامي 1936- 1935 تضافرت عدة عوامل وشكلت حالة من الضغط على الشعب الفلسطيني دفعته لإعادة النظر في حالة الشتات التي تعرفها حركته الوطنية من أهم هذه العوامل القمع الشديد الذي وجهت به ثورة عز الدين القسام وتزايد الهجرة اليهودية إلى فلسطين مما أدى إلى إفقار الفلاحين وطردهم من أراضيهم وزيادة تعسف قوات الانتداب ضد الفلسطينيين، بالإضافة إلى موجة العداء ضد الاستعمار الغربي التي اجتاحت العالم العربي وانتقلت عدواها إلى فلسطين، كل هذه الظروف هيأت مناخ الثورة الكبرى في فلسطين ثورة 1936 والتي بدأت بإضراب شامل تحول إلى ثورة، وكانت لا بد للحركة الوطنية الفلسطينية أن تكون على مستوى التحدي، وأن تتكتل لمواجهة الأحداث.
وبالفعل تشكلت لجنة سميت باللجنة العربية العليا برئاسة الحاج أمين الحسني، وفي يوم 25 أبريل وهو يوم تأسيسها صدر قرار عنها يقضي باستمرار الإضراب العام ووقف الهجرة اليهودية وإنشاء حكومة وطنية هذا وقد استمرت اللجنة العربية العليا في قيادة الشعب الفلسطيني حتى حرب 15 مايو 1948.
3. الأحزاب الفلسطينية ما بعد 1948:
يصعب علينا الحديث عن أحزاب سياسية فلسطينية ما بعد 1948، فالأحزاب السياسية التي كانت في فلسطين تم وقف نشاطها قسرا بسبب الاحتلال، وهكذا منع الفلسطينيون داخل فلسطين المحتلة من ممارسة أي نشاط وطني سياسي وحظر تشكيل أحزاب سياسية فلسطينية، بل حرم الفلسطينيون من تأسيس جمعيات أو نواد يستشف منها أي طابع سياسي، الأمر الذي دفع بعض الناشطين سياسيا داخل فلسطين المحتلة إلى الانخراط في الأحزاب الإسرائيلية وخصوصا ذات التوجه الشيوعي، وذلك للتعبير عن مطالب الفلسطينيين الخاضعين للاحتلال.
أما خارج فلسطين المحتلة، فقد تم ضم الضفة الغربية إلى الأردن عام 1949، وخضع قطاع غزة لحكم عسكري مصري، وفي هذين الجزئين من فلسطين وكما هو الأمر في التجمعات الفلسطينية في البلاد العربية، اضطر الفلسطينيون إما ممارسة العمل السياسي بشكل سري أو الانخراط بالأحزاب العربية وخصوصا ذات التوجهات القومية- مثل حزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب، وما كان حائلا دون تبلور أحزاب سياسية فلسطينية، أن المرحلة الممتدة ما بين 1948- 1964 كانت مرحلة مد قومي، طغت عليها شعارات الوحدة العربية وهي مرحلة تعاملت مع القضية الفلسطينية باعتبارها قضية العرب جميعا، وبالتالي لم تسمح بظهور حركة وطنية فلسطينية واستمر الحال إلى منتصف الستينات، حيث انتفض الشعب الفلسطيني على محاولات طمس هويته الوطنية وأعلن انطلاقة ثورته المسلحة.
منذ منتصف الستينات برزت أحزاب سياسية وطنية فلسطينية، إلا أن هذه الأحزاب كانت أقرب إلى حركات التحرير منها إلى الأحزاب، بمعنى أن هدفها سياسي تحريري أكثر مما هو سياسي اجتماعي يسعى للوصول إلى السلطة، وإذا كان من الصعب اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية التي ظهر أثر عقد المؤتمر الفلسطيني الأول في القدس في 28 مايو 1964 حزبا سياسيا، إلا أنها أعطت الانطلاقة لتنظيم الشعب الفلسطيني في أحزاب ومنظمات.
مع تأسيس السلطة الوطنية ووجود نظام للانتخابات وتنافس على السلطة ظهرت الحاجة لتنظيم المسألة الحزبية، ففي عام 1995 وعشية انتخابات 1996 أصدر الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات مرسوما اعتبر بمقتضاه جميع الفصائل الفلسطينية المنضوية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية أحزابا سياسية مسجلة في وزارة الداخلية، كما عرفت المادة (1) من قانون الانتخابات رقم (13) لعام 1995 الهيئة الحزبية بأنها (كل حزب سياسي وكل تجمع ناخبين تم تسجيله لدى وزارة الداخلية، واتخذ له اسما ورمزا لغاية تسمية مرشحيه والاشتراك في الانتخابات تحت ذلك الاسم والرمز) وفي المادة (5) من القانون الأساسي المعدل لسنة 2005 نصت المادة (26) في فقرتها الأولى على تشكيل الأحزاب السياسية والانضمام إليها وفقا للقانون وبالرغم من ذلك بقيت المسألة الحزبية غير واضحة نظرا للتداخل بين الأحزاب السياسية والفصائل المسلحة والجماعات العسكرية، وحتى نهاية عام 2005 وصل عدد الأحزاب المسجلة لدى وزارة الداخلية إلى 22 حزبا سياسيا بالإضافة إلى 4 قوى سياسية ذات حضور سياسي ولكنها لم تأخذ ترخيصا كحزب سياسي بالرغم من مشاركة بعضها في الانتخابات .

وأهم الأحزاب السياسية والقوى السياسية الفاعلة اليوم:
‌أ.حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح).
‌ب.حركة المقاومة الإسلامية (حماس).
‌ج.الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
‌د.حركة الجهاد الإسلامي.
‌ه.حزب الشعب الفلسطيني.
‌و.جماعة المبادرة الوطنية.
‌ز.الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.
‌ح.الجبهة الشعبية –القيادة العامة، 1969.
‌ط.حركة الاتحاد الديمقراطي (فدا).


المطلب الثاني: الحركة النقابية: The Syndicalism Movement
أولا: تعريف النقابة وأهدافها:
عرف القاموس السياسي النقابة بأنها: "اتحاد تضم المشتغلين بمهنة أو صناعة أو حرفة واحدة، أو مجموع صناعات أو حرف متماثلة أو مرتبطة بعضها ببعض، أو التي تشترك منها في إنتاج واحد، ويكون الغرض منها حماية مصالح العمال والدفاع عن حقوقهم والعمل عل تحسين حالتهم المالية والاجتماعية، إلى جانب هذا التعريف العام للنقابات العمالية، هنالك ما يسمى بالنقابات المهنية أو نقابات المهن الحرة وتعرف هذه الأخيرة بأنها: "اتحاد يضم المتخصصين في مهنة معينة أو مؤهل خاص أو لقب من ألقاب المهنة"... ومعنى هذا أن النقابات المهنية هي فرع أو جزء من النقابات العمالية.
فما نلاحظه من التعريف المشار إليه أن النقابة ترتبط مباشرة بالعمل، فالعمل هو مناط العضوية في النقابة، وهذا ما يميز النقابة عن الحركات الاجتماعية الأخرى كالأحزاب السياسية مثلا، فإذا كان الحزب السياسي يتكون من أفراد يناضلون من أجل الوصول إلى السلطة دون اشتراط انتماء هؤلاء الأشخاص إلى حرفة واحدة، أو قطاع عمل واحد، أو طبقة واحدة فإن النقابة لا تسعى للوصول إلى السلطة بشكل مباشر ولكنها تشترط انتماء أعضائها إلى فئة العمال، بالرغم أن تاريخ الحركة النقابية تداخل من تاريخ الأحزاب السياسية، وفي كثير من الأحيان توظف الأحزاب السياسية النقابات كقوة اجتماعية تلجأ إليها للضغط على الدولة لتحقيق مكتسبات سياسية، كدفع النقابات للقيام بإضرابات، أو مطالبتها بزيادة الأجور الخ.
وعليه فالعمل النقابي هو مجال خاص بالطبقة العاملة في مواجهتها للاستغلال من طرف أرباب الأعمال والطبقات الرأسمالية، أو في مواجهة الدولة، وقد تساوى العمل النقابي مع النضال الديمقراطي من أجل الحرية والمساواة والاعتراف بحقوق الطبقة العاملة كطبقة منتجة وفاعلة في الدولة، وبالتالي فهو عمل دفاعي وديمقراطي، لأنه لا يهدف إلى خلق امتيازات خاصة للعمل، ولكنه يتوخى رفع الحيف عنهم ورفع مستوى معيشتهم وهم الذين يمثلون قطاعا مهما من المجتمع، ويمكن القول إن العمل النقابي يتميز عن العمل المهني والعمل السياسي بما يلي:
1.يتميز العمل النقابي عن العمل المهني، بأن هذا الأخير يهدف إلى الدفاع عن المهنة أكثر من الدفاع عن العاملين فيها، فوسيلته في العمل تتسم بالمحافظة، ويعمل على تكريس الفوارق داخل المهنة (المعلم والمتعلم) وهو عمل محدود لا يتعدى المهنة الواحدة، أما العمل النقابي فهو عمل دفاعي يهدف إلى الدفاع عن العمال ومصالحهم، ويسعى لتغيير أوضاعهم للأفضل، فهو ضد الثبات وضد تكريس هرمية محددة داخل العمل كما أنه لا يقتصر على مهنة محددة، بل يستوعب عمالا من مهن متعددة.
2.ويتميز العمل النقابي عن العمل السياسي أكثر شمولية واتساعا لأنه يسعى على تغيير المجتمع بكامله وأخذ سلطة الدولة ومراقبة أجهزتها . وبالتالي قد يصبح العمل النقابي أداة من أدوات العمل السياسي –أو بالعكس- مثلا نقابة التضامن في بولونيا ودورها في إسقاط النظام الشيوعي. وبالنسبة لأهداف النقابة فقد ارتبطت أهدافها ووسائل تحقيقها بالحركية الاجتماعية بشكل عام، وبالتطورات الديمقراطية على وجه الخصوص، ويمكن الإشارة إلى كل من الأهداف والوسائل باختصار كما يلي:
1.أهداف الحركات النقابية:
‌أ.الزيادة في الأجور.
‌ب.تقليل ساعات العمل.
‌ج.تحريم تشغيل الأطفال والنساء.
2.أما الوسائل فهي:
أ‌.المفاوضات الجماعية.
ب‌.الإضراب.

ثانيا: تاريخ الحركة النقابية في فلسطين:
ولدت الحركة النقابية الفلسطينية في رحم الشروط التاريخية الموضوعية المتسمة بتداخل الصراع الوطني السياسي بالطبقي الاجتماعي، وقد تميزت هذه الحركة بميزات نابعة من خصوصية القضية، وهي وجود الاحتلال وتشتت الشعب الفلسطيني وبالتالي تشتت الطبقة العمالية، وضعف وجودها وفعاليتها، كل ذلك يجعل الحركة النقابية الفلسطينية أقرب إلى التنظيم السياسي الاجتماعي، منها إلى التنظيم النقابي بالمفهوم التقليدي للكلمة فالعامل ورب العمل كلاهما مستهدف من عدو مشترك –الاحتلال- وهذا يؤكد كما ذكرنا تداخل السياسي بالاجتماعي في الحالة الفلسطينية.
عرفت فلسطين كما هو الحال في بقية البلدان العربية، نظام الطوائف، وذلك في العهد التركي، حيث وجد ما كان يسمى (قانون الحرف العثماني)، الذي يقوم بتنظيم أصحاب المهنة الواحدة وجعل كلا منها تخضع (لشيخ الكار- المهنة)، وهو عادة أقوى شخص من العاملين في المهنة، إلا أن هذه التنظيمات –الطوائف- لا تعتبر نقابات بمعنى الكلمة. وفي نهاية العهد التركي شهدت فلسطين تطويرا في نظام الطوائف جعلها قريبة من النقابات، ففي أوائل القرن العشرين ظهرت "جمعية الإخاء والعفاف" في فلسطين والمشكلة من طبقة العمال وأصحاب الحرف ويعود سبب ظهورها إلى الانتشار الجزئي للصناعة الحديثة وخصوصا الإنتاج السلعي الصغير، وتطور المنشئات الحرفية المشار إليها.
كان أولى علامات ظهور وعي نقابي عمالي، هو تأسيس (النادي الخيري لعمال سكك الحديد) وذلك في أوائل 1932، وكان لتأسيس هذا النادي أثر بعيدا على الحركة النقابية في فلسطين، ليس فقط لأنه نواة الحركة النقابية الفلسطينية، بل أيضا لأنه أوجد إطارا للعمال الفلسطينيين يستطيع أن يواجه العمال اليهود الذين كانوا أكثر تنظيما حيث كان الهستدروت يمارس تهويد العمل وبالتالي يعمل على طرد الفلسطينيين من أعمالهم لإحلال اليهود محلهم .
بعد قليل من تأسيس (النادي الخيري لعمال السكك الحديد) تقدم عبد الحميد حيمور وبعض زملائه في النادي إلى السلطات البريطانية بإشعار "تأليف" جمعية العمال العربية الفلسطينية، مقرها في حيفا، وفي 21 مارس 1925 أعلن عن قيام الجمعية بإجازتها من السلطات البريطانية، وكانت هذه النقابة تضم في عضويتها آنذاك ثمانية أعضاء فقط، وكانت أولى الخطوات التي اتخذتها الجمعية هو إعلانها عن القيام بالاحتفال بمناسبة فاتح مايو، مما أثار حفيظة الانتداب البريطاني الذي منع الجمعية من القيام بذلك، وشهدت السنوات الأربع التالية لظهور الحركة النقابية الفلسطينية حالة من السكون ارتبطت بواقع الحركة الوطنية الفلسطينية بشكل عام، وكان عام 1929 عاما حاسما، حيث قام الفلسطينيون بانتفاضة أغسطس المشهورة والتي عبرت عن الغضب الشعبي العارم ضد حكومة الانتداب البريطاني المتواطئة مع الحركة الصهيونية، وكان في الإضرابات الشاملة التي شهدتها البلاد في نوفمبر من نفس العام.
وفي ظل هذا الوضع المشحون تم عقد مؤتمر العمال العرب الأول في حيفا في 11 يناير 1930 بدعوة من جمعية العمال العربية الفلسطينية، حيث توافد العمال العرب الفلسطينيون إلى حيفا من جميع العمال العربية الفلسطينية، حيث توافد العمال العرب الفلسطينيون إلى حيفا من جميع أنحاء فلسطين، وبلغ عددهم 61 مندوبا يمثلون عمال مختلف الحرف والصناعات، وقد عكس المؤتمر بوضوح ترابط النضال النقابي بالنضال السياسي وأشار المؤتمر إلى ذلك بالقول إن انعقاده جاء في وقت سرت روح اليقظة بين جميع الطبقات العاملة في فلسطين ويستنتج المؤتمر أن واجب العمال ليس المدافعة عن مصالحه فقط، بل يجب أن يكون مركزا للدفاع عن جميع المظلومين والمستعبدين وأن يجاهدوا في سبيل تحريرهم .
في داخل المؤتمر ظهر تياران متناقضان، حيث برزت بعض العناصر الإصلاحية ذات المواقف الأقرب إلى مواقف القيادة السياسية التقليدية، في مواجهة عناصر ثورية شيوعية، إلا أن المؤتمر شكل منعطفا مصيريا في تاريخ الحركة النقابية الفلسطينية: "حوادث هذا المؤتمر تسجل ببساطة متناهية تاريخ حركة العمال الفلسطينية المقرونة بالحركة التحريرية ولا شك أن الفئة الأكثر استثمارا من بقية طبقات الشعب في فلسطين هي الطبقة العاملة، تلك الطبقة التي تعطي ثمارا أتعابها لغيرها ولا تجد في النهاية شيئا ترتكز عليه لأن أفرادها اضطروا لبيع أنفسهم وقوتهم من شدة الضنك والفقر إلى الأغنياء والرأسماليين"
بعد عقد المؤتمر العمالي الأول سعت جمعية العمال العربية إلى إنشاء فروع لها خارج حيفا، حيث أقامت فروعا في كلا من المدن التالية: يافا، بيسان، نابلس، طولكرم، جنين، عكا، شفا عمرو، جبع، يازور، الناصرة، وفي عام 1934 أسس عمال النسيج بالمجدل نقابة عمالية، وفي الأول من سبتمبر من نفس العام أسس عمال الميناء والتجارة والبناء في مدينة يافا (جمعية العمال العرب) وفي العام الموالي أسس عمال السكب وعمال شركة وغنر (جمعية العامل العربي)، إلا أنه ما بين عقد المؤتمر الأول وقيام الحرب العالمية الثانية شهدت الحركة النقابية الفلسطينية ركودا واضحا بسبب هيمنة النشاط السياسي على العمل النقابي والتحدي الذي واجهته الحركة النقابية، وخصوصا أن هذه المرحلة شهدت ثورة 1936 التي استمرت حتى 1939، وهي الثورة التي تطلبت أكبر قدر من التضامن الاجتماعي لمواجهة المخططات البريطانية والصهيونية.
ومع ذلك شهدت هذه السنوات عدة اضطرابات عمالية، حيث تم إحصاء حوالي 46 إضرابا، من أبرزها إضراب بحارة حيفا في ربيع 1932، وإضراب عمال مصنع الأسمنت (نيشر) في نفس العام اوإضراب عمال النسيج في المجدل وإضراب عمال مصانع الدخان في حيفا وقد كتب أحد النقابين الفلسطينيين آنذاك وهو جبرا نقولا يصف حال الحركة النقابية وما تواجه من تحد صهيوني، إن اشتداد حركة اغتصاب الأعمال التي تقوم بها الهستدروت واتساعها في الزمن الأخير بتلك الصورة الصريحة قد كشف لهم نوايا تلك الجمعية الصهيونية وأنها لا تدخل في حركتهم إلا لعرقلتها ولطردهم من مكان عملهم وإحلال الصهيونيين محلهم".
ساهم نشوب الحرب العالمية الثانية على نهوض الحركة النقابية العمالية في فلسطين، لأن هذه الحرب ساعدت على تطور الصناعة وأتاحت فرص عمل في معسكرات الجيش الإنجليزي وتطور قطاع البناء ونشطت الحركة التجارية، بالإضافة إلى أن ممارسات الحركة الصهيونية ساعدت على إبراز العمال الفلسطينيين عن نظائرهم اليهود.
وهكذا دبت الحياة مجددا في الحركة النقابية الفلسطينية وظهر ذلك جليا في تأسيس نقابات جديدة، كنقابة عمال البرق والبريد والهاتف، ونقابة عمال ودوائر الأشغال العامة، نقابة عمال شركة سبني التجارة (البريطانية)، ونقابة عمال شركة تكرير البترول، ونقابة عمال معسكرات الجيش البريطاني، بالإضافة إلى نقابات جديدة انضمت إلى جمعية العمال العربية، "وبقيام هذه النقابات ارتقت الحركة النقابية العمالية الفلسطينية درجة أعلى، مخلفة وراءها التنظيم النقابي على المستوى الإقليمي متجهة إلى التنظيم النقابي على مستوى الصناعة، بل ارتقت أيضا، في مجالات التجمعات العمالية الكبيرة كمعسكرات الجيش، إلى التنظيم النقابي على مستوى المنشأة .
خلال هذه الفترة برز بوضوح نشاط الشيوعيين داخل الحركة النقابية وكان الشيوعيون يعارضون بوضوح جمعية العمال العربية لاعتبارات سياسية وأخرى نقابية محض، كاتهامها بتكريس تبعثر الحركة النقابية العمالية، وعليه فقد عملوا على إثبات وجودهم، ففي خريف 1942 قام الشيوعيان البارزان إميل توما وبولس فرح بإنشاء "اتحاد جمعيات ونقابات العمال العرب" وقد نجح الاتحاد خلال فترة قصيرة في تجنيد آلاف العمال العرب. وفي عام 1943 وبمبادرة من شيوعي الناصرة، تشكلت نقابة عمالية حملت اسم "جمعية العمال العرب في الناصرة".
شكل ظهور (اتحاد جمعيات ونقابات العمال العرب) واستقطابه للعمال العرب، بداية انقسام في ساحة العمل النقابي الفلسطيني، وللخروج من هذه الوضعية اقترح الاتحاد إنشاء تنظيم واحد للعمال يعمل كإطار موحد للنقابات، وفي 19 أغسطس 1945، اجتمع مندوبون عن اتحاد جمعيات ونقابات الأعمال العرب مع مندوبين عن فروع نقابية انشقت عن جمعية العمال، وشكلوا لجنة تنفيذية مكونة من ستة أشخاص أوكلوا إليها مهمة صياغة دستور لتنظيم نقابي موحد سمي (مؤتمر العمال العرب) والدعوة لاجتماع الجمعية العمومية للمؤتمر، وبالفعل تم تأسيس مؤتمر العمال العرب في نفس العام وحل "اتحاد جمعيات ونقابات العمال العرب" نفسه ليندمج في التنظيم الجديد، أما "جمعية العمال" فقد استمرت في معارضتها لهذه التحولات، متهمة المؤتمر بتبعية لعصبة التحرر الوطني الشيوعية، بالرغم من هذا التعدد في الحركة النقابية فقد استمرت المزاوجة ما بين النضال السياسي والنضال النقابي، ويظهر ذلك جليا في القرارات الصادرة عن هذه النقابات.
ففي 6 سبتمبر 1947 عقد مؤتمر العمال العرب مؤتمرة الثالث ومما جاء في قرارات هذا المؤتمر:
"إنه مع كل هيئة وطنية تعمل لتحقيق الأهداف الوطنية العامة التالية":
1.الغاء الانتداب.
2.جلاء الجيوش الأجنبية جلاء تاما.
3.استقلال فلسطين استقلالا ناجزا غير مقرون أو شرط وإقامة حكم ديمقراطي.
4.منع الهجرة اليهودية.
5.حماية الفلاح العربي ومنع بيع الأراضي، "وفي نفس الاتجاه سار (مجلس نقابات عمال فلسطين) وهو الاسم الجديد لمعية العمال منذ أغسطس 1946. ففي مؤتمر الثاني المنعقد في 18 أغسطس 1947، أصدر قرارات أكدت على رفض مشروع تقسيم فلسطين وطالب بإقامة دولة عربية فيها.
وجاءت 1948 بنتائجها المدمرة على الشعب الفلسطيني بكامله، وكانت نتيجة ذلك تفكك البنية الاجتماعية للشعب الفلسطيني بما فيها الطبقة العمالية، ومن بقي من هذه الطبقة في فلسطين خضع للاحتلال وقوانينه مما أدى إلى انتهاء الحركة النقابية الفلسطينية داخل فلسطين أو تجميد نشاطها، أما من هجروا من فلسطين فقد تحولوا إلى جموع نازحين يعيشون في مخيمات في ظروف قاسية ويخضعون لقوانين البلدان المضيفة لهم .
ومع ذلك فقد استطاع الشعب الفلسطيني تجاوز صدمة النكبة وأعاد تجميع قواه لمواجهة التحدي واسترداد الأرض، ولكن وحيث أنه كان محرما على الشعب الفلسطيني مزاولة نشاط سياسي وطني مستقل، فقد لجأ الفلسطينيون إلى تنظيم أنفسهم من خلال اتحاديات شعبية من مختلف القطاعات، الاتحاد العام لطلاب فلسطين الذي تأسس عام 1959، والاتحاد العام لعمال فلسطين الذي تأسس عام 1963، والاتحاد العام للمرأة 1965، والاتحاد العام للمعلمين 1969.
فبالنسبة لاتحاد عمال فلسطين فقد تشكل في أوائل أغسطس 1963 (لجنة عمال فلسطين) ضمن الاتحاد الدولي ونقابات العمال العرب، وعندما عقد هذا الأخير مؤتمرا في غزة يوم 27 مارس 1964، سماه (مؤتمر فلسطين)، اتخذ قرارا يقضي بتشكيل اتحاد لعمال فلسطين، وبدا النقابيون الفلسطينيون يتصلون بزملائهم القدامى المقيمين في الشتات وعقد هؤلاء اجتماعا في القاهرة في أواخر يوليو 1964 على هامش دورة تثقيفية أقامها اتحاد العمال العرب، وفي هذا الاجتماع تم انتخاب لجنة تنفيذية مقرها القاهرة وعقد المؤتمر الأول لعمال فلسطين في غزة بتاريخ 14 أبريل 1965 وتوالت الاجتماعات، وتم تأسيس فروع للاتحاد في أماكن تواجد الفلسطينيين .
وهكذا نلاحظ أن الحركة النقابية الفلسطينية ما بعد حرب 1948 تحولت إلى قاعدة من قواعد الثورة الفلسطينية وأصبح هدفها سياسيا أكثر مما هو مطلبا اجتماعيا، بمعنى أنها أصبحت إطارا من خلالها تستطيع حركة الثورة الفلسطينية تعبئة الشعب الفلسطيني في مختلف القطاعات لزجه في معركة التحرير، هذا لا يعني غياب المطالب الاجتماعية والاقتصادية إلى أن هذه المطالب كانت غالبا تلبي من خلال اتصالات سياسية ما بين منظمة التحرير الفلسطينية والبلدان المضيفة، لأن العمال الفلسطينيين كانوا محرومين من حق الإضراب أو ممارسة أي وسائل ضغط أخرى، وأن مارسوا هذه الوسائل فإنما من خلال انتمائهم لنقابات عمالية في البلدان التي يقيمون فيها إذا كان القانون يسمح بذلك.
مع تأسيس السلطة الوطنية عام 1994 أستجد وضع جديد وهو وجود سلطة وطنية مشغلة للآلاف من الموظفين والعمال ورجال التعليم الأمر الذي نتج عنه بلورة حركة مطلبية للنقابات العمالية، وبالفعل قامت حركات نقابية وعمالية بإضرابات واحتجاجات سواء فيما يتعلق بالأجور أو بالبطالة، إلا أنه ونظرا لأن غالبية الحركات النقابية كانت منتمية لنفس الحزب الحاكم فقد أتسمت الحركات المطلبية بالهدوء وكانت محدودة، ولكن بعد وصول حركة حماس للحكومة مع انتخابات يناير 2006 ثم الحصار الذي فرض على الشعب الفلسطيني والذي أدى لوقف صرف رواتب أكثر من 170 ألف موظف بالإضافة لتزايد البطالة عند الطبقة العمالية، قام موظفو السلطة بإضرابات ومسيرات احتجاجية في شهر سبتمبر من نفس العام مما هدد المسيرة التعليمية والقطاع الصحي وأحدث حالة من التوتر بين الموظفين والحكومة مع تداخل القضايا المطلبية بالقضايا السياسية.

خلاصة الفصل

المجتمع المدني الفلسطيني بكل أطيافه أصبح حقيقة لا يمكن تجاهلها والسلطة الفلسطينية أصبحت حقيقة لا يمكن تجاهلها ولا يجب تجاهلها، وحيث أن أحدهم لا يستطيع إقصاء الآخر ولا يجب عليه فعل ذلك، فالحل هو ميثاق شرف وطني يحدد الثوابت التي لا يجوز الاختلاف عليها ونقاط الاختلاف التي يمكن تعدد الاجتهاد بشأنها، وأهم الثوابت التي يجب الإجماع عليها هو وجود عدو مشترك لم يعترف بعد بحقوقنا السياسية، والديمقراطية كنظام للحكم والممارسة السياسية والحرية كفضاء يتيح للجميع التعبير عن رأيه دون عائق.
كما يجب الإشارة إلى أن الأحداث الجسام المصاحبة للانتفاضة أدخلت تغييرات وفرضت تحديات على مكونات المجتمع المدني وعلى المجتمع بشكل عام، فضعف السلطة مع تزايد عدد الشهداء والمصابين والجرحى فرض على المجتمع ومؤسساته وتشكيلاته التقليدية القيام بمهام هي من اختصاص الدولة، ومن جهة أخرى وكمحاولة من الدول المانحة للفصل بين المجتمع المدني والعمل النضالي ضد إسرائيل تم توزيع وثيقة على مؤسسات المجتمع المدني للتوقيع عليها، وهي التزام من هذه المنظمات بعدم المشاركة بأي نشاط إرهابي أو يدعم الإرهاب أو تمويله، والمقصود بالإرهاب هنا هو عمليات المقاومة ضد إسرائيل والولايات المتحدة، وهو الأم الذي يتطلب وجود رؤية وطنية إستراتيجية لطبيعة المرحلة ولمفهوم المقاومة ولكيفية دمج كل مؤسسات المجتمع ضمن هذه الإستراتيجية حتى لا يتغلغل التمويل الخارجي ليهدد وحدة الشعب

الفصل السادس
المجتمع الفلسطيني المعاصر
معطيات اجتماعية ومؤشرات إحصائية

في الفصول السابقة تناولنا المجتمع الفلسطيني كحالة سسيوسياسية متحولة، ذلك أن استمرار الاحتلال والمواجهة الحادة مع إسرائيل وبالتالي عدم حسم النزاع، عبئ كل الشعب الفلسطيني لمواجهة هذه الحالة وتنسيق الهم السياسي على الهم الاجتماعي، وسنخصص هذا الفصل لتسليط الضوء على الحالة الديمغرافية والتعليمية والسسيولوجية- الأسرة والزواج، وسنلاحظ أن هذه المقاربة تعكس واقع مجتمع مشتت جغرافيا وتعكس حالة مجتمع متحول في تركيبته السكانية، وتعتبر انتفاضة الأقصى من أهم الأحداث التي تركت بصمتها على المجتمع الفلسطيني على كافة المستويات، حيث لم تقتصر نتائج الانتفاضة على ما قامت به إسرائيل من تجريب وهدم للأرض والبيوت وتقتيل للبشر، بل زعزعت الأسس الاقتصادية والسسيولوجية للمجتمع الفلسطيني حيث زادت البطالة بنسبة مهولة وانتشر الفقر وتدهورت الحالة الصحية وتخلخلت القيم وأنماط السلوك الاجتماعي بالإضافة إلى تدمير النظام السياسي ومؤسسات السلطة.
وعليه، فإن الجداول والإحصاءات التي سترد وإن كانت تلخص القضية المثارة بأرقام وتجعلها أسهل للفهم والتفسير، إلا أنه يجب الحذر من الإحصاءات سواء من حيث دقتها أو من حيث عدم ثباتها، فالإحصاءات تعكس الواقع لحظة إجراء البحث، إلا أن الواقع الاجتماعي سريع التحول والمتغيرات الدخيلة عليه –وخصوصا السياسية- لا تعد ولا تحصى، ومع ذلك ليس أمام الباحث الاجتماعي إلا اللجوء للجداول والإحصاءات أو لغة الرياضيات، لأنها تعقلن وتمنهج المعرفة وتجعلها أكثر دقة، ومن وجهة أخرى فقد تجنبنا رصد إحصائيات حديثة لأن سنوات الانتفاضة أوجدت ظروف استثنائية على مختلف القطاعات ونعتقد أنها لا تصلح لقياس المتغيرات الاجتماعية.

المبحث الأول
التركيبة السكانية والتوزيع الجغرافي

المطلب الأول: المجتمع الفلسطيني مجتمع تعددي:
تبلغ مساحة فلسطين 27.009 كيلو متر مربع بما في ذلك بحيرة طبرية والحولة ونصف مساحة البحر الميت، وقطن في هذه المساحة تاريخيا الشعب الفلسطيني المتميز بتعدديته الطائفية، ففيه تجاور المسلم من المسيحي مع اليهودي طوال مئات السنين، واستمر التعايش إلى حين قيام دولة إسرائيل حيث تعصب اليهود للحركة الصهيونية فيما استمر التضامن ما بين المسلمين والمسيحيين، إلا أنه نتيجة الهجرة اليهودية إلى فلسطين وهجرة الفلسطينيين من فلسطين تغيرت التركيبة السكانية، ففي أواخر القرن السادس عشر قدر سكان فلسطين بـ 206.290 ألف نسمة ووصل عددهم عام 1947 حوالي مليوني نسمة، ويبين الجدول الموالي تطور عدد السكان من عام 1914 إلى 1947.

جدول رقم (1)
السنة المجموع الكلي للسكان السكان العرب السكان اليهود
العدد النسبة العدد النسبة
1914 689.775 634633 29% 55.142 8%
1922 757182 673.388 88.9% 83.794 11.1%
1931 1.35.821 861.211 83.1% 174.610 16.9%
1944 1.739.624 1.210.922 69.6% 528.702 30.4%
1947 1.977.626 1.363.387 69% 614.239 31.0%

وبالنسبة للتوزيع السكاني حسب الطوائف من غير اليهود، يظهر تعداد رسمي للسكان في فلسطين 22/10/1922 أن نسبة العرب 88.9% من مجموع السكان موزعين كما يلي:

جدول رقم (2)
المسلمون 590.890 78%
المسيحيون 73.024 9.6%
الدروز 7.28 0.1%
البهائيون 265 0.03%
سامريون 163 0.02%
شيعة 156 0.02%
آخرون 1.662 1.13%
المجموع 673.388 88.9%
وفي عام 1931 تم إجراء إحصاءا رسميا ثانيا بلغ فيه عدد سكان فلسطين 1.035.821 نسبة منهم 174.610 يهودي ونسبتهم 16.86% من مجموع السكان والباقي عرب موزعون كالآتي:

جدول رقم (3)
المسلمون 759.712 73.3%
المسيحيون 91.398 8.8%
الدروز 9.148 0.9%
البهائيون 350 0.03%
سامريون 182 0.02%
لادينيون 421 0.04%
المجموع 861.211 83.14%

وكانت هناك تقديرات رسمية بريطانية لجميع السكان الفلسطينيين عام 1944 حيث بلغ عدد السكان 1.739.624 منهم 528.702 يهودي نسبتهم 30.4% من مجموع السكان والباقي عرب موزعون على الشكل التالي:

جدول رقم (4)
المسلمون 1.061.277 61.5%
المسيحيون 135.547 8%
آخرون 14.098 0.8%
المجموع 1.210.922 69.6%
تقديرات أخرى للسكان بتاريخ 31/ مارس 1947 أظهرت بأن عدد سكان فلسطين قد وصل إلى 1.977.626 منهم 614.239 يهوديا بنسبة 31.1% من جملة عدد السكان والباقي عرب موزعين على النحو التالي:

جدول رقم (5)
المسلمون 1.201.363 60.7%
المسيحيون 146.162 7.4%
آخرون 15.649 0.8%
المجموع 1.363.387 68.9%

تغيرت التركيبة السكانية للمجتمع الفلسطيني بشكل كبير بعد 1948 نتيجة الهجرة الفلسطينية من فلسطين والهجرة اليهودية إلى فلسطين، كما أن نسبة كبيرة من الفلسطينيين المسيحيين غادروا فلسطين إلى بلاد المهجر. والجداول التالية تبين لنا الحالة الديمغرافية في السنوات الأخيرة.


جدول رقم (6)
جدول يوضح توزيع السكان الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية حتى نهاية عام 2000
المنطقة عدد السكان المجموع %
ذكور % إناث %
الضفة الغربية 1040141 50.6 1017004 49.4 2057195 63.8
قطاع غزة 588734 50.5 576828 49.5 1167359 36.2
الأراضي الفلسطينية

جدول رقم (7)
يبين توزيع السكان حسب الفئات العمرية
فئات العمر الأراضي الفلسطينية
العدد النسبة
ذكور إناث ذكور إناث
0-4 301683 291210 18.5 18.3
5-9 254263 2466233 15.6 15.4
10-14 210539 202988 12.9 12.7
15-19 171958 163420 10.6 10.2
20-24 144589 138688 8.9 8.7
25-29 121779 117892 7.5 7.4
30-34 102694 98075 6.3 6.1
35-39 86091 80136 5.3 5.0
40-44 65586 43663 4.0 3.9
45-49 45088 43886 2.8 2.8
50-54 33629 35610 2.1 2.2
60-64 24379 29854 1.5 1.9
65-69 20146 26039 1.2 1.6
70-74 17611 23037 1.1 1.4
75-74 12884 17071 0.8 1.1
75-79 8183 10731 0.5 0.7
81+ 7773 8996 0.4 0.6
المجموع 1628875 1595629 100 100

جدول رقم (7)
يوضح توقعات عدد السكان في الأراضي الفلسطينية ما بين 1997- 2005
السنة المنطقة
الأراضي الفلسطينية الضفة الغربية قطاع غزة
ذكور إناث ذكور إناث ذكور إناث
1997 1.433.507 1.433.507 920.937 512.570 512.570 504.982
1998 1.493.591 1.464.988 957.766 937.489 535.825 527.499
1999 1.557.797 1.527.084 996.925 975.359 560.872 551.725
2000 1.268.875 1.595.629 1.040.141 1.017.004 588.734 578.625
2001 1.709.039 1.672.713 1.088.786 1.063.715 620.253 608.998
2002 1.794.614 1.754.910 1.140.465 1.113.269 654.149 641.641
2003 1.882.359 1.839.185 1.193.090 1.163.721 689.269 675.464
2004 1.972.216 1.925.487 1.246.612 1.215.026 725.604 710.461
2005 2.064.252 2.013.729 1.300.982 1.267.167 763.270 746.562
المصدر: الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
نلاحظ من الجداول أعلاه ارتفاع معدل الخصوبة بالمقارنة مع المجتمعات الأخرى، إذا بلغت بشكل إجمالي عام 2000 حوالي 5.93% في الضفة الغربية 5.52% وفي قطاع غزة 6.81% ويعتبر معدل الخصوبة في قطاع غزة من المعدلات الأعلى في العالم، ويعود ارتفاع معدل الخصوبة في المجتمع الفلسطيني إلى عادة الزواج المبكر للإناث والرغبة في إنجاب الذكور وهي عادة متأصلة في المجتمعات الأبوية والتقليدية، إلا أن معدل الخصوبة عند فلسطينيي الشتات أقل مما هي عند فلسطينيي الداخل. كما أظهرت نتائج الإحصاءات التي قام بها الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني ارتفاع معدلات النمو السكاني بين الفلسطينيين حيث بلغ معدل النمو السكاني 4.3%.
والنسبة إلى التركيب العمري للسكان فإن الهرم السكاني الفلسطيني يشير إلى تميز المجتمع الفلسطيني بأنه مجتمع فتي إذ أن 66.4% من إجمالي عدد السكان يقعون تحت سن الـ 25 عاما. ويشكل الأطفال تحت سن 4 سنوات النسبة الكبرى من السكان إذا بلغت نسبتهم 18.3% عند الإناث مقابل 18.5% عند الذكور أما الأطفال من الفئة العمرية 5-9 سنوات فنسبتهم 15.4% للإناث و15.6% عند الذكور وتقل النسبة كلما زادت فئات العمر.

المطلب الثاني: اللاجئون الفلسطينيون:
عرفت الأونروا اللاجئ الفلسطيني بالشخص الذي كان يقيم في فلسطين خلال الفترة من 1 حزيران/ يونيو 1946 حتى 15 أيار/ مايو 1948 والذي فقد بيته ومورد رزقه نتيجة حرب 1948، وينقسم اللاجئون لعدة فئات فهناك لاجئو عام 1948 وأبناؤهم وهؤلاء ينقسمون إلى فئتين: الأولى هم المسجلون لدى وكالة الغوث الدولية لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) والثانية غير المسجلين، وهناك نازحون داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 48 ويزيد عددهم على ربع مليون، وكذلك هناك نازحون نتيجة حرب 1967. إلا أن الأونروا لا تعترف إلا باللاجئين الفلسطينيين المقيمين في مخيمات معترف بها وهي المتواجدة وهي الضفة الغربية وقطاع غزة ولبنان والأردن وسوريا والبالغ عددهم 3.8 مليون لاجئ وهم اليوم أكثر من خمسة ملايين لاجئ- ونسبة 62.2% من إجمالي مجموع اللاجئين الفلسطينيين المسجلين في الأونروا، أي حوالي (2.25) مليون لاجئ فلسطيني يتمركزون في مناطق الشتات المحيطة بفلسطين، منهم 41.7 بالمائة في الأردن، 10.2 بالمائة عند الأونروا، فإن عدد اللاجئين الذين يعيشون خارج فلسطين يصبح (2.7) مليون لاجئ يمثلون 67.5% من إجمالي مجموع اللاجئين، وهناك حوالي مليون فلسطيني يعيشون في الدول العربية من غير دول الجوار وخصوصا في دول الخليج، ومثلهم يعيشون في الدول الأجنبية.
تعتبر مخيمات الأردن أكبر تجمع للاجئين ويصل عددها عشرة مخيمات، يقطنها 18.2% من إجمالي عدد اللاجئين هناك والمقدر في عام 1999 بنحو 1612742 لاجئا، كما أن مخيمات الأردن هي الأكبر مساحة بين المخيمات حيث تصل إلى 5750 دونما أكبرها مخيم البقعة ومساحته 1400 دونم، أما في لبنان فيقطن في مخيماتها البالغ عددها 12 مخيما 55.4% من إجمالي عدد اللاجئين الفلسطينيين هناك والبالغ عددهم 370144 لاجئا في عام 1999، وقد تزاديدت نسبة قاطني المخيمات أثناء الحروب الأهلية وبعدها –ما بين 1975 و 1982- حيث وصلت النسبة إلى النحو 65% من إجمالي اللاجئين في لبنان، أما مساحة المخيمات فهي 1670 دونما، أكبرها مخيم الرشيدية إلى الجنوب من مدينة صور وتبلغ مساحته 267 دونما، أما في سوريا فيوجد عشرة مخيمات يقطنها نحو 29.2% من إجمالي مجموع اللاجئين الفلسطينيين البالغ 374621 لاجئا في عام 1999، يضاف إليهم 120 ألفا هم سكان مخيم اليرموك غير المعترف به من قبل الاونروا على رغم انتشار خدماتها الصحية والتربوية فيه، أما مساحة المخيمات في سورية فيبلغ 9174 دونما أكبرها مخيم جرمانا، ومساحته 2414 دونما، إضافة إلى ذلك يوج عشرات الآلاف من اللاجئين في مصر – ويتراوح عددهم ما بين الستين والثمانين ألفا- إلا أنهم غير مسجلين في الأونروا ولا يستفيدون من خدماتها.
وبالنسبة للحالة الاجتماعية لفلسطينيي المخيمات، فقد حافظ سكان المخيمات على عاداتهم وتقاليدهم التي حملوها معهم من الوطن، سواء تعلق الأمر بطقوس الزواج حيث يسود بينهم الزواج الداخلي –الفلسطيني يفضل الزواج من فلسطينية والعكس صحيح- أو إحياء المناسبات الوطنية والدينية، كما عززت المعاملة غير الودية التي يلقونها من غير الفلسطينيين روح التضامن بينهم، إلا أن هذا التشخيص العام لا ينفي وجود تمايزات من بلد إلى آخر سواء بالنسبة لدرجة الاندماج داخل البلد الذي يقطنون به أو بالنسبة للحالة الاقتصادية، فالأردن مثلا منح أو فرض على الفلسطينيين الجنسية الأردنية بما تستلزم من الخضوع للقوانين الأردنية والانخراط بالتجنيد الإجباري وممارسة العمل النقابي والحزبي في إطار النقابات والأحزاب الأردنية الرسمية، أو بمعنى آخر كان على الفلسطينيين أن يكيفوا حياتهم ليعيشوا كأردنيين، أما في سوريا فبالرغم من أن الحكومات السورية المتعاقبة حافظت على وضعية اللاجئين بالنسبة للفلسطينيين إلا أنها سمحت لهم بالانخراط بالوظائف العامة للدولة وممارسة المهن أسوة بالسوريين. وكان حال الفلسطينيين في لبنان هو الأكثر سوءا سواء من الناحية الاجتماعية أو السياسية أو الأمنية أو ال9اقتصادية حيث تم منعهم من العمل في 70 مهنة في الاقتصاد اللبناني، مما جعل معدلات البطالة عندهم تصل إلى أكثر من 50%. وقد لعبت التوازنات الطائفية الدقيقة في لبنان دورا في الصعوبات التي واجهها الفلسطينيون هناك.
وفي أعقاب حرب 1948 كان تقديم المساعدات الطارئة للاجئين الفلسطينيين يتم من خلال منظمات دولية مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر وجمعيات خيرية دولية أخرى ومنظمات غير حكومية وفي تشرين ثاني/ نوفمبر 1948 أسست الأمم المتحدة منظمة تسمى "هيئة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين" وذلك لتقديم المعونة للاجئين الفلسطينيين وتنسيق الخدمات التي تقدمها لهم المنظمات غير الحكومية وبعض منظمات الأمم المتحدة، وفي ديسمبر 1949 وبموجب قرار الجمعية العامة رقم 302 تأسست وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) لتعمل كوكالة مخصصة ومؤقتة، على أن تجدد ولايتها كل ثلاث سنوات لغاية إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، وصدر هذا القرار بعد أن رفضت إسرائيل السماح للاجئين بالعودة تطبيقا للقرار 194 الذي صدر بنفس العام، وبدأت الأونروا عملياتها في مايو 1950 كوريثة لهيئة الإغاثة وتسلمت سجلات اللاجئين الفلسطينيين من اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
أما بالنسبة للتمويل فمعظمه يأتي من تبرعات طوعية من الدول المانحة وأكبر المانحين للأونروا هي الولايات المتحدة الأمريكية والمفوضية الأوروبية والمملكة المتحدة والسويد ودول أخرى مثل دول الخليج العربي والدول الاسكندنافية واليابان وكندا ومن منظمات غير حكومية.

اللاجئون وحق العودة:
اللاجئون الفلسطينيون حالة خاصة ومأساة إنسانية بكل معنى الكلمة، فلم يغادر هؤلاء وطنهم اختياريا بل نتيجة حرب ومجازر ارتكبتها العصابات الصهيونية ضد الأمنيين الفلسطينيين لتجبرهم على ترك مدنهم وقراهم، وللأسف ساهمت أطراف عربية في ترويج أكذوبة أن الفلسطينيين باعوا أرضهم أو تركوا وطنهم باختيارهم، وذلك لتتهرب الحكومات العربية من مسؤولياتها تجاه ما حدث للفلسطينيين.
وإيمانا من المجتمع الدولي بعدالة قضية اللاجئين وحقهم بالعودة أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها المعروف رقم 194 (د-3) بتاريخ 11 كانون الأول/ ديسمبر 1948، يقضي بإعادة اللاجئين والتعويض عليهم، ويعلن في الفقرة (11) منه ما يلي:
أن الجمعية العامة وقد نظرت في الحالة في فلسطين من جديد: "تقرر وجوب السماح للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش في سلام مع جيرانهم، بأن يفعلوا ذلك في أرب وقت ممكن عمليا، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة عن كل فقدان أو ضرر يصيب الممتلكات، ويتعين بمقتضى مبادئ القانون الدولي أو علما بروح الأنصاف على الحكومات أو السلطات المسئولة التعويض عنه".
وكنتيجة لانحياز وعجز الأمم المتحدة عن تنفيذ قراراتها وإلزام إسرائيل بذلك، وخاصة القرار رقم (194) أنشأت وكالة الغوث الدولية "الأونروا" للاجئين الفلسطينيين عام 1949.
على مدار ثمان وخمسين عاما توالي صدور قرارات وتوصيات تؤكد على حق الفلسطينيين بالعودة أو البحث عن حل عاد لقضيتهم، ومن هذه القرارات: القرار رقم 2535- ب (الدورة- 24)، صادر عن الجمعية العامة، وقد جاء في القرار "أن الجمعية العامة إذ تقر بأن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين نشأت عن إنكار حقوقهم الثابتة التي لا يمكن التخلي عنها، والمقررة في ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان تعود وتأكد الحقوق الثابتة لشعب فلسطين".

- القرار رقم 2672 (الدورة- 25) الصادر في 8 كانون الأول (ديسمبر) 1970
فبعد مناقشة التقرير السنوي للمفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأنروا"، عن الفترة من 1/ تموز (يوليو) 1969 إلى 30/ حزيران (يونيو) 1970، وبعدما استذكرت قرارها السابق رقم 2535- ب (الدورة 24) أكدت مجددا بأنها "تعترف لشعب فلسطين بالتساوي في الحقوق، وبحق تقرير المصير، وتطلب مرة أخرى من حكومة إسرائيل أن تتخذ فورا، ودون مزيد من التأخير خطوات فعالة لإعادة المشردين"

- القرار رقم 3236 بتاريخ 22 نوفمبر 1974، بشأن الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، وتضمن في فقرته الثانية: تؤكد الجمعية العامة من جديد حق الفلسطينيين الثابت في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي شردوا عنها واقتلعوا منها، وتطلب بإعادتهم، بعد أن أكدت في الفقرة الأولى من القرار الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، ولاسيما الحق في الاستقلال والسيادة الوطنية، والحق في تقرير المصر دون تدخل خارجي.
وعشرات القرارات بما فيها الصادرة عن مجلس الأمن أكدت على حق العودة إلا أن هذه القرارات والتوصيات لم تجد طريقا للتنفيذ يسبب رفض إسرائيل وبسبب استعمال الولايات المتحدة لحق النقض في مجلس الأمن ضد أي قرار يلزم إسرائيل بالتنفيذ. وتؤكد الوقائع على الأرض بأن الرفض الإسرائيلي لعودة اللاجئين لا يعود لعدم القدرة على استيعابهم جغرافيا، بل السبب هو رفض الاعتراف بأن الفلسطينيين هم أصحاب حق بفلسطين، فالإحصاءات تقول بأن 80% من اليهود في إسرائيل ما زالوا يعيشون فيما لا يتعدى 20% من مساحة إسرائيل بجدودها عام48. وهكذا تستمر مشكلة اللاجئين مطروحة حتى اليوم وهي تعتبر من قضايا الوضع النهائي ضمن مشروع التسوية الذي بدأ مع توقيع اتفاقية أوسلو 1993.



جدول رقم (8)
يوضح التوزيع الجغرافي للمخيمات الفلسطينية
الدائرة أو المنطقة عدد المخيمات المنظمة عدد المخيمات غير المنظمة
الضفة الغربية 20 6
قطاع غزة 8 -
الأردن 10 -
لبنان 13 -
سوريا 10 -
المجموع 62 6

جدول رقم (9)
يبين تطور مساحة المخيمات في الضفة الغربية وتاريخ إنشاء هذه المخيمات
المخيم المحافظة (الموقع) تاريخ الإنشاء المساحة (دونم) عند الإنشاء المساحة الحالية
شعفاط القدس 1966 98 198
الأمعري رام الله 1948 92 360
دير عمار رام الله 1949 160 145
الجلزون رام الله 1949 240 240
قلنديا بيت لحم 1949 258 353
الدهيشة بيت لحم 1949 258 340
عائدة بيت لحم 1948 60 115
بيت جبرين (العزة) بيت لحم 1949 24 135
عقبة جبر أريحا 1948 1689 689
عين السلطان أريحا 1948 708 708
النويعمة (لا وجود له) القدس 1948 270 276
بلاطة نابلس 1950 167 460
عسكر نابلس 1950 163 162
عين بيت الماء نابلس 1950 28 28
نور الشمس طولكرم 1952 266 230
الفارعة جنين 1949 225 194
طولكرم طولكرم 1950 165 465
جنين جنين 1953 372 473
الفوار الخليل 1950 108 283
العروف الخليل 1949 258 238
المجموع 5541 6029

جدول رقم (10)
يبين تطور مساحة المخيمات في قطاع غزة وتاريخ إنشاء هذه المخيمات
المخيم المنطقة (الموقع) تاريخ الإنشاء المساحة (دونم) عند الإنشاء المساحة الحالية
الشاطئ غزة 1949 519 747
جباليا جباليا 1948 1403 1448
النصيرات النصيرات 1948 559 589
البريج النصيرات 1949 528 478
خانيونس خانيونس 1949 549 546
دير البلح دير البلح - 156 132
المغازي دير البلح 1949 599 548
رفح رفح 1949 - 1364
المجموع 5870

جدول رقم (11)
يبين تطور مساحة المخيمات في الأردن وتاريخ إنشاء هذه المخيمات
المخيم المنطقة (الموقع) تاريخ الإنشاء المساحة الراهنة (دونم)
الحسين عمان 1952 367
الوحدات عمان 1955 488
الطالبية عمان 1968 130
الزرقاء الزرقاء 1949 180
ماركا (حطين) عمان 1968 917
إربد إربد 1951 244
الحصن إربد 1968 774
غزة جرش 1968 750
سوف جرش 1967 500
البقعة البقعة 1968 1400
المجموع 5750


جدول رقم (12)
يبين تطور مساحة المخيمات في لبنان وتاريخ إنشاء هذه المخيمات
المخيم المنطقة (الموقع) تاريخ الإنشاء المساحة الراهنة (دونم) ملاحظات
صبرا وشاتيلا بيروت 1949 39.6
برج البراجنة بيروت 1948 104
تل الزعتر بيروت 1949 56.65
مارالياس بيروت 1952 5.4
ضبية بيروت 1956 83.6
عين الحلوة صيدا 1948 420
المية مية صيدا 1948 54
النبطية صيدا 1956 103.5
الرشيدية صور 1948 267.2
البص صور 1949 80
البرج الشمالي صور 1955 13.6
نهر البارد طرابلس 1949 198.13
البداوي طرابلس 1955/1956 200
الجليل (ويفل) البقاع 1949 34.44
المجموع 1669.12

قبل الانتقال إلى المبحث الموالي يجب الإشارة إلى أهمية الديمغرافيا في الحرب التي يخوضوها الفلسطينيون ضد إسرائيل، فالحركة الصهيونية قامت على زعم أن فلسطين أرض بلا شعب ويجب أن تعطى لشعب بلا أرض، وزعم قادة الصهاينة بأنه لا يوجد شعب يسمى الشعب الفلسطيني، والواقع الديمغرافي ينسف هذه المزاعم حيث يقارب عدد الفلسطينيين داخل حدود فلسطين التاريخية عدد اليهود، مما دفع الإسرائيليين إلى الحديث عن الخطر الديمغرافي، وتشير التوقعات أنه مع حلول عام 2012 سيفوق عدد الفلسطينيين عدد اليهود، وهذا يهدد الهوية اليهودية للدولة العبرية.
وعليه فإن تزايد عدد الفلسطينيين يمكنه أن يشكل مصدر قوة إذا ما تم توظيفه بحكمة وذكاء، فالكم وحده لا يكفي ويجب تطعيمه ورفده بالكيف أي بالنوعية، وهذا يتطلب الاشتغال المكثف لتحسين نوعية السكان في مجالات الصحة والتعليم والثقافة، وهذا ما سنتطرق إليه في المبحث التالي.

المبحث الثاني
المجتمع الفلسطيني: الثقافة والتعليم
المطلب الأول: الحالة الثقافية:
أولا: في تعريف الثقافة CULTURE
المجتمع بشكل عام هو نسق في داخله تتفاعل وتتعاون عدة أنساق فرعية، أهمها نسق الشخصية والنسق الاقتصادي والنسق الديني والنسق السياسي ونسق الثقافة، وكلما كانت هذه الأنساق محكومة بالاعتمادية المتبادلة وتؤدي وظائفها على ما يرام كلما كان النسق متوازنا أي المجتمع مستقرا . وعلى هذا الأساس تعتبر الثقافة مكونا رئيسا في أي مجتمع من المجتمعات، فعن طريقها يمكننا التمييز بين مجتمع وأخر، وعن طريقها أيضا يمكننا الحكم على مدى تقد المجتمع تحضره، وفي هذا السياق يستحسن تعريف الثقافة والتمييز بينها وبين الحضارة.
تباينت وتعددت التعريفات التي أعطيت للثقافة، كما تداخل أحيانا مفهوم الثقافة مع مفهوم الحضارة، إلا أننا سنعتمد التعريف الذي قال به الانتربولوجي الإنجليزي تايلور TYLOR، والذي يعتمده الكثيرون اليوم، فعرف الثقافة بالقول: "الثقافة بمعناها الاثنوغرافي الواسع، هي ذاك الكل المركب الذي يشمل المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف وكل القدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان من حيث هو عضو في مجتمع" . وهذا التعريف لا يفصل بين الثقافة Culture والحضارة Civilization، حيث يذهب بعض العلماء إلى قصر مفهوم الثقافة على السمات المعنوية من عادات وقيم وأنماط تفكير وتعبير وأدوات التواصل المكتوبة أو الشفهية، أما الحضارة فهي بالإضافة إلى ما سبق تشمل مظاهر التقدم العمراني والمادي، فمثلا يمكن اليوم الحديث عن الثقافة العربية الإسلامية ولكن لا يمكن الحديث عن الحضارة العربية الإسلامية بل نحيلها إلى الماضي عندما كنا أصحاب حضارة قبل القرن الخامس عشر.
بعيدا عن هذا الجدل يمكن القول بأن الثقافة هي مجموع من العناصر لها علاقة بطرق التفكير والشعور والسلوك، تتشاطرها أفراد الجماعة وتكتسبها وتتعلمها وتشارك فيها، وتعطي للأشخاص شخصيتهم المتميزة، ويمكننا أن نستنتج من هذا التعريف عدة خصائص للثقافة، فهي أولا: طرق في التفكير والشعور والسلوك، وثانيا: هذه الطرق من التفكير والشعور والسلوك تعبر عنها النظم القانونية والشعائر والطقوس في التفكير والشعور والسلوك مشتركة بين مجموعة من الأشخاص يحددون بالانتماء إلى مجموعة واحدة من خلال اشتراكهم في هذه الطرق، مع إمكانية جماعات فرعية داخل المجتمع لها ثقافات المتميزة- كالأكراد في العراق والبربر في المغرب والجزائر- رابعا: إن بعض مكونات الثقافة تنتقل بالوراثة ولكن غالبيتها تكتسب اكتسابا عن طريق التعليم والتلقين والمعايشة.
أما الثقافة السياسية فهي جزء من الثقافة بمفهومها العام، إنها طرق التفكير والشعور والسلوك السياسي الخاص بجماعة ما، وعليه يمكن القول إن خصائصها هي نفسها خصائص الثقافة- المشار إليها أعلاه- مطبقة على مستوى السياسة، فهي ثقافة فرعية تتأثر بالثقافة الأشمل، فهذه الأخيرة تؤثر بشكل كبير على ثقافة المجتمع السياسية، وتكتسب مقوماتها ويتحدد طابعها من خلال الثقافة العامة للمجتمع، فالشخص العادي أو رجل السياسة لا يمكنه أن يحمل قيما سياسية أو يمارس سلوكا سياسية متناقضا مع ثقافة المجتمع وإلا سيعتبر شاذا عن المجتمع ومغتربا عنه إن لم يتهم بأنه يمثل رأس حربة لغزو ثقافي ولأفكار دخيلة . هذا التصور لعلاقة الثقافة السياسية بالثقافة العامة للمجتمع تتماشى مع منهج علم الاجتماع السياسي الذي يحيل السياسة إلى موائلها الاجتماعية بما فيها نسق الثقافة، ويربط الظواهر الاجتماعية بظروفها السياسية، وهو الأمر الذي يظهر بوضوح عند دراسة المجتمع الفلسطيني.
وهنا لا بد من الإشارة إلى عدم دقة الفهم الشائع للثقافة بقصرها على الأجناس الأدبية أو التعبيرية كمطالعة الصحف، والاستماع للراديو، ومشاهدة التلفزيون، وزيادة المؤسسات الثقافية أو نسبة التمدرس، فهذه مجرد جزئية من الثقافة بمفهومها العام والعلمي، كما أن المثقف ليس هو فقط من يعرف القراءة والكتابة أو يحمل شهادة عليا، بل هو من يساهم في الحفاظ على الثقافة الوطنية وتطويرها إبداعيا، سواء كان هذا الإبداع بالكتابة أو الشعر أو الفن، أو بالصناعات والفنون الوطنية.
ما ترتبط الثقافة بالتنشئة الاجتماعية والثقافة السياسية بالتنشئة السياسية، فحيث أن الثقافة تكتسب اكتسابا في الجزء الأكبر منها، فإن نوع التنشئة الاجتماعية والسياسية تلعب دورا في رسم معالم الثقافة السائدة، وهنا نلاحظ أن ثقافة المجتمع تتحول وتتكيف مع الظروف السياسية والاجتماعية التي تعيشها البلاد، فأحيانا تكون ثقافة دينية وحينا ثقافة علمانية وحينا آخر ثقافة وطنية أو قومية أو اشتراكية وحيث أن كل ثقافة تسعى إلى أن تكون مقبولة من جميع أفراد المجتمع، أي خلق توافق اجتماعي سياسي، فإنها مطالبة بالاهتمام بالتنشئة السياسية التي تسمح للأفراد باستبطان واكتساب معاييرها قيمها والقبول بلعب دور في مؤسساتها. ومن هنا يمكن فهم سعي الحكومات للتحكم بقنوات التنشئة من مؤسسات تعليمية ووسائل إعلام ومؤسسات دينية الخ.
قبل ظهور الفكر القومي والدولة القومية –حوالي القرن السادس عشر- كانت لثقافة سمات شمولية أو كونية مرتبطة بالديانات السائدة، فلليهودية ثقافتها وللمسيحية ثقافتها وكذا الأمر في الإسلام، كما حاولت المجتمعات بلورة ثقافة إنسانية مشتركة عبر المعاهدات والمنظمات والأعراف الدولية، كثقافة حقوق الإنسان، إلا أن الدراسات المتعمقة والمتخصصة حول الثقافة ارتبطت بالدولة القومية أو ما أصبح يعرف بالثقافة الوطنية، فقد عملت الدول على إضفاء طابع السيادة على الحقل الثقافي في إطار "ثقافة وطنية" لبناء ذاتيتها وتحقيق استقلالها ما دام أنه "ما من مجتمع له خصائص المجتمع التاريخية إلا وهو ينتج ثقافته الوطنية، أي ثقافته المرتبطة والمتأثرة بمجمل خصائصه التاريخية تلك" .
مفهوم الثقافة الوطنية كما يقول فيصل دراج: "مفهوم حديث يؤكد هوية ثقافية مهددة تواجه ثقافة أخرى مهددة لها" بمعنى أن وجود خطر خارجي، وخصوصا الاستعمار يلعب دورا حاسما في بلورة وظهور الثقافة الوطنية، وكما يقول فرانز فانون "لأن هذه الأخيرة، في ظل السيطرة الاستعمارية، تكون ثقافة مجمدة تابع الاستعمار تحطيمها متابعة منظمة وسرعان ما تصبح مضطرة إلى التخفي والسرية" .

ثانيا: الثقافة الفلسطينية:
انطلاقا من المقاربة السابقة للثقافة وخصوصا مفهوم الثقافة الوطنية، يمكن تلمس خصوصية الثقافة الفلسطينية، فهي ثقافة مرت بعدة مراحل إلى أن تشكلت بصيغتها الحالية كثقافة وطنية، فتاريخيا تداخلت الثقافة الوطنية مع الثقافة الإسلامية والعربية، بل كانت الثقافة الوطنية مغيبة في هاتين الثقافتين، سواء الجانب الاجتماعي من الثقافة أو جانبها السياسي، فكون الفلسطينيون مسلمين وعربا، فلم يكن مجال لبلورة ثقافة وطنية خاصة بهم، واستمر الحال كذلك إلى أن بدا الخطر الصهيوني يهدد الوطن الفلسطيني والهوية الفلسطينية كلازمة لظهور الشخصية الوطنية والكيانية السياسية.
وعليه يمكن القول بأن الثقافة الوطنية ولدت وسط المواجهة وفي خضم الصراع مع الاستعمار والصهيونية وبالتالي هي ثقافة مقاومة، وأن كانت حافظت على كثير من رموز وسمات الثقافة العربية والإسلامية إلا أن المجتمع الفلسطيني بلور لنفسه ثقافة خاصة به، ليست ذات خصوصية إثنية أو دينية بل ذات خصوصية سياسية حضارية تستوعب الثقافة الإسلامية والقومية العربية والإنسانية ولكن لا تذوب فيها. ومن المعلوم أن إسرائيل جهدت لمحاصرة هذه الثقافة ووأدها منذ انطلاقتها.
وترتبط الثقافة الفلسطينية بالهوية، فالثقافة هي المصدر المعزز للهوية والحامي لها، وهذا يتطلب تطوير الثقافة الوطنية بل خلق وإبداع رموز وأنماط تفكير وعيش (الاختلاف في إطار الوحدة) بالنسبة للثقافة الإسلامية والعربية، وهذه مهمة وإن كانت تقع على عاتق كل فلسطيني إلا أنها يجب أن تكون مهمة مركزية للسلطة الوطنية وخصوصا لوزارة الثقافة، وأيضا لكل الفصائل الفلسطينية.
ويمكن القول نشاط وزارة الثقافة عبر الحكومات المتعاقبة لم يكن بالمستوى المامول، حيث أولت اهتماما للجانب السياسي على حساب الجانب الثقافي الحقيقي، ومن هنا نجد ندرة الكتابات والأنشطة التي تصدر التغيرات التي حصلت على المؤشرات الثقافية في سنوات الحكم الذاتي وغياب معطيات دورية عن واقع الحياة الثقافية في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية، فمثلا تقرير الثقافة السنوي الذي يصدره الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني بدءا من العام 1998، لا يشمل النشاطات الثقافية الحكومية، أو النشاطات الثقافية التي تنظمها منظمات ليست مرخصة كمؤسسات ثقافية، مثل بعض الجمعيات الخيرية، وتغيب عنها مؤشرات أخرى مهمة، تقع تحت مسميات إحصائية مختلفة، مثل حركة النشر، أو الإبداع السينمائي، وتعيق هذه النواقص فرص تشكيل صورة ملائمة عن واقع الحياة الثقافية وتطورها في الضفة الغربية وقطاع غزة.
أما ما توفر من معلومات وبيانات حول الحالة الثقافية فإنها تشير مثلا إلى خلو قطاع غزة من المحطات الإذاعية والتلفزيونية الخاصة حتى العام 1999- في السنوات الأخيرة ظهرت عدة محطات إذاعية في قطاع غزة-، واستمرار العملية البحثية خارج حاضنتها الطبيعية (الجامعات)، وضعف مساهمة الجامعات المحلية في الحياة الثقافية، رغم تنظيم بعضها لنشاطات ثقافية من قبل جهات طلابية، أو تنظيم مؤتمرات حول مواضيع سياسية مهمة من قبل الدوائر الأكاديمية المعنية .

ثالثا: ثقافة الخوف في مناطق السلطة الفلسطينية:
شهد المجتمع الفلسطيني في مناطق السلطة الفلسطينية حالة غير مسبوقة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي تولد حالة من الخوف والقلق على الحاضر والمستقبل، خوف شخصي وذاتي وخوف على الهوية والوطن والانتماء، هذه الحالة من الخوف أفرزت سلوكيات وأنماط تفكير غير سوية كالانفلات الأمني والعصبوبة القبلية والعائلية وتفشي فكر المؤامرة والتخوين الخ، مقارنة بالمجتمعات المستقرة، وإن كانت التمظهرات الخارجية لهذه الحالة تتبدى في اللجوء للعنف الجسدي واستعمال السلاح بين المواطنين وبعضهم البعض، وإن كانت القراءة السطحية ترجع هذه الحالة لأسباب سياسة داخلية وخارجية –وهي بلا شك موجودة- إلا أن هناك أسباب عميقة وغير مرئية تشكل الدافعية والموئل الذي يجعل العنف ظاهرة عامة وطبيعية، هذه الأسباب هي الخوف بكل إشكاله، خوف تعززه تنشئة اجتماعية وسياسية وتحوله إلى ثقافة اجتماعية.
في مناطق السلطة الفلسطينية لم يعد الخوف مجرد حالة نفسية انفعالية وعاطفية بل تأصل الخوف ليتحول لثقافة يمارسها مواطنون من شتى المستويات الثقافية والاجتماعية، عنف داخل الأسرة وعنف داخل المدارس والجامعات وعنف بين الأسر وعنف بين الجماعات السياسية وعنف ضد السلطة بل عنف بين مراكز وجماعات السلطة، خوف على المستقبل وخوف من الحاضر، خوف من الاحتلال وخوف من موروث ثقافي يقيد الحرية وخوف من غزو ثقافي يغيب الهوية، بالإضافة بطبيعة الحال العنف الثوري الموجه ضد الاحتلال.
صيرورة الخوف في مناطق السلطة إلى ثقافة اجتماعية وسياسية مضادة للثقافة الثورية التي عهدتها شعوب مستعمرة سابقا، يجعل من هذه الثقافة خطرا داهما ومعيقا لكل مسعى تحرري وطني أو ديمقراطي سلمي. خطرة ثقافة الخوف تكمن أيضا في حرف النضال الوطني من نضال شعب موحد ضد الاحتلال إلى ما يشبه الحرب الأهلية الباردة أحيانا والمسلحة حينا آخر، فثقافة الخوف لا تعترف بالعدو المشترك أو العدو الواحد بل تعمم مصادر الخوف وتخلق حالة من الشك والريبة حتى في أقرب الأقرباء.

الانفلات الأمني كتعبير عن ثقافة الخوف:
بالرغم من إجراء انتخابات ديمقراطية وحدوث تداول للسلطة بين حركة فتح وحركة حماس إلا أن معاناة الشعب لم تتوقف سواء نتيجة ممارسات الاحتلال أو بسبب الانفلات الأمني، وارتفعت دعوات من كل حدب وصوب، من الجمهور الفلسطيني المكتوي بنار الفساد والانفلات الأمني ومن مثقفين ومناضلين ومن رجالات في السلطة حكومة ومعارضة الكل يحذر من حالة الانهيار في المنظومة الاجتماعية، ولم تتمكن الحكومة الجديدة مثل سابقتها من عمل الكثير في هذا السياق وخصوصا في موضوع الانفلات الأمني لأنه ببساطة يوجد غياب للمرجعيات الناظمة للحياة الاجتماعية والسياسية سواء عند السلطة أو المعارضة، ولأن الانفلات الأمني ينتج من حالة انهيار المنظومة القانونية والقيمية خلال سنوات سابقة.
في الوضع الطبيعي يفترض أن تكون السلطة الوطنية هي الجهة الوحيدة المحتكرة لاستعمال القوة وحفظ الأمن وخصوصا في قطاع غزة بعد خروج جيش الاحتلال، ولكن الواقع يقول أنه لا توجد حكومة حاكمة ولا سلطة تمارس حقها بالتسلط المشروع، بل توجد عدة سلطات وعدة حكومات، فهناك سلطة الرئيس وهناك سلطة رئيس الوزراء وهناك سلطة الأجهزة الأمنية وهناك سلطة الجماعات المسلحة أو الحالات العسكرية وهناك سلطة مافيات الفساد وتجار السلاح المتحالفون مع تجار بيع الوطن، حتى جاز السؤال، من يحكم في مناطق السلطة ومن هو صاحب القرار؟.
دون إنكار الجهود التي يبذلها المخلصون في مراكز القرار لإصلاح حال البلد إلا أن الواقع يقول بأن الأمور تزادا سوءا وتعقدا، فكأنه لا يكفي المواطن والوطن ما يعانيه من الاحتلال، فجاء الانفلات الأمني وغياب القانون ليكسرا ما تبقى من قوة في ظهر المواطن وليطرحا تساؤلات كبيرة وعميقة، هل الانفلات الأمني هو انفلات أفراد عاديين؟ أم هناك علاقة ما بين الانفلات الأمني، والانفلات السياسي أو غياب المرجعية الواحدة؟ ألا تشير كل الوقائع بأن هناك أياد خفية وراء الانفلات الأمني ومن ضمن هذه الأيادي أيادي أباطرة الفساد السياسي وغالبيتهم منفلتون ومتمردون على أية مرجعية قيمية وسياسية ويسعون عن طريق الانفلات الأمني التغطية على فسادهم السياسي؟
كثير من الأمور تربك المواطن العادي وتثير قلق وخوف كل متابع غيور على القضية وملم بخفايا الأمور فلا يمكن لمجتمع تسوده ثقافة الخوف: الخوف على الذات والخوف على الوطن، أن يربح المعركة مع العدو الخارجي؟ فوضى السلاح أصبحت بنيوية وتقوم بوظيفة تخدم العدو بشكل مباشر، بنيوية من حيث شموليتها وتعدد الأطراف المشاركة بها، عنف بين الأفراد وعنف بين الأسر والعشائر وعنف ما بين الأجهزة الأمنية وعنف داخل الجهاز الواحد والتنظيم الواحد، واحتقان يهدد بالانفجار ما بين الحكومة والمعارضة، أما كون هذا العنف يقوم بوظيفة خدمة إسرائيل فهو أمر طبيعي لأن لا يمكن لعنف سياسي ومجتمعي أن يخدم مصلحة وطنية –ربما يخدم مصلحة أشخاص أو البعض من النخبة أو حزب ما، ولكن كل هذه المصالح لا تعبر عن مصلحة وطنية بل تضر بالمصلحة الوطنية- كما أن الفلتان الأمني يخدم العدو لأنه يتصاعد في الوقت الذي نحن فيه مقبلون على دفع استحقاقات تسوية لم تنجز وعدوان متواصل.
الانفلات الأمني ليس حدثا عاديا كما هو الشأن في المجتمعات الأخرى، وليس شأنا أمنيا خالصا ولا سياسيا خالصا بل هو حالة ثقافية راكمتها سنوات من الإحباط واليأس وانعدام الثقة من الساسة وصناع القرار، الانفلات الأمني هو نتيجة لانفلات أو غياب المرجعيات القيمية والسياسية داخل المجتمع، وهذا الغياب ولد حالة من الخوف المعمم، وليحصن المواطن نفسه ضد الخوف وضد التهديد الواقع أو المنتظر يلجأ لسياسة وقائية أحد تمظهراتها هو اللجوء للعنف واستعراض مظاهر قوته الشخصية أو العائلية.
إن ما يجري من فوضى أمنية وغياب المرجعية السياسية الناظمة للحياة السياسية في المجتمع الفلسطيني كل ذلك يعيق عملية التطور والتنمية، حيث تستنزف الإمكانيات ويعيش المواطن في حالة من القلق والتوتر يحول بينه والتفكير السليم وبالتالي السلوك السليم. وأخيرا نقول هناك وطن يعاد بناؤه، وهذا الوطن ليس مجرد أرض وليس أيضا مجموعة من المواطنين ولكنه ثقافة وهوية، إعادة بناء الوطن سواء سلما أم بالنضال العسكري يحتاج إلى ثقافة جديدة، ثقافة متحررة من ثقافة الخوف والجهل. قد يحتاج الأمر لوقت طويل لتجاوز الثقافة السائدة المأزومة، ولكن يقينا أننا كفلسطينيين لن نفلح في تحقيق أهدافنا المشروعة في ظل نفس أنماط السلوك والتفكير وفي ظل تسيد نفس النخب المأزومة.

المطلب الثاني: الحالة التعليمية:
أولا: أهمية التعليم في حياة المجتمعات:
لم يعد التعليم اليوم مجرد مؤسسات تمنح شهادات تؤهل الطالب لإيجاد وظيفة بل هو اليوم مع التطور العلمي ومستجدات الثورة التقانية جزء من الأمن القومي للشعوب، وهذا ما اعتمدته اليابان حيث اعتبرت التعليم جزءا من أمنها القومي وكذا الحال بالنسبة للدول المتقدمة الأخرى، وذلك من منطلق أن المعرفة العلمية لا تستمد إلا بالتعلم ومن خلال الجامعات، والتعليم المعرفة العلمية اليوم هما عماد نهضة المجتمعات، حيث لم تعد قوة الدول تحسب بعدد قواتها المسلحة أو عدد دباباتها وطائرتها، بل بعدد علمائها ومفكريها وبنوعية المعرفة السائدة في المجتمع وحالة جامعاتها ومعاهدها العلمية، وكثير من دول العالم اليوم تتبوأ المكانة الأولى في العالم ليس لأنها قوية في عدد جيوشها وعدتها بل بعلومها ومعارفها وبرقي جامعاتها ومراكزها البحثية.
ولكن، وحتى يؤدي التعليم رسالته فيجب أن يكون تعليما عصريا منفتحا على علوم العصر دون تجاهل الهوية الثقافة، وأن يكون في مناهجه والمواد التي تدرس وأساليب التدريس وأدواته، تعليما يخرج أجيالا من المتعلمين ذوي العقول المتفتحة والأخلاق الرفيعة، أجيالا متشبعة بروح الإبداع والابتكار والنقد البناء والأخلاق والقيم الأكاديمية، يخرج حملة شهادات يحتاجهم المجتمع ويطلبهم سوق العمل، لا حملة شهادات في تخصصات لا علاقة لها بسوق العمل ومتطلبات المجتمع، فالسؤال اليوم لم يعد كم تخرج الجامعات بل من تخرج؟
وللأسف فإن التعليم في كثير من الدول العربية هو أبعد ما يكون عن التجاوب مع متطلبات العصر والتحديات الإستراتيجية التي يواجهها العرب وهم يدخلون الألفية الثالثة، وهم أبعد ما يكون عن الثورة المعلوماتية التي يؤسس عليها مستقبل البشرية، الأمر الذي يحتاج من مجتمعاتنا إحداث ثورة في قطاع التعليم وخصوصا الجامعي، ثورة في العقليات ومناهج التدريس وأساليب الإدارة والإشراف، ويكون التحدي أكثر إلحاحا في حالتنا الفلسطينية، حيث نواجه عدوا متقدما علينا عسكريا وتكنولوجيا، فإذا كانت مواجهته عسكريا الآن، مغامرة لا تحمد عقباها، فهذا يتطلب البحث عن مصادر قوة أخرى للمواجهة، وهنا تأتي أهمية العلم والأخلاق. ونموذج اليابان والنمو الآسيوية حاضرة أمامنا.
في العهد الزاهر للدولة الإسلامية وعندما كان الخلفاء والأمراء يدركون جوهر الدين كانوا يقدرون العلماء ويجعلونهم ويقدمونهم عليهم ويجلسون خاشعين يستمعون إليهم، وفي الغرب المسيحي كانت أول الخطوات نحو التحرر من عصور الظلمات والانفتاح على الحداثة والتقدم هو اعتماد مبدأ استقلالية التعليم والرقي به بحيث وضعت الدول الأوروبية على أولويات اهتماماتها القضاء على الأمية، واليوم ما يجعل وضعت المتقدمة تنعت بهذه الصفة هو أن مجتمعاتها متعلمة وجامعاتها ومراكز بحوثها أكثر تقدما وأكثر قدرة على الإبداع.
ولم يعد التعليم اليوم مجرد مؤسسات تمنح شهادات تساعد حامليها ولوج سلك الوظيفة، بل هو اليوم أساس نهضة وتقدم الأمم، فالأمم المتقدمة اليوم تعتبره جزءا من أمنها القومي، لأنه بالتعليم يتم خلق رجالات المستقبل وقادة الأمة. والدول الحريصة على مستقبل الأمة هي التي ترفع من مستوى التعليم وخصوصا في الجامعات، وهي التي تحترم التخصصات وتنأى بنفسها عن التدخل في الشئون الأكاديمية إلا على مستوى توفير حركة البحث للطالب والأستاذ.
وفي حالة كالحالة الفلسطينية يصبح الموضوع أكثر إلحاحا، لأن الشعب الفلسطيني في مرحلة تأسيس إعادة بناء دولته بما في ذلك المؤسسات التعليمية وهذا التأسيس يجب أن يكون على أسس صحيحة منذ البداية، وإن كانت مؤشرات مثيرة للقلق مصدرها حال المؤسسات التعليمية وخصوصا الجامعات الفلسطينية نتيجة الاحتلال، فإننا على يقين بأن نضج الشعب الفلسطيني ووعيه لن يسمحا للاحتلال أن يعيق العملية التعليمية.
كان من حسن حظ الشعب الفلسطيني أنه وعى أهمية التعليم منذ بداية النكبة، وإن كان لوكالة الغوث الفضل في تعميم التعليم المجاني للاجئين إلا أن المجتمع الفلسطيني قبل النكبة كان متميزا ومتقدما في مجال التعليم مقارنة بدول عربية أخرى، وهذا ما مكن الفلسطينيين من اهتبال الفرصة التي وفرتها وكالة الغوث لاعتماد التعليم هدفا استراتيجيا ومصدر قوة يمكن من خلاله تكون جيل من المتعلمين والمثقفين يحملون الهوية الوطنية ويدافعون عن القضية على أسس معرفية ومن هنا نلاحظ الدور المتميز للمتعلمين الفلسطينيين في نشر التعلم والثقافة في البلاد العربية وخصوصا الخليجية، حيث عمل مئات الآلاف من المدرسين والأساتذة والأطباء والمهندسين الفلسطينيين في هذه الدول، استفادوا ماليا ولا شك ولكنهم أفادوا الأمة العربية بشكل كبير.
كان التعليم بالنسبة للمجتمع الفلسطيني أحد أدوات تحديث المجتمع وتطويره وقد نجحوا بذلك إلى حد كبير، سواء بالنسبة لفلسطينيي الشتات أو فلسطينيي الوطن المحتل، ففي الخارج تمكن الفلسطينيون من تبوء مناصب متميزة في الجامعات ومراكز البحث في الدول الأجنبية، وبرز من بين الفلسطينيين علماء في شتى المجالات شهد لهم العالم بالكفاءة، وكان نجاح هؤلاء ليس نجاحا فرديا بل نجاحا للمجتمع الفلسطيني ككل، وفي الداخل وبالرغم من ظروف الاحتلال القاسية استمرت المؤسسات التعليمية في أداء رسالتها لإحساس الفلسطينيين بأنه العلم يمكن مواجهة الهجمة الصهيونية بنفس تأثير الوسائل الأخرى للمقاومة.


ثانيا: واقع التعليم في المجتمع الفلسطيني في ظل السلطة الوطنية:
في التعداد العام للسكان والمساكن والمنشآت الذي جرى عام 1997 وضحت السمات التعليمية للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، فالتعداد كشف وجود فجوة في هذه السمات بين سكان الضفة الغربية وقطاع غزة أيضا كانت السمات التعليمية لدى الذكور أفضل منها لدى الإناث إلا أن الفجوة تتقلص لدى الفئات العمرية صغيرة السن مما يعني حدوث تسرب في المستويات العليا من التمدرس.
كما أظهر التعداد ازدياد عدد المدارس ورياض الأطفال العاملة في الضفة الغربية وقطاع غزة مباشرة بعد وصول السلطة الفلسطينية، وسجلت المدارس الخاصة معدلات زيادة في عددها أكبر من المدارس وكالة الغوث الدولية "الأونروا"، حيث بدأت الأونروا تقلص من خدماتها للاجئين، وتوجهت النخبة لتعليم أبناءها في مدارس خاصة.
وبفضل الجهود التي أولتها السلطة التعليمية للتعليم وخصوصا الجامعي فقد ازداد عدد المعلمين والمعلمات خلال هذه الفترة، وتحسنت مؤهلاتهم، إلا أن هذه الزيادة لم تواكب النمو المتزايد في أعداد الطلبة، خاصة في مدارس الحكومة و"الأونروا" ولكن في نفس الوقت الذي تزايد فيه عدد الطلبة وعدد الخريجين، بدأت تطفو على السطح ظاهرة بطالة الخريجين، فالقدرة الاستيعابية لمؤسسات السلطة ومؤسسات المجتمع المدني هي دون القدرة الاستيعابية لخريجي الجامعات، ومما فاقم المشكلة انسداد فرص التوظيف خارج فلسطين وخصوصا في دول الخليج والمغرب العربي وهي الدول التي كانت تستوعب غالبية الجامعيين الفلسطينيين.
إلا أن أهم المتغيرات التي طرأت على التعليم الفلسطيني ليس زيادة عند المدارس والمدرسين بل تراجع نسبة الأمية ووجود مناهج ومؤسسات تعليمية فلسطينية الهوية والأشراف، وهذا ما يحدث لأول مرة منذ النكبة، فقبل وجود السلطة الوطنية كان التلاميذ الفلسطينيون يدرسون مناهج دول أخرى، ففي الأردن والضفة الغربية درسوا المنهج الأردني وفي غزة درسوا المنهج المصري، وهكذا في بلاد الشتات، وبالرغم من أن منظمة التحرير أنشأت مدارس خاصة بها في الكويت وسوريا ولبنان وتونس إلا أنها كانت قليلة العدد ولا تستوعب إلا نسبة ضئيلة من الفلسطينيين، وكانت مناهجها تخضع لرقابة الدول المضيفة.
ونظرا لتداخل التعليم والثقافة، فإن وجود مناهج فلسطينية وإشراف فلسطيني على المؤسسات التعليمية، ساهم بدور كبير في نشر الثقافة الفلسطينية وربط الشباب الفلسطيني بهويتهم وقضيتهم الوطنية، فالمؤسسات التعليمية تعتبر من أهم قنوات التنشئة الاجتماعية والسياسية، وأولى أبجديات الثقافة الاجتماعية والسياسية يتلقاها التلميذ في المدرسة ثم في الجامعة، ومن هنا نلاحظ حرص الدول على الأشراف على التعليم وخصوصا التعليم الأساسي.
بلغ عدد المدارس والمؤسسات التعليمية في العام الدراسي 1998/ 1999 ما يقارب 2514 مدرسة وروضة أطفال منها 1925 في الضفة الغربية و589 في قطاع غزة 1230 مدرسة حكومية و265 مدرسة تابعة لوكالة الغوث و 191 مدرسة خاصة و 823 روض أطفال، أما أعداد الطلاب فقد بلغ 889.890 منهم 537.694 في الضفة الغربية و 8171 في قطاع غزة وأعداد الشعب 25112 منها 16941 في الضفة الغربية، و8171 في قطاع غزة. وأعداد المدرسون بلغ 30.162 منهم 20.013 في الضفة الغربية و10.149 في قطاع غزة.

جدول رقم (14)
عدد الطلبة في الجامعات وكليات المجتمع الفلسطينية حسب الجنس
للأعوام الدراسية 1994- 1995/ 2000- 2001
العام الدراسي الجامعات كليات المجتمع
ذكور إناث كلا الجنسين ذكور إناث كلا الجنسين
1994- 1995 16.042 13.338 29.380 1.876 2.234 4.110
1995- 1996 21.190 15.904 37.094 1.842 1.980 3.822
1996- 1997 29.533 19.643 46.176 2.254 2.345 4.599
1997- 1998 29.546 22.881 52.427 1.949 2.350 4.299
1998- 1999 33.548 27.298 60.846 2.533 2.903 5.436
1999- 2000 35.696 30.354 66.050 2.388 2.769 5.157
2000- 2001 40.220 35.359 75.579 2.129 2.835 4.964

جدول رقم (15)
يوضح التوزيع النسبي للذكور والإناث في المدارس ورياض الأطفال حسب المنطقة والمرحلة للعام 2000/ 2001
المنطقة والجنس رياض الأطفال مدارس المجموع
أساسية ثانوية
الأراضي الفلسطينية
ذكور 52.8 50.3 48.0 50.1
إناث 47.2 49.7 52.0 49.9
كلا الجنسين 100 100 100 100
الضفة الغربية
ذكور 52.7 50.4 47.2 50.1
إناث 47.3 49.6 52.8 49.9
كلا الجنسين 100 100 100 100
قطاع غزة
ذكور 53.0 50.3 49.1 50.2
إناث 47.0 49.7 50.9 49.8
كلا الجنسين 100 100 100 100

جدول رقم (16)
يوضح التوزيع النسبي للسكان الفلسطينيين (15 سنة فأكثر)
حسب الحالة التعليمية والجنس والمنطقة 2000
الحالة التعليمية الأراضي الفلسطينية المنطقة
الضفة الغربية قطاع غزة
ذكور إناث كلا الجنسين ذكور إناث كلا الجنسين ذكور إناث كلا الجنسين
أمي 5.6 16.1 10.8 5.3 16.4 10.8 6.2 15.3 10.7
ملم 9.9 9.3 9.6 10.0 10.4 10.2 9.6 7.3 8.5
ابتدائي 22.3 20.5 21.4 23.5 22.0 22.7 21.1 17.5 18.8
إعدادي 32.2 30.3 31.2 33.4 30.3 31.8 29.9 30.2 30.1
ثانوي 17.0 15.7 16.4 15.1 12.5 13.8 20.6 22.1 21.3
دبلوم متوسط 5.4 4.5 5.0 5.7 4.6 5.2 4.8 4.4 4.6
بكالوريوس فأعلى 7.6 3.6 5.6 7.0 3.8 5.5 8.8 3.2 6.0
المجموع 100 100 100 100 100 100 100 100 100

تناقص نسبة التسرب المدرسي:
فحيث أن التعداد المشار إليه جرى في السنوات الأولى لوجود السلطة، فقد كشف لنا بعض المعطيات الإيجابية مثل تناقص نسب التسرب المدرسي وتراجع نسب الرسوب، ومن البديهي أن تتلازم هذه النتيجة الإيجابية مع الظرفية الزمنية التي جرى فيها التعداد فالسنوات الأولى للسلطة أوجدت نوعا من الطمأنينة والتفاؤل عند المجتمع الفلسطيني في الضفة والقطاع، فالعملية السلمية تسير إلى الأمام، أو هكذا يبدو، والمساعدات والمنح تنهال على مناطق السلطة، وهذه الأخيرة تقوم بتوظيفات مهمة لكل حملة الشهادات، بالإضافة إلى استقطاب مؤسسات المجتمع المدني للمتعلمين والمثقفين، كل ذلك شجع ذوي الأمور على إرسال أبناءهم على المدارس والحرص على استكمال تعليمهم.
وهكذا لاحظنا في التعداد أن نسبة التسرب في مرحلة التعليم الأساسي في الضفة الغربية وقطاع غزة كانت في العام الدراسي 1998/ 1999 (1.56%)، (1.78% للذكور، و6.55% للإناث). يعود ذلك بالنسبة للذكور لتوفر مجالات عمل لا تحتاج إلى شهادات وانتشار ظاهرة تشغيل الأطفال، أما بالنسبة للإناث فسبب تزايد التسرب في المرحلة الثانوية وما فوق يعود للزواج المبكر للفتيات وإلى العادات والتقاليد الاجتماعية المحافظة في المجتمع الفلسطيني وهي تقاليد لا تشجع على خروج الفتيات من البيت.


تناقص نسب الرسوب في المدارس:
"كشفت البيانات عن تراجع في نسبة الرسوب في المدارس في الفترة ما بين العامين 1994/ 1995 و1998/ 1999، بحيث تراجعت هذه النسبة في المرحلة الأساسية من 4.72% العام 1994/ 1995 إلى 2.54% العام 1998/ 1999، وتراجعت في المرحلة الثانوية من 3.51% إلى 1.06% في الفترة نفسها وقد شمل هذا التراجع كلا الجنسين، بحيث تراجعت نسبة الرسوب لدى الذكور في المرحلة الأساسية من 5.04% العام 1994/ 1995 إلى 2.79% العام 1998/ 1999، وتراجعت لدى الذكور في المرحلة الثانوية من 5.37% إلى 1.47% في العاملين نفسيهما على التوالي وتراجعت نسبة الرسوب لدى الإناث في المرحلة الأساسية من 4.38% إلى 2.27%، وتراجعت في المرحلة الثانوية من 1.28% إلى 0.65% في الفترة نفسها.
وقد شمل التحسن في نسبة الرسوب كلا م الضفة الغربية وقطاع غزة، بحيث تراجعت نسبة الرسوب في الضفة الغربية في المرحلة الأساسية من 3.42% العام 1994/ 1995 إلى 2.22% العام 1998/ 1999، وتراجعت في المرحلة الثانوية من 1.99% إلى 1.41% في الفترة نفسها، وتراجعت النسبة في قطاع غزة في المرحلة الأساسية من 6.84% إلى 3.01%، وفي المرحلة الثانوية من 5.89% إلى 0.58% في الفترة نفسها أيضا"
مع انتفاضة الأقصى –سبتمبر 2000- عرف المستوى التعليمي بكل مستوياته حالة من الإرباك والصعوبة في التحصيل لعدة أسباب وعلى رأسها سياسة الإغلاقات التي مارسها الجيش الإسرائيلي ما بين المدن والقرى داخل المدينة الواحدة، الأمر الذي كان يحول بين الطلاب ووصولهم لمراكز التعليم، أيضا تدني المستوى المعيشي والدخل بحيث عجزت كثير من الأسر عن دفع الرسوم الجامعية، كما أن الحالة المتأججة للانتفاضة جعل طلاب المدارس والجامعات ينخرطون في أنشطة وطنية على حساب الاهتمام بالتعليم، أيضا عمل تسابق التنظيمات السياسية على استقطاب الطلبة وتجنيدهم لهذا التنظيم أو ذاك، على تسييس الجامعات الأمر الذي أثر سلبا على مستواها الأكاديمي.

الفصل السابع
البنية الصلبة للمجتمع الفلسطيني
- الأسرة والدين-

المجتمع الفلسطيني كغيره من المجتمعات يشكل نسقا مكون من أنساق فرعية كنسق الثقافة ونسق الشخصية والنسق الاقتصادي والنسق السياسي والنسق الديني، إلا أن أهم أنساق المجتمع هما أولا: الأسرة وما يرتبط بها من زواج ووضعية المرأة، وثانيا: الدين، والموضوعان أساس كل مجتمع والبنية الصلبة له، ولذا خصصنا فصلا مستقلا لهما نظرا لما لهما من خصوصية في المجتمع الفلسطيني.
المبحث الأول
الأسرة والزواج

المطلب الأول: تعريف عام للأسرة والزواج:
أولا: تعريف الأسرة وتطورها وأشكالها:
الأسرة هي أصغر خلية اجتماعية وأول مؤسسة اجتماعية وجدت وعاش فيها الناس، وأصل المجتمع هو الأسرة وكما قال أرسطو إن مجموعة من الأفراد شكلوا الأسرة ومجموعة من الأسر شكلت العشيرة ومجموعة من العشائر شكلت القبيلة واتحاد عدة قبائل شكل المدينة، وإن كانت المجتمعات المتقدمة تجاوزت التشكيلات الأولية –الأسرة والعشيرة والقبيلة- وأصبحت الدولة والمجتمع الشمولي هو الإطار الأوسع والرئيس في تحديد الانتماء وفي التفاعلات بين الناس، إلا انه في الحالة العربية ما زالت التشكيلات التقليدية تتعايش مع الدولة وفي بعض الحالات تمارس من النفوذ أكثر من الدولة، ومن المعلوم أنه كلما ضعفت الدولة وتضاءلت قدرتها الحمائية كلما تعززت مكانة الأسرة والقبيلة والطائفة، وشهدت بعض المجتمعات العربية مثل هذه الحالات – لبنان واليمن والصومال وفلسطين والعراق.
وعليه يمكن القول بأن الأسرة هي مؤسسة اجتماعية أفرزتها أسباب اجتماعية ويرتبط أعضاؤها ببعض بروابط حقوقية وأخلاقية، وفي الإسلام تكون هذه الروابط مقدسة تستمد من العقيدة ونظام الزواج في الأسرة المسلمة يخضع لشروط محددة سلفا في العقيدة.
وحيث أن كل الأفراد يعيشون ضمن أسر، وحيث أن الإنسان يقضي الجزء الأكبر من حياته داخل أسرة ويخضع لسلطة رب الأسرة، فقد لعبت الأسرة وما تزال دورا مركزيا في التنشئة الاجتماعية وفي الحفاظ على هوية وثقافة المجتمع، وخصوصا في دول العالم الثالث، وهنا نلاحظ علاقة جدلية قوية ما بين شكل الأسرة ووظيفتها من جانب وثقافة المجتمع والظروف التي يمر بها من جانب آخر، فالمجتمع التقليدي ينتج أسرة أبوية ممتدة والمجتمع الحداثي ينتج أسرة زوجية أو نووية.
تتكون الأسرة بشكل عام من الزوج والزوجة –أو الزوجات- والأبناء، ويذهب علماء الاجتماع إلى القول بأن الأسرة الحالية هي حالة متطورة عن الأسرة القديمة والتي لم تكن متطابقة مع الأسرة الحاضرة.

1.أصل الأسرة:
يكتنف الغموض مسالة نشأة الأسرة، فإذا كانت الديانات السماوية تتفق بأن البشر هم أبناء أم وحواء، إلا أن العلماء اختلفوا حول نشأة الأسرة ودوافع اجتماع أفرادها وحول الشكل الذي كانت عليه بداية. فيرى ويستر مارك Westar Mark بأن الإنسان البدائي اعتاد بفطرته وغريزته على أن يعيش مع امرأة واحدة يمارسان معا علاقات الجنس ويشتركان في تربية الأولاد. أما فوستيل دي كولانج فيرى بأن الأسرة القديمة كانت عشيرة كبيرة كل أفرادها ينتمون لرجل واحد، أما أسباب تكون الأسرة فيرجعه لأسباب دينية، حيث يقول في دراسته حول الموضوع "إن دينا قديما كون الأسرة الإغريقية والرومانية وأقام الزواج والسلطة الأبوية وحدد درجات القرابة وقدس حق الملكية وحق الإرث" أما عالم الاجتماع دوركايم فقد ميز بين الأسرة وروابط الدم فالأسرة بالنسبة له ليست مجرد تجمع طبيعي للأبوين وما ينجبان من أولاد فهذا التجمع نجده أيضا عند الحيوانات الثديية، فالتجمع الطبيعي لوحده لا يخلق مؤسسة اجتماعية ولا يرتب حقوقا وواجبات، وبالتالي فالأسرة عنده هي مؤسسة اجتماعية أفرزتها أسباب اجتماعية ويرتبط أعضاؤها ببعض بروابط حقوقية وأخلاقية، وروابط الدم جزء من تركيبة الأسرة لكنه لوحدها لا تكون أسرة لأنها موجودة دائما دون الأسرة، فالابن غير الشرعي تربطه رابطة دم بأبيه ولكنه لا يكون جزءا من الأسرة ما لم يعترف به أبيه.

2.مراحل تطور الأسرة:
يذهب علماء الاجتماع إلى القول بأن الأسرة مرت بعدة مراحل قبل أن تأخذ شكلها الحالي وهي:
‌أ.مرحلة المشاعية الجنسية: Promiscuity
وهي أول أشكال التجمع البشري حيث كانت تسود المشاعية في كل شيء في الأرض وما تنتج وفي الصيد وفي النساء والأطفال. فكل شيء ملك للجميع حث لم يكن شيء يسمى الملكية الخاصة، بل كان تفرد رجل بامرأة وتخصيصها لنفسه بمثابة الاعتداء على حقوق الغير وفي هذه المرحلة لم يكن هناك شيء يسمى زواجا أو محرمات، ولم يكن الابن يعرف له أبا فيعيش بفي كنف أمه وينسب للعشيرة أو القبيلة بأكملها.
ومن أهم العلماء القائلين بوجود هذه المرحلة، العالم السويسري بأخوفين في كتابه (حقوق الأم 1861) والعالم الاسكتلندي ماك لينان في كتابه (الزواج البدائي 1865) والعالم الأمريكي لويس مورجان في كتابه (المجتمع القديم 1877).
‌ب.مرحلة الأسرة الأمومية Matriarchate
ومن أهم القائلين بوجود هذه الأسرة هم القائلون بوجود مرحلة المشاعية الجنسية أيضا هوب هاوس ودوركايم، فهؤلاء يرون بأن الأسرة الأمومية انبثقت عن المشاعية، فحيث أن الابن لم يكن يعرف له أبا فقد التحق بأمه، وعرف هذا النوع من الأسرة في المجتمعات غير المتحضرة المعتمدة على اقتصاد الزراعة البسيطة التي لا تحتاج لسواعد الرجال، وفي مرحلة التخلف حيث لم تكن المجتمعات تعرف الدور الفسيولوجي للرجل في عملية الإنجاب.
وفي الأسرة الأمومية تكون الأم هي محور القرابة، يلتحق بها الولد ويعيش معها وتنقطع صلته بأبيه ولا ترتبط به أية رابطة من روابط القرابة أو أي عواطف أو مشاعر، وفي القبائل الطوطمية كان الابن يتبع طوطم أمه لا طوطم أبيه.
ج. مرحلة الأسرة الأبوية Patriarchy
ويعد النظام الأبوي أساس قيام الأسرة، وفيه تعتمد القرابة على الأب وحده وتقوم الرابطة بين أفراد الأسرة الواحدة على صلة الدم من جهة الذكور ويخضع أفراد الأسرة لسلطة الأب أو الجد المشترك، فالأب هو السيد المطلق على أفراد أسرته والأمر الناهي فيها، وكل ذلك على حساب تراجع مكانة المرأة، وفي النظام الأبوي يلتحق الابن بأبيه وبأسرة أبيه، وفي القبائل الطوطمية ينتمي الابن لطوطم أبيه (كان القضاء على حق الأمومة الهزيمة التاريخية العظيمة لجنس الإناث، لأن الرجل تسلم دفة الأمور حتى في البيت، وأصبحت المرأة منحطة المكانة، مستهانة، عبدة لشهوة الرجل، مجرد أداة لإنتاج الأولاد)
مرت الأسرة الأبوية بدورها بعدة مراحل، فبداية كانت الأسرة تتداخل مع العشيرة بل كانت هي العشيرة نفسها ثم تحولت إلى الأسرة الممتدة ثم إلى الأسرة الزواجية أو النووية، وحتى اليوم تتعايش هذه الأنماط من الأسر وخصوصا في المجتمعات التقليدية.

ثانيا: تعريف الزواج وأشكاله التاريخية:
1.تعريف الزواج:
الزواج نظام للعلاقات البشرية يشبع الرغبات الجنسية البيولوجية ولكنه يرتب حقوقا وواجبات على طرفي العلاقة ومن حيث اللغة فالزواج اسم من زوج مثل سلم سلاما، يقال: زوج الأشياء تزويجا وزواجا أي قرن بعضها ببعض، وفي الاصطلاح الشرعي فإن الزواج يعني عقد الرجل على امرأة تحل له شرعا، بحيث يفيد حل استمتاع المرأة بالرجل، وملك استمتاع الرجل بالمرأة على الوجه المشروع.
وقد عرفت كل الشعوب القديمة الزواج ولكن كان يختلف من مجتمع إلى آخر كما اهتمت الديانات السماوية الثلاثة بالزواج وقامت بتنظيمه ووضع ضوابط له، وقد جاء في القرآن الكريم كثير من الآيات التي تؤكد على الزواج (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) . أيضا حث الرسول على الزواج حيث خاطب الشباب قائلا (يا معشر الشباب من استطاع منكم البائة فليتزوج).
2.أشكال الزواج:
عرفت البشرية أشكالا متعددة من الزواج قبل أن تستقر على شكل الزواج الحالي، ويشكل عام كانت كل أنواع الزواج تنتمي إلى إحدى الفئتين التاليتين: الزواج الخارجي أو الاغترابي Exogamy بمعنى أن الرجل كان مجبرا على الزواج من خارج عشيرته، وغالبا ما كانت القبائل تتبادل الزوجات كما تتبادل السلع، والزواج الداخلي أو الأضواء Endogamy حيث كان الرجل مجبرا على الزواج من داخل عشيرته.
وإن كانت غالبية المجتمعات تمارس اليوم الزواج الخارجي فما زالت بعض الجماعات تمارس الزواج الداخلي كالطائفة السومرية في فلسطين وجماعات الغجر وبعض العائلات المحافظة.
3.أنواع الزواج القديمة:
-زواج المشاركة
-زواج السبي
-زواج الشغار
-زواج الشراء
-زواج المؤاجرة أو الخدمة
-زواج الوراثة أو الزواج التعويضي.
-زواج الاستبضاع
-زواج التخيلي أو زواج الشبح
-الزواج المؤقت أو زواج المتعة.
-زواج البغاء الديني أو المقدس.
-زواج المضامدة
-زواج المخادنة.
المطلب الثاني: مؤشرات إحصائية عن الأسرة والزواج في فلسطين:
أولا: الخصائص والسمات:
تتشارك العائلة الفلسطينية مع العائلة العربية في كثير من الخصائص المشتركة المستمدة من وحدة الثقافة والانتماء والتاريخ، فالأسرة (العائلة) العربية توصف بشيء من المبالغة بأنها ممتدة Extended وأبوية Patriarchal ونظام الزواج فيها هو بين الأقارب أي زواج داخلي Endogamy، إلا أن حليم بركات يرى بأن الأسرة العربية هي اجتماعية إنتاجية تشكل نواة ومركزا للنشاطات الاقتصادية والإنتاجية وتقوم على التعاون والالتزام والمودة المتبادلة، وهي أبوية بمعنى تمركز السلطة بيد رب الأسرة والنسب يكون للأب، وهي هرمية وممتدة
وجود قواسم مشتركة ما بين الأسرة العربية والفلسطينية، لا يمنع من رصد خصائص تميز الأسرة الفلسطينية، وهي خصائص نابعة من الظروف السياسية التي مر بها المجتمع الفلسطيني وما يزال.
انعكست التطورات السياسية بشكل كبير على الأسرة، فالاحتلال والهجرة والغربة ثم الانتفاضة، كلها أمور ألقت بثقلها على الأسرة سواء من حيث الدور والوظيفة أو من حيث التماسك والترابط، فالاحتلال أثر على الوضع الاقتصادي للأسرة حيث فقدت الأسر الأرض التي كانت رمز السلطة الأبوية والمجال الذي يجمع أفراد العائلة لأنه كما قلنا فالأسرة الفلسطينية أسرة ممتدة، بالإضافة إلى الدور السلبي للاحتلال على القيم والعادات، أما الهجرة فقد شتت الأسرة وأضعفت من العلاقات العائلة، كما أن اقتلاع الأسرة من أرضها وزرعها قهرا داخل مجتمعات أخرى جعلت الأسرة تعيش ضمن محيط اجتماعي معيق لتفاعلها وقيامها بدورها الطبيعي. والغربة تجعل أفراد الأسرة يعيشون حالة من الاغتراب ويربك قيامها بدورها الطبيعي.
في خضم الأحداث والمتغيرات السياسية شهد المجتمع الفلسطيني ما تعتبره نكسة أو ردة اجتماعية وهي إحياء دور العائلات الكبيرة على حساب دور المؤسسات والقانون، وكما أشرنا في مبحث سابق فإن غياب الدولة والسلطة السياسية عن المجتمع الفلسطيني دفع الفلسطينيين لتقوية دور الأسرة والقبيلة لملئ الفراغ الناتج عن غياب الدولة، فالأحزاب الفلسطينية التي تشكلت بداية عشرينيات القرن الماضي قامت على أساس عائلي، واليوم نتيجة ضعف السلطة تجري عملية إحياء للعلاقات العائلية والقبيلة وأحيانا بعدم من السلطة، وتقوم الأسرة الفلسطينية اليوم بكثير من المهام التي من المفترض أن تقوم بها الدولة وخصوصا في الجانب الحمائي والاقتصادي.
خلال السنوات الأخيرة وما صاحبها من ضعف في السلطة وانفلات أمني تعزز التحالف أو التقاء المصالح ما بين بعض العائلات النافذة والكبيرة من جهة وبعض القوى السياسية والحالات العسكرية من جهة أخرى بحيث باتت بعض العائلات وخصوصا في قطاع غزة لا تخضع لقانون ولا تلتزم بما هو مشترك بين الناس، بل وصل الأمر ببعضها لأن تشكل ميليشيات ومعسكرات تدريب خاصة بها، وتقوم بقطع الطرق واعتقال الناس في سجون خاصة بها، ووجدت هذا العائلات حماية لها من أجهزة ورموز في الحكم حيث تتم عملية تبادل مصالح لا تؤسس غالبا على المصلحة الوطنية، وهو الأمر الذي أثار استياء كبيرا بين الناس الذي وقعوا بين مطرقة الاحتلال وسندان ابتزاز العائلات.
وكأن المجتمع والسلطة أٌقرا بواقع الوظيفة الجديدة للعائلات، فأصبحت بعض المناسب والمهام لا تسند للأفراد على اعتبار الكفاءة والتخصص بل لأنهم من أبناء العائلات الكبيرة، لأن هؤلاء يمكنهم تسيير الأمور بقوة عائلاتهم في ظل غياب قوة القانون. وفي هذا السياق يجب الإشارة إلى أن العائلية الجديدة –تعزيز مكانة العائلات الكبيرة وتميزها عن غيرها- لا تقوم غالبا على نفس القيم والعادات التي كانت تحكم العائلات الكبيرة تاريخيا، فبعض العائلات التاريخية فقدت القيم النبيلة التي كانت عليها سابقا، وعائلات أخرى مستحدثة نعمة، استمدت نفوذها وقوتها ليس من عراقة أو أدوار اجتماعية يعترف بها المجتمع ويحترمها، بل من انتهاز واستغلال ظروف سياسية مكنتها من امتلاك المال والسلاح، وبالتالي فرض حضورها في المجتمع.
وبالرغم من ذلك فالأسرة الفلسطينية داخل الوطن تتسم بسمات قريبة من سمات الأسرة العربية مثلا:
1.استمرار نمط الأسرة الممتدة، وهي التي تتكون من ثلاثة أجيال، أي الزوج والزوجة والأبناء وأبناء الأبناء وأحيانا عدد من الأقارب، وهي ممتدة في نسب الأب وليس الأم، وقد يصل عدد أفراد الأسرة الممتدة للعشرات أو المئات، مع أنه وفي السنوات الأخيرة بدأ المجتمع الفلسطيني يشهد تزايد حضور الأسرة النووية وخصوصا عند الشرائح المثقفة وعند فلسطينيي الغربة.
2.إنها أسرة محافظة تتمسك بالعادات والتقاليد، كإحياء المناسبات الدينية، القتل دفاعا عن الشرف، الزواج الداخلي، تعدد الزوجات، وقوة سلطة رب الأسرة.
3.كثرة عدد أفراد الأسرة والتباهي ومكانة في المجتمع، وهو اعتقاد يجد مصداقية في الأسرة كلما كانت ذات هيبة ومكانة في المجتمع، وهو اعتقاد يجد مصداقية في ظل ضعف السلطة السياسية، حيث تصبح الأسرة هي حامية حمى أفرادها والمدافعة عن مصالحها.
4.تفضيل الذكور على الإناث، بالغرم من أن هذه النزعة بدأت تخفت عند الأسر المثقفة والراقية اجتماعيا، إلا أن الأسرة التقليدية وخصوصا في الريف تفضل أن يكون المولود ذكرا لا أنثى، لكون الذكر يحمل اسم الأسرة ويعيلها عند الكبر ويشكل مصدر قوة وحماية لها عكس الإناث اللواتي ينظر لهن كعبء على الأسرة، وتهديد محتمل للشرف.
ثانيا: الزواج الشرعي هو السائد في فلسطين:
نظرا للطابع الديني والمحافظ للمجتمع فإن الزواج يتم في سن مبكرة غالبا، ونوع الزواج هو الزواج الشرعي أي عن طريق عقد وشهود ومهر، ولا يعرف المجتمع الفلسطيني أشكال الزواج الأخرى كزواج المتعة أو الزواج المسيار إلا كحالات نادرة، وبالتالي يستدل على عدد حالات الزواج أو الطلاق من خلال العقود التي توثق رسميا، وتظهر البيانات التي توصل إليها باحثون في مركز المعلومات الوطني الفلسطيني إلى تزايد مستمر في عقود الزواج المسجلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث بلغت 24874 عقدا العام 1999 مقابل 24400 العام 1998 و23492 عقدا العام 1997، كما بلغت 20736 عقدا العام 1996، وبلغت عقود الزواج المسجلة في الضفة الغربية 16099 عقدا العام 1999، وبانخفاض مقداره 186 عقدا عن العام 1998 وبارتفاع مقداره 216 عقدا عن العام 1997 عقدا العام 1999 بزيادة مقدراها 660 عقدا عن العام 1998، وبزيادة مقدارها 1166 عقدا عن العام 1667.
وسجلت أعلى معدلات الزواج الخام في المجتمع الريفي حيث تميزت سلفيت وطوباس بأعلى المعدلات فيما كانت سجلت أدنى معدلات في محافظة بيت لحم وذلك خلال العام 1999، وفي قطاع غزة سجلت محافظة خانيونس أعلى المعدلات ومحافظة من عقود الزواج في الضفة الغربية للأعوام (1996- 1999) حيث بلغت عقود الزواج 3445 عقد العام 1999، بينما سجلت محافظة أريحا أقل عدد من عقود الزواج للأعوام (1996- 1999) حيث بلغ عدد العقود المسجلة 241 عقدا العام 1999.
أما في قطاع غزة، فقد سجلت محافظة غزة أعلى عدد من عقود الزواج للأعوام (1996- 1999) حيث بلغت بلغ عدد العقود المسجلة 3055 عقدا العام 1999، في حين سجلت محافظة رفح أٌل عدد من العقود للأعوام (1996- 1999) فبلغت 1069 عقدا العام 1999، مع العلم أن محافظتي وغزة هما أكبر المحافظات من حيث عدد السكان في الضفة الغربية وقطاع غزة على التوالي وأن محافظتي أريحا ورفح هما أقل المحافظات من حيث عدد السكان في الضفة الغربية وقطاع غزة على التوالي.
ثالثا: استمرار انتشار ظاهرة الزواج المبكر خلال الأعوام الأربعة الماضية:
وحيث أن المجتمع الفلسطيني وخصوصا في الضفة وغزة ما زال مجتمعا محافظا فقد استمرت ظاهرة الزواج المبكر بالانتشار فبلغ العرم الوسيط عند قعد القران لأول مرة العام 1999 وللذكور 24.1 عاما، وللإناث 18.8 عاما، أما خارج فلسطين فقد تأثر الفلسطينيون بظروف البلدان التي يعيشون فيها حيث تتراجع ظاهرة الزواج المبكر بسبب الظروف الاقتصادية وبسبب الثقافة السائدة، وهنا نلاحظ أن الأسر التي تكون على صلة بجذورها داخل الوطن ويسمح لهم بدخول الوطن يفضلون تزويج أبناءهم مبكرا، أما من انقطعت أواصرهم مع الداخل فيزوجون أبناءهم على كبر.
ففي الضفة وغزة بلغت نسبة الذين عقدوا قرانهم العام 1999 ولم يبلغوا بعد سن العشرين من العم 58.5% من مجمل الإناث اللواتي عقدن قرانهم العام 1999، مقابل 9.5% من مجمل الذكور الذين عقدوا قرانهم في العام نفسه ولا توجد فروق كبيرة في هذه النسبة بين الأعوام (1996- 1999) وتبدو هذه الظاهرة أكثر بروزا في قطاع غزة منها في الضفة الغربية، حيث بلغت نسبة اللواتي عقدن قرانهن قبل بلوغهن العشرين من العمر العام 1999 في قطاع غزة 60.9% مقابل في الضفة الغربية 67.9%.
وأظهرت البيانات أن عمر الزواج الأكثر تكرارا (العمر المنوال) في محافظات الضفة الغربية هو 18 سنة للإناث، باستثناء محافظة جنين ومنطقة سلفيت، حيث بلغ هذا العمر فيهما 15 سنة فقط العام 1999، وكان العمر الأكثر تكرارا في لقطاع غزة هو 17 سنة، وتراوح بين 16 سنة في محافظتي غزة وشمال غزة، و18 سنة في محافظة رفح. وبلغ هذا العمر للذكور في الضفة الغربية وقطاع غزة 22 سنة العام 1999 (24 سنة في الضفة الغربية و22 سنة في قطاع غزة).
وغالبا ما يلجأ الزوج إلى الزواج من زوجة تصغره سنا، فقد بلغت نسبة اللذين عقدوا قرانهم خلال العام 1999 في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكان الزوج أكبر من الزوجة بعشر سنوات فأكثر، 15.8% من مجمل عقود الزواج التي سجلت في المحاكم الشرعية العام 1999.
رابعا: ظاهرة تعدد الزوجات:
أسوة بالمجتمعات العربية والإسلامية تنتشر ظاهرة تعدد الزوجات في المجتمع الفلسطيني حيث بلغت نسبة الذكور عمرهم دون 30 سنة الذين لديهم زوجة على الأقل في العصمة وقعدوا قرانهم خلال العام 1999، هم ممن يقل تحصيلهم العلمي عن الثانوية فنسبتهم 60% من مجمل الذين لديهم زوجة في العصمة وعقدوا قرانهم العام 1999، بينما النسبة 23% لمن تحصيلهم العلمي ثانوي، و6% للدبلوم المتوسط، و11% لمن لديهم مؤهل جامعي فأكثر.

المطلب الثالث: المرأة الفلسطينية:
أولا: حقوق المرأة بين السياسة والدين:
أسوة بالمرأة في العالم العربي فالمرأة الفلسطينية تخوض نضالا اجتماعيا وحقوقيا لانتزاع حقوق تعتقد أن المجتمع ذو النزعة الذكورية يحرمها منها، وهي في العالم بالإضافة إلى الدين، من أجل الوصول لهدفها والذي تصيغه بعنوان عريض وهو المساواة مع الرجل في الحقوق والواجبات، إلا أن يلفت الانتباه في هذا السياق ملاحظتان:
الأولى: هي أن أكثر المشتغلين والمهتمين بحقوق المرأة والدافعين باتجاه إثارته هم من الرجال، سواء من يكتب في الصحافة أو من يتكلم في المحاضرات والندوات أو من يجادل داخل قبة البرلمان، وسواء منهم من كان يدافع عن إعادة النظر في وضعية المرأة أو من يدافع عن إبقاء دار لقمان على حالها، بمعنى أن الطرف المعني بالموضوع أساسا، (صاحب الحق المهضوم) –المرأة- شبه غائبة، إما غير مهتمة بالأمر أو عاجزة عن التعبير عن قضيتها والدفاع عنها. الأمر الذي يدفع للتساؤل حول الأهداف الحقيقية وراء إثارة الرجال للموضوع، وهل حقوق المرأة ومساواتها بالرجل هما الهدف الرئيس والحقيقي للرجل في إثارتهم للموضوع؟ أم لهم أهداف أخرى وما المرأة إلا أداة لتحقيق هذه الأهداف؟ وهل يعقل أن يتصدى الجلاد –الرجال في نظر المرأة هو المسئول عن تردي وضعيتها- لقيادة حملة للدفاع عن ضحيته؟ وهل عقلية الرجل العربي عموما والفلسطيني خصوصا تحولت بالقدر الذي يسمح لها قبول المرأة كند وطرف مساو؟.
الثانية: هو عدم الوضوح والحذر في التعامل مع الموضوع، وذلك لما للموضوع من علاقة بالشأن الديني، بحيث يحرج المتجادلون –خصوصا دعاة المساواة- من طرق لب القضية وهو موقف الدين الإسلامي من المرأة، هل تتساوى مع الرجل أم لا؟ وهل القوانين الوضعية حول مساواة المرأة بالرجل تتفق مع الإسلام أم لا؟
لا بد من الإشارة أيضا أن القياس على وضعية المرأة في الغرب لا يصلح بصورة مطلقة كأساس للتعامل والنظر في الموضوع إلا إذا امتلك دعاة التسوية الجرأة وقالوا بصراحة إن كل ما يتعلق بعلاقة المرأة بالرجل وبمحيطها الاجتماعي هو أمر وضعي تنظمه إرادة الأمة ولا علاقة للدين في الموضوع بشكل مباشر، أو بشكل أوضح إذا حيدوا الدين عن قضايا تنظيم وإدارة المجتمع في السياسة والاجتماع والاقتصاد. وهو الأمر الذي لا يبدو أن المعنيين بالموضوع مستعدين لتحمل تبعاته والسير في الموضوع حتى نهايته كما جرى في الغرب المسيحي، ونقصد بذلك الأخذ بالعلمانية بوضوح ودون مورابة.
وعليه فإن وضع المرأة في المجتمعات الإسلامية وفي مجتمعنا الفلسطيني خصوصية مما يجعل إثارته يتعدى المعالجة العادية لحقوق المواطن ويتعدى المفاهيم الوضعية حول الحرية والمساواة والتي تأخذ بها وتتعامل معها المجتمعات الأخرى، إن الموضوع مرتبط بقضية أشمل وهي العلاقة ما بين الديني والدنيوي في المجتمعات الإسلامية، العلاقة ما بين النص المقدس والواقع، ما بين النص المقدس والتأويل والاجتهاد، ومن يحق له التأويل والاجتهاد؟ إن موضوع المرأة كان –وما زال بشكل ما- يعد من المحرمات أو من الأمور المحرجة، فالمرأة في الثقافة السائدة في المجتمع وبالممارسة لا تتساوى م الرجل، وبالتالي ليس من المستساغ حسب هذه الثقافة يكون لها من الحقوق ما للرجل، وهذه الثقافة تؤسس على الدين، وغالبا ما يحال الأمر على حكم الإسلام أو الفهم السائد عن تصور الإسلام لمكانة المرأة في المجتمع وهذا عرف وقيمة اجتماعية نلمسه في المجتمعات الشرقية حتى عند غير المسلمين، وأن يأت من يطالب بمساواة المرأة بالرجل أو بإعادة النظر بمدونة الأحوال الشخصية التي تنظم هذه العلاقة، فإنما هو في نظر المناوئين يمس مبادئ الدين الإسلامي أو يقال بأنه يجتهد في أمر ليس من اختصاصه.
ولكن في مقابل ذلك هل أن المعارضين من إسلاميين ومحافظين قابلون على وضعية المرأة المسلمة؟ وهل دوافعهم دينية خالصة أم هي سياسية توظف الموضوع وما يثيره من حساسية دينية، كسلاح يشهرونه في وجه خصومهم السياسيين وذلك في إطار الصراع على السلطة وحولها ولكسب تأييد جمهور ذو عقلية ذكورية ودينية؟ ومن جهة أخرى هل أن الموضوعات التي يثيرها دعاة إعادة النظر في وضعية المرأة، سواء ما تعلق بمدونة الأحوال الشخصية والطلاق والولاية وسفر المرأة وحق الانتخاب وجرائم الشرف الخ، هل هي أمور تتعارض مع النص المقدس؟ أم هي تتعلق بإعادة النظر في أحكام اجتهادية وفقهية؟ وفي هذه الحالة يجوز للأمة التي اجتهدت في ظروف زمانية ومكانية مغايرة للحاضر أن تجتهد مرة أخرى بما فيه خدمة الأمة وبما لا يتناقص مع روح الإسلام الذي هو صالح لكل زمان ومكان؟
ومن هنا فليس غريبا أن كل الأصوات المرتفعة المطالبة بحقوق المرأة ومساواتها بالرجل تأت من طرف العلمانيين أو دعاة الحداثة أو اليساريين أو دعاة الانفتاح أو الديمقراطيين وكل من يلف لفهم، وأن المتحفظين هم من الجماعات الإسلامية وخصوصا الإسلام السياسي.
لن نناقش هنا الجانب الديني من الموضوع، بل نتساءل حول أمور دنيوية –مع إقرارانا بتداخل الديني بالدنيوي في مجتمعاتنا بشكل قوي وخصوصا في الموضوع محل النقاش- حول أمور عملية وعقلانية، ونتساءل ماذا تريد المرأة بالضبط؟ هل تريد أن تتساوى مع الرجل؟ وأي مساواة تريدها؟ وما هي الحقوق والامتيازات التي يتمتع بها المواطن الفلسطيني الذكر والتي تغري المرأة للنضال للمساواة معه؟ أم تريد حقوقها، حقوقها الإنسانية وعلى رأسها الكرامة والاحترام؟ ونعتقد أن ما ينقص المرأة في مجتمعنا هو الكرامة والاحترام وليس المساواة بالرجل، وحصولها على كرامتها واحترامها لا يتأتى بمدونات قانونية ولا بمهرجانات خطابية بل بتغيير العقليات ونمط الثقافة السائدة نظرة الرجل إلى المرأة ونظرة المرأة إلى نفسها.
بالخلق الإلهي والطبيعة، وبواقع عاشته البشرية لمئات آلاف السنين إن لم يكن ملايين السنيين، لا ولم تتساوى المرأة مع الرجل إلا في بعض المجالات، وبالعقل والمنطق لا يمكن للمرأة أن تتساوى مع الرجل في كل شيء لو كانت مساواة المرأة بالرجل أمرا معقولا ومنطقيا لما خلق الله المرأة مختلفة عن الرجل، حيث منحها الرقة والنعومة ورهافة الشعور ومنح الرجل الخشونة والقوة، لو كانت المساواة ممكنة ومعقولة لما كانت المرأة تطالب اليوم بحقوقها المهضومة وتطالب بالمساواة بالرجل بعد مئات آلاف السنين من العلاقة بين الطرفين، وحتى في الغرب المتقدم عن مجتمعاتنا في رفع شعارات حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل ما زالت المرأة أبعد ما يكون عن المساواة بالرجل واقعيا. نعم هناك مساواة منصوص عليها في القوانين والدساتير ولكن كل راصد لوقع المرأة في المجتمعات الغربية يجد كثيرا من المجتمعات مغيبة عنها المرأة، ليس لأن هناك من يمنعها منها –القوانين لا تميز بين الرجل والمرأة- بل لأن الطبيعة لم تخلقها بالشكل الذي يجعلها قادرة على منافسة الرجل في هذه المجالات. ومن جهة أخرى نعتقد أن انتزاع المرأة لحقوق تتساوى فيها مع الرجل لا يعود إلى إيمان المجتمعات الغربية بمبدأ المساواة بل لأن المجتمع وبعد أن وظف كل الرجل وكل الأطفال والعبيد في ثورته الصناعية أحتاج إلى مزيد من اليد العاملة، فتوجه نحو المرأة، وحيث أنه لا يمكنه أن يشغل المرأة دون حقوق، فظهرت حقوق المرأة، بمعنى أن فرض المرأة لوجودها كعاملة ومنتجة كان سابقا على حصولها على حقوقها القانونية والسياسية، وليس غريبا أن تكون المطالبة بحقوق المرأة مترافقة مع الحديث عن حقوق الطفل، وحتى اليوم يترافق الحديث عن حقوق المرأة بالحديث عن حقوق الطفل.
لقد خلق الله وكرست الطبيعة مبدأ التخصص والتمايز، فإذا كانت المرأة غير قادرة على المساواة مع الرجل في بعض المجالات، فكذا الرجل لا يمكنه أن يتساوى مع المرأة في بعض المجالات، وعندما يطلب البعض بمساواة المرأة بالرجل، لماذا لا تتم المطالبة بمساواة الرجل مع المرأة ببعض الأمور الخاصة بالمرأة كالحمل والولادة والرضاعة والأنوثة والأمومة.... أن تطالب المرأة بالمساواة بالرجل معناه أن تفقد أهم سلاح منحها إياه الطبيعة وهو الأنوثة والأمومة، ويبدو أن العاقلات من النساء يفضلن عدم المشاركة في هذا المهرجان الرجالي الذي يؤكد من خلاله الرجل أنهم قوامون على النساء، لأنهم هم الذين يثيرون الموضوع وهم الذين يتجادلون فيه وهم الذين يمنحون حقوقا للمرأة وهم الذين يحددون نوع وحجم هذه الحقوق....
ومع ذلك لا نستبعد عنصر حسن النية عند المطالبين بإصلاح وضعية المرأة في مجتمعنا، ذلك أن وضعيتها في بعض المجالات أمر مشين يتناقض مع إنسانية الإنسان وكرامته، ولا يمكن القول إن هذه الوضعية للمرأة تتناسب مع ما يقول به الإسلام أو إنها تتماشى مع الشرع، بل هي تسيء إلى الإسلام والمسلمين، ولا نعتقد أن تحسين وضعية المرأة المسلمة ومنحها ما يحفظ لها كرامتها واحترامها وإدماجها بالمجتمع وما يحول دون أن تتحول إلى عبدة عند الرجل أو متاح يفعل به ما يريد، لا نعتقد أن ذلك مما يتناقض مع الإسلام، إن خطورة الموضوع تكمن في نقطتين، الأولى: أن يتحول الموضوع إلى ورقة سياسية وصراع بين الرجل ليس بما يخدم المرأة بل بما يصب في النهاية في مصلحة الرجل.

ثانيا: المرأة والمشاركة السياسية في فلسطين:
بالرغم من أن الحديث عن ضعف المشاركة السياسية للمرأة أمر لا يقتصر على الحالة الفلسطينية حيث هي ظاهرة عامة في دول العالم الثالث –بنسب متفاوتة بطبيعة الحال-، بل هي ملموسة في الدول العريقة بالديمقراطية، إلا أن الحالة الفلسطينية تجسد وضعية خاصة للمشاركة السياسية للمرأة ليس فقط من حيث نوع المشاركة، ذلك أن المشاركة هي مشاركة بالشأن السياسي من خلال مقولات علم السياسة بهذا الشأن أو من خلال مقارنتها بدول أخرى، بل من خلال الخصوصية السياسية للحالة الفلسطينية.
لا غرو أن المشاركة السياسية من ناحية نظرية هي الجسر الرابط بين الفرد كعضو في جماعة والفرد كمواطن سياسي، وأن يشارك المواطن يعني أن له نصيب في عملية صنع القرار السياسي، والقرار السياسي هنا يختلف من بلد إلى بلد حسب طبيعة النظام السياسي والثقافة السياسية في البلد، وإن كانت المشاركة السياسية تحيل دائما للدولة والممارسة الديمقراطية، إلا أن المقاربات الحديثة للمشاركة لا تقصرها على الدولة وعلى الممارسة الديمقراطية، فالدول الديمقراطية العريقة أو المشهود لها بالممارسة الديمقراطية كاليابان والولايات المتحدة تعرف تدنيا كبيرا في نسبة المشاركة والتصويت في الانتخابات، سواء كانت تشريعية أو رئاسية، ومن هنا فإن الحكم على وجود ديمقراطية من عدمه لا يقتصر فقط على نسبة المشاركة السياسية بل على مؤشرات ودلالات أخرى، كنزاهة الانتخابات ونزاهة القضاء وحكم القانون والمؤسسات والفصل بين السلطات وقوة وفعالية المجتمع المدني وتفعيل مبدأ التداول على السلطة، وقبل كل ذلك انتشار ثقافة الديمقراطية.
إذن المشاركة السياسية قد تكون مؤشرا على وجود الديمقراطية وهناك تلازم بين الطرفين ولا شك، ولكن العلاقة بينهم ليست طردية بالضرورة، وهذا ما يستشف من بعض تعريفات المشاركة السياسية: مثلا تعريف صموئيل هنتنجتون Samuel, Huntigton ونيلسون Nelson اللذان عرفاها بأنها: النشاط الذي يقوم به مواطنون معينون بقصد التأثير على عملية صنع القرار الحكومي "ويعرفها ماك لكوسكيClosky M.C بأنها: تشير إلى الأنشطة الإرادية التي عن طريقها يساهم أعضاء المجتمع في اختيار الحكام وفي تكوين السياسية العمومية بشكل مباشر أو غير مباشر وهناك تعريف أكثر مرونة وهو الذي جاء به وينير Weiner: (كل عمل إرادي ناجح أو فاشل، منظم أو غير منظم، مرحلي أو مستمر يفترض اللجوء إلى وسائل شرعية أو غير شرعية، بهدف التأثير على اختيارات سياسية أو إدارة الشئون العامة أو اختيارات الحكام وعلى كل المستويات الحكومية، محلية أو وطنية.
نعتقد أن هذا التعريف الأخير أنسب التعريفات وأكثرها شمولا، وقد يساعد على تفهم طبيعة وخصوصية المشاركة السياسية في فلسطين وخصوصا مشاركة المرأة. فإن نعيش مرحلة رمادية سياسية، لا هي مرحلة دولية مستقلة –بكل استحقاقات الممارسة السياسية اللازمة للدولة من مشاركة سياسية وانتخابات وتداول على السلطة وفصل سلطات والأهم من ذلك وجود سياسية ذات سيادة –ولا هي مرحلة تحرر وطني- بكل استحقاقات مرحلة التحرر الوطني من ثقافة ثورية –هي دوما في علاقة غير ودية مع الديمقراطية-، ومن مركزية حزبية وسياسية ومن لجوء للعمل العسكري الذي يعتبر الشكل الأرقى للمشاركة السياسية عند حركات التحرر –هذه المرحلة السياسية التي تعيشها فلسطين تجعل من الصعب الحكم على المشاركة السياسية بشكل عام ومشاركة المرأة على وجه الخصوص من خلال مؤشرات المشاركة السياسية المنصوص عليها في كتب علم السياسة أو ما هو سائد في الدول الأخرى، كنسبة التسجيل في سجلات الناخبين أو التصويت في الانتخابات أو نسبة وجود المرأة في المجلس التشريعي أو مؤسسات السلطة الخ.. وسيكون من الإنصاف الحكم على مشاركة المرأة من خلال المشاركة في النضال الوطني بشكل عام سواء كان رسميا أو غير رسمي، وسواء كان مؤسساتيا أو غير مؤسساتي.
النقطة الثانية التي أود الإشارة إليها هي ارتباط موضوع المشاركة السياسية بموضوعي التنشئة السياسية والثقافة السياسية. فالتنشئة السياسية هي عملية تهيئة وإعداد المواطن حتى يصبح مؤهلا ليشارك في الحياة السياسية في المجتمع، وعليه فإن طبيعة التنشئة السياسية التي يتلقاها المواطن وطبيعة الثقافة السياسية التي تنهل منها هذه التنشئة يلعبان دورا كبيرا في فهم المواطن لحقوقه السياسية وعلى رأسها حقه في المشاركة في اتخاذ القرار السياسي –سلبا أو إيجابا- فالتنشئة السياسية تخلق المواطن السياسي نظريا والمشاركة تؤكد وجوده عمليا.
وفي حالتنا الفلسطينية هناك تناقض ما بين التنشئة السياسية السائدة في المجتمع وعند الفصائل الفلسطينية من جهة وثقافة المشاركة السياسية, وهذا أمر لا يقتصر على المشاركة في صنع القرار السياسي بل هو ظاهرة سسيولوجية عامة، حيث ثقافة المجتمع هي ثقافة أبوية ذكورية ورعوية، بدءا من الأسرة مرورا بالأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، ومن هنا يمكن الجزم بأن تدني نسبة المشاركة السياسية للمرأة لا يعود لتهميش متعمد من الدولة أو من الرجال، بل تشارك المرأة في تهميش نفسها بسبب تقبلها وسكوتها إن لم يكن رضاها على ثقافة المجتمع الأبوي والذكوري. ويمكن أن نضيف بأن ثقافة المقاومة وخصوصا عندما تأخذ المقاومة طابعا جهاديا دينيا، لا تفسح مجالات للمشاركة السياسية للمرأة إلا في أدنى الحدود، وأفضل مشاركة للمرأة في هذه الثقافة هي إنجاب المناضلين والشهداء.

الدور الريادي للمرأة في الحياة السياسية:
يمكن القول بأن مشاركة المرأة الحياة السياسية هو في فلسطين سابق عن كثير من الدول العربية، وكما تقول الباحثة دنيا الأمل إسماعيل (منذ بداية القرن الماضي والمرأة الفلسطينية تشارك في معركة الاستقلال الاجتماعي والسياسي عبر تشكيلات مختلفة، بدأتها بالجمعيات الخيرية التي شكلت النواة الأولى لانطلاقة المرأة الفلسطينية نحو الاندماج في قضايا مجتمعها الحياتية لتتبلور فيما بعد ونتيجة للظروف السياسية التي مرت بها فلسطين إلى بؤر سياسية، عبرت عن نفسها في شكل اعتصامات ومظاهرات وعرائض احتجاج، وتذكر المصادر في هذا السياق أن أول نشاط سياسي نسائي ملحوظ كان في العفولة عام 1893، حيث خرجت النساء الفلسطينيات في مظاهرة احتجاجا على إنشاء أول مستوطنة يهودية في ذلك الوقت، شكلت معركة البراق عام 1929 نقطة تحول في حياة المرأة الفلسطينية، إذ وقعت تسع نساء قتيلات برصاص الجيش (البريطاني) وإدراكا من المرأة للعمل المؤسساتي فقد تداعت نساء فلسطين لعقد أولم مؤتمر نسائي في مدينة القدس عام 1929، وهو المؤتمر الذي انبثقت عنه اللجنة التنفيذية لجمعية السيدات العربيات.
ومع ظهور الحركة الوطنية بعد سنوات من التراجع نتيجة النكبة، تداعت النساء لتأسيس الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية عام 1965 الذي شكل قاعدة من قواعد منظمة التحرير الفلسطينية، ثم توالت التجمعات النسوية (بحلول عام 1982 كان هناك 4 تنظيمات نسائية تتبع الأحزاب السياسية الفلسطينية الأربعة. وقد اقتصر نشاط هذه المؤسسات (التنظيمات) فقط على تقديم الخدمات الاجتماعية غير أن تلك التجمعات النسائية التي خلقتها الحاجة إلى تقديم الخدمة الاجتماعية لفتت أنظار الأحزاب التي استخدمتها في حشد النساء للعمل السياسي، وهكذا تدريجيا حملت المنظمات النسوية ملامح الأحزاب التي تولدت منها، حتى غلب عليها العمل السياسي دون الالتفات إلى أهمية إبراز قضيتها المجتمعية، ناهيك عن أن تلك الأحزاب لم تعط الحركة النسوية الفلسطينية حقها من الظهور وحمل قضايا الذاتية مما انعكس سلبا على الحركة النسوية فشتت قدراتها ونقلت فئويتها إلى داخلها مما قاد في النهاية إلى غياب الأجندة النسوية التي تحمل هموم الحركة النسوية الفلسطينية) .
عادت الحيوية للنشاط النسوي ولدور المرأة مع انتفاضة 1987 حيث تشير الإحصاءات إلى أن 7% من الشهداء الذين سقطوا خلال الفترة من 87- 97، كانوا من النساء، فيما شكلت النساء 9% فقط من الجرحى المبلغ عنهم خلال الفترة نفسها، وفي عام 1996 زاد عدد الأسيرات الفلسطينيات اللواتي بقين رهن الاعتقال في سجون الاحتلال الإسرائيلي عن أربعين امرأة، ومع انتفاضة الأٌقصى سبتمبر 2000 تعاظم دور المرأة في الحياة السياسية في بدايات الانتفاضة، ولكن مع عسكرة الانتفاضة تراجع دور المرأة لصالح دور الرجال ومع ذلك فقد انخرطت المرأة في العمل السياسي والمجتمعي حيث شهدت السنوات الأخيرة تعاظم عدد ودور الجمعيات والمؤسسات النسوية، بالإضافة إلى المشاركة في الانتخابات المحلية والتشريعية وخصوصا بعد إقرار نظام الكوتا.
مارست المرأة حقها في الانتخابات العامة ولأول مرة في العشرين من كانون الثاني عام 1996 حين جرت الانتخابات العامة، فلقد بلغت نسبة المرشحات في عام 1996 بواقع 4% من إجمالي المرشحين للمجلس السابق، أما في انتخابات يناير 2006 فقد كانت النساء يمثلن نسبة 3% من إجمالي المرشحين البالغ عددهم أربعمائة وأربعة عشر مرشحا (وهذا يعني حدوث تراجع حيث خلت ست دوائر من أي مرشحة، في هذا الإطار بسبب التنافس الحاد بين القوى الرئيسية التي أغلقت قوائمها على كل العدد المخصص للدائرة، لذلك فقد زهدت النساء الراغبات بالترشيح، وأحجمن عن حكمة في الترشيح، التزاما بقانون الانتخابات العامة، قامت جميع القوائم بترشيح النساء بقوائمها وفقا للترتيب الملزم قانونيا، وقد ترشحت (72) امرأة من خلال القوائم الإحدى عشر)
بالرغم من الظروف الاقتصادية الناتجة عن استمرار العدوان الإسرائيلي إلا أن المرأة واصلت عطاءها على كافة المستويات وواجهت الظروف الصعبة بمسؤولية وتمكنت من دخول سوق العمل الرسمي أو في مجال المنظمات الأهلية، وكذلك تكيفت مع عصر المعلومايتة، ومع ذلك يجب الإقرار بأن سنوات الانتفاضة أفرزت ظواهر سلبية كالفقر والبطالة وتزايد حالات الطلاق والمشاكل العائلية وانحلال في المنظومة القيمية وهي أمور تؤثر سلبا على المرأة والطفل أكثر من غيرهم.
المبحث الثاني
الدين والمجتمع في فلسطين

أسوة بغالبية المجتمعات العربية يحتل الدين موقعا مؤثرا في حياة الناس سواء على مستوى نمط التفكير أو السلك والممارسة، إلا أنه في الحالة الفلسطينية يلعب الدين دورا أكثر حضورا نظرا للخصوصية الدينية لفلسطين وهو احتلال صهيوني يؤسس على مرجعية دينية يهودية تتعارض مع المرجعية الإسلامية، وسنعالج الموضوع في بعديه الاجتماعي العام والسياسي بالرغم من تداخل البعدين.

المطلب الأول: الدين كمحدد رئيس للسلوك والتفكير الجمعي:
استحضار المقدس أو الدين لم يكن في يوم من الأيام غائبا عن الحياة الاجتماعية لدى شعوب المنطقة حتى ما قبل ظهور الديانات التوحيدية، عالم الروحانيات عند شعوبنا هو الأكثر بروزا انطلاقا من كون بلادنا منبع الديانات السماوية الثالث، إلا أن الاستحضار المكثف للدين وجعله مرجعية لبعضهم للتحريم والتحليل ولإبقاء المشروعية على الوضع القائم من نظم سياسية أو تراتبية اجتماعية أو مصالح أو تجريده منها، أخذ اليوم شكلا أكثر حدة وخلق حالة من التعصب الديني الجماعي جعل كل الأوضاع القائمة سياسية واقتصادية اجتماعية أنظمة وأيدلوجيات تأخذا طابعا دينيا، وفي السنوات الأخيرة أخذ يعاد النظر في كل هذه المجالات لتخضع لعملية تقييم من جديد ليس على أساس شرعيتها القانونية وجدواها العملية بل على أساس مدى ربطها بالشريعة الإسلامية كما يحدد معالمها أصحاب التيار الديني من أنظمة ثيوقراطية وحركة سياسية دينية، ورجال دين يجتهدون كما يحلو لهم، بمعنى أن الحكم على الأمور لم يعد يستند إلى العقلانية أو إلى مرجعية دينية متفق عليها بل إلى تراث واجتهادات أضفى عليها البشر الطابع الديني مما جعل المقدسات المصنوعة والمتوهمة أقوى وأكثر تأثيرا من المقدسات الحقيقية.
لكل ذلك فإن الرب أو الدين يتغلغل في نسيج حياتنا ويشكل عنصرا محوريا في نمط تفكيرنا وعقليتنا وشعورنا الواعي وغير الواعي، إنه معنا في اليقظة وفي المنام في البيت وفي العمل في التجارة وفي السياسة في سلوكنا الخير وفي سلوكنا الشرير، إنه بشكل آخر اللازمة التي تميز عقلنا العربي الإسلامي عن غيره، لكن الرب الذي نستحضره ونوظفه ليس بالضرورة رب العالمين الرب المطلق اللامتناهي ر الجميع بل هو رب نتخيله ونفصله على هوانا وبحسب مقاسنا رب يعتقد البعض أنه لم يوجد لنا ولا هم له إلا نحن... رب نريد منه مساوتنا ويتجاوب مع ما نريده من مصالح أو طالح، رب نستحضره إن كان استحضاره ما يحقق أغراضنا وننساه أن كان في ذلك مصلحة لنا.
إن الظاهرة في عمقها ليست مشكلة الدين أو الإسلام وبالتالي ليست المشكلة أن نكون علمانيين أو نكون أصوليين، ولكنها مشكلة العقليات التي توظف الدين في حياتنا اليومية لأغراض ومصالح شخصية أو حزبية ضيقة، المشكلة في حقيقتها ليست خلافا بين من يؤمن ومن لا يؤمن، بل هي أكثر تعقيدا وعمقا وخطورة مما قد يوحي به السياسيون والكتاب من علمانيين وأصوليين حتى أكثر عمقا من إدراك بعض أصحاب الحركات السياسية والحركات الدينية، المشكلة لا تكمن في الدين بحد ذاته بل في التصورات والممارسات الخاطئة التي تنسب إلى الدين.
أن المتعمق في البحث في واقع مجتمعاتنا العربية والإسلامية لن تعوزه النباهة ليكتشف وجود ما يشبه الطبقة من رجال الدين أو الكهانوتية، بل إن هذه الطبقة الكهانونية المسيحية، هذه الطبقة تشكلت عبر عقود طويلة من مصادرة الدين على يد رجال دين تقليديين من أئمة مساجد وشيوخ وعلماء منغلقين عن العالم وتحولاته ومستجداته وعلومه ويفكرون بالشكل الذي يتفق مع مصالحهم ورغباتهم، كما كان الدين محتكرا من قبل السلطة السياسية لأنظمة تفتقر للشرعية الشعبية، وكانت توظف الدين بالشكل الذي يخدم أغراضها ويبرر فسادها وتسلطها، هذا الاحتكار كان يوسع الهوة بين الناس العاديين وبين الفهم الحقيقي للإسلام وإدراك معانيه السامة والمرنة (الإسلام دين يسر وليس دين عصر)، وما كان يزيد الأمور تعقيدا هو التحالف بين الفئتين المسابقتين رجال الدين من جانب والسلطة من جانب آخر.
لا غرو أن للدين حضورا في كل المجتمعات ومنذ بدء الخليفة، إلا أنه في مجتمعاتنا العربية والإسلامية أكثر حضورا بسبب توظيف من طرف قوى سياسية داخلية وخارجية خلقت حالة من الاستقطاب بين من يسمون بالعلمانيين من جهة والأصوليين من جهة أخرى ونسب للعلمانية قيم الحداثة والتطور والديمقراطية وحقوق الإنسان، فيما ألصقت بالأصولية تهمة التخلف والانغلاق والجمود الفطري.
فهمت العلمانية عند البعض وكأنها رديف للإلحاد وما ساعد على ترسيخ هذا الفهم ممارسة بعض القاتلين بالعلمانية وخصوصا من الشيوعيين الذين أرادوا إسقاط التجربة العلمانية في الغرب على مجتمعاتنا. أي تفكير عقلاني وموضوعي سيصل لنتيجة أنه لا تعارض بين الدين والتطور والحداثة وأن شكلا من عقلانية التفكير والممارسة الدينية سيمكن المسلمين من دخول عالم القرن العشرين دون خوف على دينهم أو تفريط بمعتقداتهم، فإن نحترم أصولنا لا يعني أن نعادي العالم أو نغلق الباب أمام اختراعاته ومنجزاته على كافة الصعد، ولكن المشكلة هي كيف نفهم الأصولية؟ وما هو الأصل؟
لا يحتاج المفهوم "الأصولية" إلى الرجوع إلى أصولها الغربية كما يذهب بعض الكتاب العرب. فالأصولية، لغة ومعنى واصطلاحا، مستمدة من اللغة العربية ومن التاريخ العربي الإسلامي فهي تأتي من "الأصل"، فالأصل الشيء هو "الأساس الذي يقوم عليه ونشئوه الذي ينبت منه". والعودة إلى أصول الإسلام ومنابته الأولى ليست بالشيء الجديد في التاريخ العربي الإسلامي، الأمر الذي أتاح لظاهرة الأصولية بعدا زمنيا مكنها من الأصول إلى مرحلة "التأسيس النظامي" داخل المجتمع، أي أنها أصبحت جزءا من الواقع الاجتماعي، يتعامل المجتمع معها ليس بهدف إيجاد حل نهائي لها كظاهرة اجتماعية/ دينية، بل للتكيف معها واستيعابها وتدجينها وتبيئتها بما لا يخل بانتظام النسق الاجتماعي، وبالتالي يصعب التكهن باستئصال المشكلة –الظاهرة- على المدى القريب، في ظل البنى العقلية والاجتماعية نفسها، وفي ظل الشروط والأوضاع المشار إليها سابقا، وخصوصا أن كل الأطراف تسعى إلى توظيف الدين لخدمة مصالحها الخاصة، بما في ذلك الأنظمة نفسها، التي تشتكي من ظاهرة التطرف الديني.
إن تكرار ظاهرة (التطرف الديني) أو الحركات الأصولية، ووجودها في غالبية المجتمعات الإسلامية مع تباين صور التعبير عنها من حالات تفجر واحتدام أحيانا، إلى حالات تعايش مع الوضع القائم وظهور المشكلة على شكل موجات وفي فترات متقطعة، وأخذها طابعا عصبويا استقطابيا كل ذلك يدفع إلى القول: إن العوامل الحقيقية لظهور الظاهرة هي عوامل دنيوية، تتعلق بشروط الحياة وأشكال نظمها المختلفة، فإذا سمحت الظروف السياسية والاجتماعية والأوضاع الاقتصادية بتوفير شروط حياة أفضل للمجتمع، وبخلق توازن بين أنساقه أو شرائحه المختلفة، وتوفير متطلبات التعايش السلمي بين مختلف شرائح المجتمع وطوائفه –تعايش بالتراضي لا بالقهر توارت المشكلة بشكلها المتطرف وانتفى مبرر استحضار الرب لينوب عن البشر في حل مشاكلهم.
أما إذا اختل التوازن وعجزت السياسة عن خلق حالة تعايش وانسجام داخلي وإذا تأزمت الظروف الاقتصادية وأصبحت الفلسفات والأيديولوجيات الدنيوية عاجزا عن حل مشاكل المجتمع. وأصبح الشباب يعيش في حالة ضياع وتشتت وفقدان ثقة في كل شيء، تظهر الحركات الدينية كعامل تحريض وإثارة، وكعامل استقطاب وتميز أو كعامل رفض واحتجاج –أو كل ذلك- لتدخل الميدان موظفة خابا يزعم أصحابه أنه البرنامج البديل القادر على حل مشاكل المجتمع، أي أن الحلول المقترحة يضفي عليها طابع ديني لغياب أو فشل الحلول الدنيوية العلمانية، لكن المشكلة في جوهرها تبقى دنيوية.
فلا شك في أن التطرف الديني هو تصرف لا عقلاني، بينما الإسلام والتدين بشكل عام، في مغزاه العميق الروحي والأخلاقي، هو تصرف عقلاني، ولكن ما يجعل التدين عملا لا عقلانيا، أي يوصله إلى مرحلة التطرف الاستقطابي القائم على تكفير الآخر ونبذه، هو لا عقلانية الواقع القائم من نظم وأنظمة وفسادها وانتقاء شروط الحياة الكريمة، والمواقف اللاعقلانية والعنصرية للغرب في تعامله مع الشعوب الإسلامية –والعربية خصوصا- هي التي تستثير الجانب اللاعقلاني عند المتدينين، وهو جانب التطرف والانكفاء على الذات ومعاداة الآخر. وكلما تمت عقلنة الواقع بجعله قائما على العدل والإنصاف واحترام إنسانية الإنسان وحقوقه، نزعت من المتدين صواعق تفجرهم وتحولهم إلى ممارسي سلوك غير عقلاني، أي إلى ظاهرة التطرف الديني، أو بشكل آخر، كلما جعلنا الحاضر أفضل من الماضي –وهذه هي سنة الحياة وطبيعة التطور الذي يسير إلى الأمام دوما- الذي تتقمصه بعض الحركات الأصولية، وتجعله نموذجا لما يجب أن يكون، وكلما أصبحت المجتمعات المسلمة أكثر قدرة على التحكم في واقعها وعلى التحرر من عوامل الهيمنة والاستلاب التي تحكم علاقتها بالمجتمعات الأخرى، قلت الحاجة إلى الاستنجاد بالماضي وبالسلف الصالح، وانتقى مبرر انتشار النزعة الدينية المتطرفة.
إذاً الأسباب الحقيقية الكامنة وراء تفجر ظاهرة التطرف واحتدام الصراع بين الأصوليين من جهة، وبين أنظمة وقوى "علمانية" من جانب أخر، هي أسباب دنيوية، مشاكل ترتبط بالفقر والبطالة والهيمنة الأجنبية والإحباط واليأس المسيطر على الجبل الصاعد، أي أنها غير مرتبطة مباشرة بالإيمان بالله أو عدم الإيمان به، أو بأن تكون مسلمين أو غير مسلمين وبالتالي، فإن طرح بعض الحركات الإسلامية الجانب السلوكي والطقوسي من الدين لا يعبر عن حقيقة المشكلة وأن يساعد على حلها، لأنها، ببساطة لا تتعامل مع جوهر المشكلة، حتى في الجانب الديني الإيماني، فحيث إننا لسنا في زمن الأنبياء والرسل والقديسين، وحيث إن هذه الحركات أو الأشخاص، لا يمكنها أن تدعي أ،ها على اتصال برب العالمين، أو أنها تحتكر السر الإلهي، ولا تدعي أنها جاءت بآية قرآنية جديدة، أو بحديث نبوي جديد، إذا فهي تسعى لتوظيف واستحضار الدين، والمقدس الذي هو للجميع، من أجل أهداف سياسية واجتماعية أو اقتصادية، أي دنيوية بشكل عام.
ونعتقد أن توظيف الدين لصالح الدنيا ليس بالأمر الخطأ بل هو أساس، وهدف الدين ولكن يجب عقلنته من خلال إعادة النظر، ليس في الدين بعد ذاته، ولكن في الموضع الذي تحتله في المجتمع، فلا شك في أ، الحركات الدينية تكتسب مصداقية بتموضعها كحالة رفض لواقع لا خلاف على فساده، وعلى الحاجة إلى تغييره، وتتموضع كإطار يملأ الفراغ الناجم عن انسحاب الأيديولوجيات الأخرى، وكتعبير عن هوية تمايز عن الآخر –الغرب الأمبريالي والكيان الصهيوني- الذي لا يخفى عداءه القومي والديني والحضاري لكل ما هو عربي ومسلم، أي أن الإسلام يصبح في هذه الحالة كخط دفاع أخير يستند إليه العرب والمسلمون حتى لا يندثروا وينتهوا كأمة وكمجموعة بشرية متحضرة والخوف الذي تبديه الدول الأوروبية والكيان الصهيوني من المد الأصولي، وتأليبها الأنظمة العربية ضد الأصوليين بل وتأجيجها نار الفتنة وصب الزيت على النار، كل ذلك يرجع إلى تحسس الدول الاستعمارية وبعض الأنظمة العربية لما يمكن أن تمثله الحركات الأصولية من فضح للواقع الفاسد واستقطاب للقوى الرافضة له. وحيث أن هذا الواقع العربي الإسلامي يخدم المصالح الغربية والكيان الصهيوني، فإن مصلحة الغرب الدفاع عن هذا الواقع بمناوأة الحركات الأصولية بانتهاج سياسة مدروسة ومحسوبة، أي أنها ليست مناوأة مطلقة لكل الحركات الأصولية، بل لمن لا تتماشى سياستها وممارستها مع مصلحة الغرب.
ولا شك أيضا في أن الدين، كعنصر استقطاب وتميز عن الآخر، وكقيم أخلاقية وروحية، قد لعب عبر التاريخ دورا مفصليا في معارك الشعوب ضد أعدائها وفي استنهاض الهمم وشحنها، إلا أن هذا الدور للدين ما كان يمكن أن يكون لولا وجود قيادة عاقلة تحسن توظيف الدين في هذا المجال، ولولا وجود مجتمع نشط ومبدع وفاعل، ووجود مثقفين وعلماء ليسوا أدوات في يد السلطة السياسية، أي لولا توافر شروط موضوعية –سياسية اقتصادية اجتماعية- تهيئ المناخ المناسب للدين ليلعب هذا الدور، فالفرق بين مسيحية أوروبا في عصر الظلمات ومسيحيتها في عصر الأنوار، ليس اكتشاف كتاب مقدس جديد أو نص ديني غاب عن الأولين، وليس في تخلي أوروبا في عصر الأنوار وما بعد عن الكتاب المقدس، ولكن الفرق يكمن في تغيير العقليات، وفي ظهور طبقات ونخبات جديدة، تمردت على احتكار الدين من قبل البعض، وتمردت على تجهيل المجتمع باسم الدين، وأعطت تأويلا جديدا للدين ودوره في المجتمع. والأمر نفسه بالنسبة إلى الحضارة العربية الإسلامية، ففي ظل الإسلام –قرآن وسنة- شيد المسلمون حضارة من أعرق الحضارات، وفي ظل الإسلام نفسه –قرآن وسنة- وصل العرب والمسلمون إلى الحضيض. فالخلل إذا، ليس في القرآن والسنة، ولكن في البشر المتعاملين معهما، الخلل أن أشخاصا محددين احتكروا (السر الإلهي) ووظفوا الدين ليس في خدمة الرب ولا في خدمة البشرية ولا في خدمة شعوبهم أو غالبيتها، لكن في خدمة مصالح شخصية وفئوية ضيقة.
ذا، في ظل المأزق تمر به الأمة العربية، وفي ظل الهجمة الاستعمارية والصهيونية الشرسة لإفقاد العرب ما تبقى لديهم من منعة وعزة وكرامة، يمكن توظيف الدين ليكون عنصر قوة ومنعة، عنصر توحيد واستنهاض للهمم، ليقوم بما عجزت عن القيام به الأنظمة والأديولوجيات المنهارة، ولكن ليس من خلال التعامل مع الحركات الإسلامية باعتبارها حركات، بل التعامل معها كحركات واقعية ومستقبلية، حركات تعانق الحاضر وعينها على المستقبل، وليس على الماضي –إلا باعتبار الماضي عبرا ودروسا تستلهم- وحصر مظاهر التقديس على أساسيات الإسلام التي لا خلاف عليها، على أن تبقى العلاقة بين الإنسان وربه، وعدم قبول تنصيب أيا كان نفسه نائبا عن الله في التحريم والتحليل، وفي منح صكوك الغفران أو الوعيد بنار جهنم، وما عدا ذلك من أمور يتم التعامل معها كمؤسسات وأفكار اجتماعية تستمد مصداقيتها وأحقيتها في الإظهار على غيرها، ليس بزعم انتسابها إلى الإسلام، ولكن بقدرتها على إثبات الذات في معركة الحياة وفي مواجهة المؤسسات والفلسفات والأيديولوجيات الأخرى.
فمن غير المعقول مواجهة واقع فاسد وحضارة الغرب المادية المتفوقة، بالروحانيات وبالنصوص وبالتاريخ، بل يجب أن نواجهها بواقع قوي متماسك، وإلا كيف يعقل أن ندعي عظمة الإسلام وعظمة حضارة العرب والمسلمين، ونحن ضعفاء متفرقون متخلفون؟ ذلك أن مجرد امتلاكنا القرآن والسنة النبوية وحفظنا إياهما، وامتلاكنا تاريخا مجيدا مليئا بالإنجازات الحضارية، لن تغير هذه الأمور في الواقع شيئا، فليس تردي واقعنا وتخلفنا من (إرادة الله) بشيء، بل هو بإرادة البشر وتقاعسهم، والخروج من هذه الحالة لن يكون بانتظار إرادة الله بأن يقول للشيء (كن فيكون)، بل يكون بإرادة البشر وعملهم والتغيير الاجتماعي ومسيرة التاريخ هما دائما يسير حسب إرادة الأقوياء الفاعلين، وكل عظمة الحضارة العربية الإسلامية التليدة الماضية، لا تستطيع اليوم أن تطعم طفلا جائعا رغيفا من الخبز.
إن كل إتباع الديانات الأخرى، سماوية أو غير سماوية، والتي قد تكون أقل شأنها من الإسلام، لم ينتظروا إذنا من ربهم أو وحيا منه ليطوروا أوضاعهم ويحسنوا شروط حياتهم، ولم يرجعوا نكسة أصابتهم أو أزمة تعرضوا لها إلى إرادة فوق بشرية، بل بحثوا في الخلل في ذواتهم، ونظمهم وعلاقاتهم، وبالتالي تحركوا بمحض إرادتهم وعن قناعة عقلية، وبدافع المصلحة، محيدين للرب من صراعاتهم وعلاقات بعضهم مع بعض، وانطلقوا وهم مؤمنون بأن عملهم على ما فيه خير الدنيا وتحسين ظروف وشروط حياة الإنسان، ضعفاء، وهم بذلك لم يتخلوا عن دينهم، فلا المسيحيون تخلوا عن اتكاليين سلبيين ولا البوذيون كفروا ببوذا، وإلا اليهود تخلوا عن يهوديتهم، فعندما أصبح هؤلاء أقوياء قويت معهم دياناتهم.
وعليه، لا يمكن إنكار أن اللجوء إلى الإسلام كخط دفاع يوقف حالة التراجع التي تعرفها الأمتان العربية والإسلامية، وعنصر تعبئة وتحريض، وكتعبير عن رفض الانضواء تحت هيمنة الآخر واستلابه، وكهوية تمايز، يصبح عملا مشروعا ومبررا، إلا أنه حتى يكون له الدور الاجتماعي المتضمن في جوهر الإسلام، باعتباره ثورة ومشروعا حضاريا، يفترض أن تكون طريقة توظيف الدين في اتجاه التوحيد لا التفرقة، في اتجاه البناء المستقبلي لا النظر إلى الماضي، في اتجاه إظهار عناصر التمايز عن الآخر، لا على أساس النص الديني أو عظمة الماضي، بل تمايز يقوم على الأفضلية والإظهار المبنيان على قدرة الفعل في التعامل مع الحاضر.
وإنه لما يتناقض مع جوهر الإسلام، ومع قدرة الخالق اللامتناهية، أن نحسبه في نصوص بعينها، أو نحوزه ضمن أوضاع وظروف دون غيرها، أو أن يصبح أداة لشخص أو جماعة، لا يكون الرب حاضرا إلا بها ومعها ولا يعرف أسراره إلا هم.
وحيث إنه لا يعقل أن يكون الله رب العالمين ضد أن يكون عباده أقوياء ومتحضرين، فإن الرب، رب المسلمين والعالمين لا بد أن يكون محبذا بل وداعيا إلى كل ما من شأنه رفعه راية المؤمنين، بل ومحبذا كسر حاجز الخوف من المحرم المبالغ فيه، وغير المستمد من نصوص واضحة وصريحة في تناول القضايا الدنيوية، حيث أن الخوف من المحرم –المتخيل والمصطنع بل والمؤدلج وليس المحرم الديني الصريح النص- وإضفاء صفة التقديس على أوضاع وأشخاص باسم الإسلام، شيء بتناقض مع جوهر الإسلام ويسيء له أكثر مما ينفعه: أمر يرهب الناس ويبعدهم عن الإسلام بدلا من أن يقربهم إليه.
مما لا مراء فيه، أنه لا يمكن لأحد الآن أن يدعي أنه يملك الحقيقة الإلهية، أو يزعم أنه موحي له بها، بالتالي فإن أي شخص –أو حركة- يتحدث عن الإسلام وباسمه، إنما يتحدث عن تأويل خاص أو وجهة نر خاصة، فهو غير مفوض له إلاهيا، وليس فوق البشر. إن مقياس الحكم على أي تفسير أو ادعاء حول الدين يجد محكه العملي ليس في امتلاكه الحقيقة الإلهية أو الدفاع عنها –فهي خارجة عن نطاق البحث لأنه لا يوجد من يجادل فيها- ولكن في الواقع الإنساني، في الإنساني، في قدرته على توظيف قيم الإسلام ومبادئه الأخلاقية لخدمة الإنسان والاجتماع الإنساني، هذا الأخير، الذي لا يؤسس على المقدس فقط، بل على نظم يضعها البشر ويقيمونها، وتكييفات لأوضاع مستحدثة لا عهد للأقدمين بها أي على الاجتهاد ضمن قواعد وضوابط متفق عليها . فالإسلام هو سعي متواصل نحو الكمال، وأي شخص -أو جماعة- يدعي أنه وصل إلى الكمال الإسلامي، وأنه يمثل الحقيقة الإسلامية والنموذج الكامل للإسلام، إنما هو ضد الله بما هو مطلق، ولا نهائي وضد الإسلام الذي لكل الأزمة ولكل البشر.

المطلب الثاني: خصوصية الدين في المجتمع الفلسطيني:
الحديث عن العلمانية والأصولية في المجتمع الفلسطيني مستمدة من خصوصية الحالة السياسية وخصوصية فلسطين تاريخيا كمهد الديانات السماوية الثلاث.
ففلسطين مقدسة بالنسبة لأصحاب الديانات الثلاث مع تدرج في طبيعة الحال في درجة التدين فهناك تعصب يهودي صيهوني وهناك تسامح إسلامي بشكل عام، مع بعض التعصب كردة فعل على التعصب اليهودي والاحتلال الإسرائيلي الرافض للاعتراف بالحق الفلسطيني، أما بالنسبة للمسيحيين فالصورة أكثر تعقيدا وتشابكا فكثير من المسيحيين في المجتمع الفلسطيني كانوا قادة في حركة التحرر الفلسطينية والعربية ولهم دور كبير جدا إلا أن نضالهم لم يكن على أساس ديني بل وطني وقومي، وبالتالي لم يشكلوا حركة مسيحية تقاوم المشروع الصهيوني على أساس ديني.
من الملاحظ أنه حتى بعد اقتضاح المشروع الصهيوني اليهودي مع وعد بلفور استمرت الحركة الوطنية الفلسطينية بعيدة عن التعصب الديني حيث يلاحظ أن أول ظهور للحركة الوطنية الفلسطينية في نهاية العقد الثاني من القرن العشرين 1918 كانت من خلال جمعيات حملت اسم الجمعيات الإسلامية والمسيحية في عام، وهي تحالف بين المسيحيين والإسلاميين لمواجهة الخطر الصهيوني، وكان دور هذه الجمعيات كإطار للحركة السياسية الفلسطينية ومعبر عن مطالب الشعب الفلسطيني له دلالة واضحة وهي تأكيد أن الشعب الفلسطيني شعب علماني متدين دونما تعصب. إلا أن قيام الكيان الصهيوني في 48 ثم ممارساته الأخرى ثم احتلاله لبقايا فلسطين في 67 وإعلانه ضم القدس واعتبارها عاصمة له كل هذا استفز الشعور الديني عند الشعب الفلسطيني وعند العرب والمسلمين، إلا أن المشاعر الدينية المتأججة لم تكن موجهة ضد أصحاب الدين اليهودي بل كانت موجهة ضد الحركة الصهيونية والتعصب الديني، وحتى لا تظهر الحركة الوطنية الفلسطينية بمظهر المعادي للدين اليهودي رفعت شعار اليهودية غير الصهيونية كفئة من اليهود يوظفوا الدين لأغراض سياسية استعمارية وهذا الشعار الذي تحول إلى سياسة رسمية عند منظمة التحرير الفلسطينية وتم التصويت عليه في مقررات المجالس الوطنية الفلسطينية.
اعتبارات متعددة وقفت وراء عدم التركيز على البعد الديني كمحدد رئيس في المواجهة مع الكيان الصهيوني طوال عقد السبعينات، فبالإضافة إلى ما ذكرناه حول طبيعة الدين الإسلامي الذي يعترف ويحترم أصحاب الديانات السماوية فإن التركيبة السكانية في فلسطيني كانت عنصرا يدفع في هذا الاتجاه حيث يوجد مواطنون فلسطينيون، ومسلمون ومسيحيون ويهود عرب فلسطينيين، والعديد من ممن كانوا على رأس حركات المقاومة الوطنية الفلسطينية كانوا من المسيحيين، أيضا هناك عامل آخر مهم وهو أن الفكر السياسي العربي الفلسطيني الذي ساد خلال تلك المرحلة كان فكرا قوميا اشتراكيا يساريا لا يؤسس برنامجه على أسس دينية بل طغت عليه العلمانية تشبها بالأصول أو الجذور الاشتراكية اليسارية في الغرب، وربما كان لتحالف حركة التحرر العربية آنذاك بما فيها الحركة الوطنية الفلسطينية مع المعسكر الشيوعي أو الاشتراكي دور في تهميش دور الدين كعامل من عوامل الصراع.
هذه الخصوصية لفلسطين كملتقى الديانات دفع حركة المقاومة في بداية السبعينيات لرفع شعر الدولة الفلسطينية الديمقراطية التي يتعايش فيها أصحاب كل الأديان المقيمين على أرض فلسطين، ففي بيان لحركة فتح آنذاك جاء (نحن نقاتل اليوم في سبيل إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية يعيش فيها الفلسطينيون بكل طوائفهم مسلمين ومسيحيين ويهود في مجتمع ديمقراطي تقدمي ويمارسوا عباداتهم وأعمالهم مثلما يتمتعون ببقية حقوقهم المتساوية، إن ثورتنا الفلسطينية تفتح قلبها وفكرها لكل بني الإنسان الذين يريدون أن يعيشوا في المجتمع الفلسطيني الحر).
وكان لابد من انتظار الثمانينات لما حفلت به من أحداث وتحولات كتراجع المد القومي اليساري العلماني الأمر الذي فتح المجال للتيار الأصولي ليملأ الفراغ، وقيام الثورة الإيرانية التي عززت من موقع الحركات الدينية ثم انهيار المعسكر الاشتراكي حليف القوي اليسارية والعلمانية في فلسطين، وفوق كل هذا الإرهاب الصهيوني المتعاظم وعدوانه على الشعب الفلسطيني....، كل ذلك عزز من جبهة التيار الأصولي، وكانت الانتفاضة الفلسطينية هي اللحظة التاريخية والساحة العملية التي أظهرت قوة التيار الديني في المجتمع الفلسطيني حي أعلنت حركة حماس عن نفسها عام 1987م وفي نفس الفترة ظهرت حركة الجهاد الإسلامي، ومع انتفاضة الأقصى وما صاحبها من ترد في الأوضاع الاقتصادية وحالة إحباط ويأس من الوضع السياسي، عمت المظاهر الدينية المجتمع الفلسطيني.
كان من أهم ما نتج عن دخول البعد الديني في الصراع مع الكيان الصهيوني بشكل مكثف هو إعادة النظر في طبيعة الصراع، فإذا كان البعد القومي هو الذي كان سائدا خلال النصف الثاني من القرن العشرين كما بينا سابق، فالوضع تغير في بداية القرن الواحد والعشرين، تساؤلات اليوم أصبحت تدور حول هل الصراع هو صراع سياسية معها؟ أو هو صراع ديني بين اليهود والمسلمين لا يحسم إلا باستئصال وجود اليهود من أرض فلسطين؟ فإذا كانت السلطة الوطنية بقيادة منظمة التحرير اتخذت موقفا واضحا لاستعدادها لطي صفحة الصراع مع الكيان الصهيوني على أسس دينية فإن التيار الإسلامي –حماس والجهاد- استمروا باعتبار الصراع صراعا دينيا لا يحسم إلا بإزالة الوجود الإسرائيلي، وهذا ما لمسناه بوضوح بعد فوز حركة حماس في انتخابات يناير 2006 حيث تأزم النظام السياسي وتعطلت كل العملية السلمية وفرض حصار على الشعب الفلسطيني نظرا لرفض الحكومة التي تترأسها حركة حماس الاعتراف بإسرائيل.
وهكذا نلاحظ أن الدين في المجتمع الفلسطيني يلعب دورا اجتماعيا ودورا سياسيا في نفس الوقت بل طغى الدور السياسي للدين على الدور الاجتماعي مع أن هذا الأخير لم يكن مغيبا في يوم من الأيام. ونعتقد أن البعد الديني سيبقى مكونا أساسيا في المجتمع الفلسطيني ما دام هناك احتلال، وحتى وإن حسمت أوجه الصراع من سياسية واقتصادية وقانونية مع إسرائيل فسيقي الدين عامل توتر ما دام الكيان الصهيوني يؤسس وجوده على عقيدة صهيونية يهودية متعصبة وما دام يستحضر بقوة كل الرموز والأساطير الدينية اليهودية ولا تعترف بأي حقوق للمسلمين والمسيحيين. ولكن أٌول أنه في الوقت الذي يجب أن نطرح رؤية سياسية كديمقراطيين ودعاة سلام، إلا أننا ما زلنا نحن نحتاج إلى الدين وإلى شكل من الأصولية المعقلنه والمرحلي(أصولية وظيفية) في هذه المرحلة ضرورية للرد على الأصولية الصهيونية السائدة وخصوصا بعد التوجه الصهيوني لتحويل إسرائيل لدولة يهودية خالصة.
في الحالة الفلسطينية لا يمكن إقصاء الدين ولكن مطلوب دمج الجماعات الدينية في المشروع الوطني وليس إلحاق المشروع الوطني بجماعات دينية مرتبطة بالخارج ، المطلوب (توطين) الدين، ليس بمعنى التشكيك بعالميته وشموليته ولكن بمعنى إعادة ترتيب أوليات العمل السياسي بحيث يتم تسبيق العمل الوطني والمصلحة الوطنية على ما له طابع أمي، فالشعوب الإسلامية غير مهددة بوجودها ولديها دولها ومؤسساتها وأحزابها المنشغلة بقضاياها، أما الشعب الفلسطيني فإن لم يناضل ويعمل أهله لمصلحة الوطن المهدد بالزوال فلن تعمل لأجله أية حركة أو نظام إسلامي إلا بالشعارات أو بقليل من المال الذي لن يحرر أرضا ولن يصد مستوطنا. ألم تشتغل حركة الإخوان المسلمين في مصر والأردن والجزائر ضمن إطارها الوطني؟ أليس إسلام إيران إسلام وطني بل قومي فارسي حيث لم ترسل إيران جنودها يوما لقتال إسرائيل ولم يقتل جندي إيراني واحد دفاعا عن فلسطين ومقدساتها؟ أليس حزب الله حركة دينية لبنانية يقتصر جهادها على تحرير جنوب لبنان بتوافق مع الدولة اللبنانية؟.
توطين الحالة الدينية في فلسطين ضرورة لبلورة والتأكيد على الهوية الوطنية ويصبح مكونا ومعينا للقرار الوطني الفلسطيني المستقل وألا يتعارض مع الهدف الوطني الساعي لقيام دولة مستقلة وعاصمتها القدس كما نصت عليها وثيقة إعلام الاستقلال في الجزائر عام 1988، في وثيقة الاستقلال صياغة جيدة لموقع الدين ودوره في المجتمع الفلسطيني ومما جاء في هذه الوثيقة:
(مطعما بسلالات الحضارة وتعدد الثقافات، ومستلهما نصوص تراثه الروحي والزمني، واصل الشعب العربي الفلسطيني، عبر التاريخ، تطوير ذاته في التوحد الكلي على كل مئذنة صلاة الحمد للخالق، ودق مع كل جرس كنيسة ومعبد ترنيمة الرحمة والسلام).
إن دولة فلسطين هي للفلسطينيين أينما كانوا، فيها يطورون هويتهم الوطنية والثقافية، ويتمتعون بالمساواة الكاملة في الحقوق، وتصان فيها معتقداتهم الدينية، والسياسية، وكرامتهم الإنسانية، في ظل نظام ديمقراطي برلماني يقوم على أساس حرية الرأي، وحرية تكوين الأحزاب، ورعاية الأغلبية حقوق الأقلية، واحترام الأقليات قرارات الأغلبية، وعلى العدل الاجتماعي، والمساواة وعدم التمييز في الحقوق على أساس العرق، أو الدين، أو اللون، أو بين الرجل والمرأة، وفي ظل دستور يؤمن سيادة القانون والقضاء المستقبل، وعلى أساس الوفاء الكامل لتراث فلسطين الروحي، والحضاري في التسامح والتعايش بين الأديان عبر القرون).
طرحت علاقة الدين بالدولة والمجتمع مرة أخرى مع النقاش الذي دار حول وضع دستور لدولة فلسطين المستقبلية، وحيث أن إثارة الموضوع جاء في وقت يشتد فقد تم الربط أيضا ما بين
الوظيفة المجتمعية للدين والوظيفة السياسية، وحاول المشرعون الاستفادة من النصوص الدستورية الواردة في الدساتير العربية حلو الموضوع بالرغم من خصوصية الحالة الفلسطينية وخصوصية المرحلة التي طرح فيها الموضوع، وقد تم الاتفاق في المسودة الثالثة للدستور التي اكتملت في مارس 2003 علي صيغة حل وسط وردت في المادتين الخامسة والسابعة.

الفصل الثامن
المجتمع الفلسطيني والبحث عن الدولة

الدولة الفلسطينية حالة خاصة بين الدول سواء من حيث التاريخ أنها ككيان سياسي مستقل ومحدد المعالم، أو من حيث العلاقة ما بين الدولة والمجتمع فتداخل الهويات وتعدد الانتماءات وتعاقب أشكال الهيمنة والاحتلال في فلسطين، بالإضافة إلى واقع الشتات الذي يعانيه الشعب، كل ذلك يجعل مقاربة موضوع الدولة بعيدا عن العواطف والأيديولوجيات، أمرا محفوفا بمخاطر سوء الفهم والتشكيك، ومع ذلك وإنصافا للتاريخ وتحريرا له من الايدولوجيا فالموضوع يحتاج إلى دراسات معمقة لتأكيد الحق الفلسطيني في دولة مستقلة من جانب، ولتبديد وهم مريح ينتاب البعض بأن الدولة على الأبواب من جانب آخر.
مسألة الدولة ككيان قانوني وسياسي، كمؤسسات وسلطات سياسية وحدود وعلاقات دولية الخ، لم تشغل كثيرا المفكرين السياسيين ولم توضع ضمن سلم الدولة على حساب الانشغال بالدولة بحد ذاتها وبقضايا المجتمع الفلسطيني، وهذا يفسر أيضا ندرة الدراسات السسيولوجية حول الدولة الفلسطينية، هذا وقد مرت فكرة الدولة بعدة مراحل سنشير إليها حسب التطور التاريخي للفكرة.

المبحث الأول
دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية

كثيرة هي المؤشرات الواضحة والدالة على أن الهدف الأساسي لحركة المقاومة الفلسطينية عند انطلاقتها الأولى كان استنهاض الوطنية الفلسطينية وتوريط الأنظمة العربية في معركة التحرير، أما فكرة الدولة الفلسطينية فلم تكن حاضرة عند مفجري الثورة، حيث أن بعض الدول العربية لم توافق على تأسيس منظمة التحرير إلا بعد أن أعطتها هذه الأخيرة تأكيدات بأنها لن تمارس سيادة عل الضفة وغزة، أضف إلى ذلك أن حالة المد الوطني والقومي كانت تحول ومجرد التفكير بدولة فلسطينية لا تشمل كل فلسطين، وهذا ما أكد عليه الميثاق الوطني الفلسطيني حيث رفض بشكل قاطع كل مشاريع التسوية بما فيها قرار التقسيم وقراري مجلس الأمن 242 و338.
اصطدام الثورة الفلسطينية بالواقع، وخصوصا بعد أحداث الأردن وسلبية الموقف الرسمي العبي، دفع بحركة فتح –أكبر فصائل الثورة الفلسطينية –إلى تحيين الهدف الوطني الاستراتيجي ووضعه موضوع التداول والممكن ولكن من خلال صياغة جديدة له اعتقدت فتح أنها ستجد استحسانا من أطراف يهودية عالمية وأطراف دولية، في فلسطيني نفس الحقوق التي هي للعرب الفلسطينيين، مع أن الثورة الفلسطينية بررت تبني هذا الهدف باعتبارات إنسانية، إلا أن الواقع يدل على أن السبب هو بداية تحسس فتح بعدم جدوى المراهنة على البعد القومي العربي الرسمي لوحده وكذا بروز تيار في الساحة الفلسطينية يراهن على ما سماهم اليهود غير الصهاينة ووجود إمكانية بالاعتماد عليهم لخلق نوع من المصالحة التاريخية ما بين اليهود والفلسطينيين.
المطلب الأول: الجذور التاريخية للفكرة:
تعتبر حركة فتح أو جهة فلسطينية تحدد هدف النضال الفلسطيني بإقامة دولة ديمقراطية تتعايش فيها كل الطوائف بتساو، ومع ذلك فإن تفحص تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية قبل 1948 يشير إلى وجود مواقف تعبر عن نزعة إنسانية لتعايش بين جميع المواطنين بغض النظر عن الدين أو العرق، ففي الشهادة التي قدمها الفلسطينيون إلى لجنة (بيل) عام 1937، عبر الفلسطينيون عن رغبتهم بإقامة فلسطين موحدة ديمقراطية متعددة الأديان، ونفس الموقف عبر عنه المذكرة التي قدمها حزب الدفاع الفلسطيني إلى لجنة وودهيد في مايو 1938، حيث طالبت المذكرة بإقامة دولة يتعايش فيها العرب واليهود بسلام وتضمن للجميع حقوقهم الدستورية والقانونية بغض النظر عن الديانة، وتكرر المطلب الفلسطيني بفلسطين الموحدة اللاطائفية عام 1948 خلال وساطة برنادوت لحل النزاع.
إلا أن حزب 194 والبشاعة الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني، ورفض الإسرائيليين لأية إمكانية للتعايش مع الفلسطينيين في فلسطين واحدة، وما لحق بالشعب الفلسطيني من عذاب وآلام ومحن على يد الدولة الصهيونية، كل هذا خلق تراكمات من الأحقاد والآلام النفسية عند الشعب الفلسطيني والعرب عامة، وهو الأمر الذي يمخض عنه بحكم الواقع والمنطق، ظهور مواقف متشنجة تجاه اليهود عبر عنها بأشكال الرفض المتكررة لأي تفاوض أو تعايش عربي معهم بل ودفع أحيانا ببعض التيارات السياسية لأن تضع كل من اليهودية والصهيونية في سلة واحدة وتطالب بالثائر منهم –حركة القوميين العرب في الخمسينات- وفي ظل هذه الأجواء النفسية كان ولابد أن يشوف الموقف الفلسطيني تجاه الإسرائيليين شيئا من الغموض اتسم بعدم التمييز –ولو من ناحية تكتيكية دعائية- بين اليهودية كدين وبين الصهيونية كحركة عنصرية فاشية تسعى لتجسيد نفسها ناطقة باسم اليهودية العالمية وممثلة لليهود في كل مكان، وبقي الفكر السياسي الفلسطيني في نظرته لمصير يهود فلسطين قاصرا عن تحديد موقف واضح، وكثيرا ما كان الحديث عن التحرير وما بعد التحرير يتسم بالغموض وأحيانا يعتبر من القضايا المؤجلة التي لم يحن الوقت لبحثها وتحديد موقف منها، وعليه كان مطلوب توضيح الصورة وتحديد موقف من يهود فلسطين بعد التحرير.
يعود الأساس والمنطلق لطرح مفهوم فلسطين الديمقراطية أذن إلى ضرورة وضع صياغة جديدة للتصور الفلسطيني لليهود، وإعادة تحديد لمعسكر الخصم ومعسكر الأصدقاء، وهذا راجع إلى طبيعة الاحتلال الصهيوني لفلسطين، فخلافا لكل أنواع الاستعمار الأخرى، حيث كانت هزيمة قوات الاحتلال تؤدي إلى خروج القوات المستعمرة وترك البلاد لأصحابها، فإن طبيعة الاحتلال الاستيطاني الاجلائي لفلسطين كان يطرح بإلحاح إشكالية مصير اليهود في فلسطين، هؤلاء الذين لم يكونوا مجرد عدة آلاف من الجنود بل مجموعة بشرية متكاملة أو شعب قيد التكون، أقاموا في فلسطين وولدت أجيال فيها وقطعوا صلتهم ببلدانهم الأصلية وشكلوا أغلبية سكان فلسطين بحيث أصبح السكان الأصليين –الفلسطينيون- يشكلون أقلية، وبالتالي كان من الصعب القول بأن التحير يعني طرد كل اليهود من فلسطين، ذلك أن حل المشكلة الفلسطينية يجب ألا يكون على حساب خلق مشكلة يهودية جديدة ستوظفها القوى المعادية ضد الثورة وضد حركة التحرر العربية. ولأن الثورة الفلسطينية لا تخاطب فقط الشعب الفلسطيني بل تخاطب اليهود والرأي العام العالمي فكان عليها أن توضح تصورها لمصير اليهود في فلسطين بعد التحرير.
وحيث أنه لم يعد من الممكن ومن المقبول أن تماطل الثورة الفلسطينية كثيرا حول طبيعة فلسطين الغد حيث كانت اليهودية العالمية تستغل هذا السكوت لمصلحة إسرائيل، فقد طرح بشكل جدي ومسئول ضرورة تحديد موقف، ومن هنا كلفت حركة التحرر الوطني الفلسطيني "فتح" أحد قادتها –أبو إياد- بطرح فكرة فلسطين الغد، وتم الإعلان لأول مرة عن الفكرة في مؤتمر صحفي عقده أو إياد يوم العاشر من أكتوبر1968، أعلن فيه أن الهدف الاستراتيجي للثورة الفلسطينية هو دعم إنشاء دولة ديمقراطية على امتداد فلسطين التاريخية، يعيش فيها العرب واليهود في وفاق دون أي تمييز عنصري.
وبهذا حددت "فتح" هدفا فلسطينيا خالصا للنضال متجاوزا الغموض والالتباس السابقين، وقد أعادت تأكيد هذا الهدف بصورة أكثر جلاء وتحديدا في بداية عام 1969 معلنة: (نحن نقاتل في سبيل إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية يعيش فيها الفلسطينيون بكل طوائفهم مسلمين ومسيحيين ويهود في مجتمع ديمقراطي تقدمي، ويمارسون عباداتهم وأعمالهم مثلما يتمتعون بحقوق متساوية (وتأكيدا من فتح على إنسانية الهدف استطرد نفس البيان قائلا): إن ثورتنا الفلسطينية لتفتح قلبها وفكرها لكل بني الإنسان الذين يريدون أن يعيشوا في المجتمع الفلسطيني الحر الديمقراطي وأن يناضلوا في سبيله بصرف النظر عن اللون أو الدين أو العرق.
وقد أشارت كافة التصريحات الصادرة عن "فتح" بخصوص الدولة الديمقراطية على أن المكون الأساس لمفهوم دولة فلسطين الديمقراطية، هو تأكيد الطابع الإنساني للثورة الفلسطينية، وإبطال دعاوي الحركة الصهيونية التي تسعى لوضع كل اليهود في سلة واحدة وبالتالي اعتبار أن المصلحة اليهودية في احتلال فلسطين واحدة، ولا حل للمسألة اليهودية إلا بفلسطين اليهودية الصافية التي تمتد من النيل إلى الفرات لتتمكن من استيعاب أكبر عدد من يهود العالم، كما سعت "فتح" إلى تحطيم الفكرة الخاطئة عن هدف الثورة الفلسطينية بأنها ضد اليهودي بغض النظر عن معتقداته أو أفكاره، ووضحت "فتح" أنها ضد الصهيونية كأفكار عنصرية شوفينية، وليست ضد اليهودية كدين، كما أكد أبو إياد في مقابلة له مع مجلة الطليعة المصرية، بأن الثورة الفلسطينية تستنكر اضطهاد الإنسان، والتمييز العرقي والديني، وأبدى استعداد "فتح" لتقديم العون إلى اليهود وتزويدهم بالسلاح والقتال إلى جانبهم ضد مضطهديهم.
يبدو أن فكرة التعايش بين اليهود والعرب في دولة واحدة لم تستوعب جيدا من أطراف فلسطينية وعرفية عددية إلا بعد مرور بعض الوقت، ذلك أن الإحساس العام الفلسطيني والعربي بقي مشبعا بصور القهر والاضطهاد والوحشية التي أنزلها الإسرائيليون بالعرب فذكرى دير ياسين وكفر قاسم ومآسي حربي 1956 و 1967 وفقدان الأرض والوطن ومعاناة التهجير الخ استمرت عالقة بالأذهان ، بل إن كل يوم جديد يمر يأتي معه بمزيد من الألم النفسي الدافع للحقد على الإسرائيليين والرافض لأي فكرة للتعايش معهم، وغالبا فإن المواطن العادي لا يعنيه كثيرا أو يحفل بأن يدقق في هوية الإسرائيلي صهيوني هو أم لا، فمن يقيم على أرض فلسطين ويشرد أصحابها ليحل محلهم هو مستعمر صهيوني بغض النظر عن معتقداته الفكرية والأيديولوجية، لأن هويته الاستعمارية وصهيونيته العملية تكمن في تواجده في فلسطين مختارا، وبناء على هذا، من الصعب إزالة تراكمات سنين طويلة من العداء والتوتر بمجرد رفع شعار إنساني حضاري، وخصوصا أن هذا الموقف الإنساني الفلسطيني لم يعره الطرف الآخر كبير اهتمام أو يتجاوب مع دوافعه الإنسانية بمواقف إنسانية متشابهة.
لا ريب أن طرح شعار الدولة الديمقراطية العلمانية وإن كان يعبر عن مواقف إنسانية وحل حضاري إلا أن تحويله إلى واقع كان بحاجة إلى تغيير جذري في المواقف والعقليات وإلى حدوث مصالحة تاريخية ودينية، وهو الأمر الذي وضحه ياسر عرفات في كلمته المشهورة في الامم المتحدة عام 1974، فبعد أن أكد على المكون الإنساني لهدف الثورة الفلسطينية بإقامة دولة ديمقراطية قال :"إننا ندين كل الجرائم التي ارتكبت ضد اليهود وكل أنواع التمييز الصريح والمقنع الذي عانى منه معتنقوا اليهودية"، ولكنه أوضح في نفس الوقت الصعوبات التي تواجه تحقيق هذا الهدف الذي يبقى كحلم بعيد المنال، حيث استطرد قائلا "فلماذا لا أحلم يا سيدي الرئيس، وآمل والثورة هي صناعة تحقيق الأحلام والآمال فلنعمل معا على تحقيق الحلم في أن أعود مع شعبي من منفاي لأعيش مع هذا المناضل اليهودي ورفاقه، ومع هذا المناضل الراهب المسيحي وإخوانه، في ظل دولة واحدة ديمقراطية يعيش فيها المسيحي والمسلم في كنف المساواة والعدل والإخاء".
بعد جدل واسع داخل صفوف الثورة الفلسطينية استطاعت "فتح" وبدعم من القوى الفلسطينية، ان تدمج شعار فلسطين الديمقراطية ضمن قرارات المجالس الوطنية الفلسطينية ويصبح بالتالي هدفا استراتيجيا للثورة الفلسطينية ، ولكنه إلى حين.

المطلب الثاني
فلسطين الديمقراطية في مقررات المجالس الوطنية الفلسطينية
من المعلوم أن الميثاق الوطني الفلسطيني اهتم بتحديد طبيعة الصراع وأطرافه وباستراتيجية حل الصراع أكثر من اهتمامه بمستقبل فلسطين المحررة سواء فيما يتعلق بطبيعة نظام الحكم أو علاقة فلسطين ببقية الدول العربية، إلا أن بعض مواده تطرقت إلى اليهود الفلسطينيين وأعطت لهؤلاء الحق بالعيش في فلسطين المحررة، فالمادة الخامسة حددت أولا الفلسطينيين بشكل عام بأنهم "المواطنون العرب الذين كانوا يقيمون إقامة عادية في فلسطين حتى عام 1947 سواء من أخرج منها أو بقي فيها، وكل من ولد لأب عربي فلسطيني، ثم عرفت المادة الموالية اليهود الفلسطينيين انطلاقا من التعريف العام للفلسطينيين بالقول: "اليهود الذين كانوا يقيمون إقامة عادية في فلسطين حتى بدء الغزو الصهيوني لها يعتبرون فلسطينيين".
ونظرا لما اعتبر نقصا أو غموضا في نصوص الميثاق فيما يتعلق بفلسطين المحررة وضح المجلس الوطني في دورته الرابعة –يونيو-1968 بأن هدف النضال الفلسطيني هو:
1.تحرير الأرض الفلسطينية بكاملها وممارسة سيادة الشعب العربي الفلسطيني عليها.
2.حق الشعب الفلسطيني العربي في أن يقيم لنفسه على أرضه المجتمع الذي يرتضيه وأن يقرر موقفه الطبيعي من الوحدة العربية.

مع أن فكرة الدولة الفلسطينية الديمقراطية بعد التحرير ظهرت عام 1968، إلا أنه لم يتم تبنيها رسميا إلا في الدولة الثامنة للمجلس الوطني الفلسطيني في مارس 1971 ذلك أن عام 1968 كان عام انتصارات ومد ثوري بالنسبة للثورة الفلسطينية الأمر الذي كان لا يعطي أي مبرر لشعار فلسطين الديمقراطية والذي اعتبر بمثابة تنازل عن مبادئ الثورة، كما أن شدة الصدام مع العدو كان يجعل أية فكرة للتعايش مع اليهود تجد رفضا لدى قطاع واسع من الفلسطينيين والعرب.

وهكذا بدأت القوى التي تتبنى هدف فلسطين الديمقراطية تعزز مواقعها داخل المجلس الوطني الفلسطيني وتؤثر على قراراته باتجه الاقتراب من تبني الشعار المشار إليه رسميا، ففي الدورة الخامسة للمجلس حدد هدف النضال الفلسطيني بأنه "إقامة المجتمع الديمقراطي الحر في فلسطين بجميع الفلسطينيين، مسلمين مسيحيين ويهود"، وفي الدورة السادسة للمجلس قدمت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين مذكرة للمجلس حددت فيها أن هدف النضال الفلسطيني "إقامة دولة فلسطين الموحدة بعد إزالة الكيان الإسرائيلي وتقضي على التمييز العرقي والعنصري، وتعتمد على حل ديمقراطي للتناحر القائم يستند إلى تعايش الشعبين العربي واليهودي" وفي تقرير اللجنة السياسية والإعلامية للدورة السادسة للمجلس الوطني في القاهرة 1969 ورد بند حول الدولة الديمقراطية، إلا أنه لم يقر من قبل اللجنة الخاصة التي كلفت بدراسته، إلا أن البيان الختامي لهذه الدولة، أكد على إصرار الشعب الفلسطيني على "المضي في ثورته إلى أن يتم تحقيق النصر وإقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية البعيدة عن كل أشكال التمييز الديني العنصري".

بسبب اشتداد الأزمة في الأردن وحاجة الثورة الفلسطينية لتكتل كل قواها وعدم إثارة أي طرف فلسطيني أو عربي، أرجأت منظمة التحرير مسألة تبني هدف الدولة الديمقراطية بشكل رسمي، ومع أن البيان الصادر عن القيادة الموحدة لحركة المقاومة في مايو 1970 وازن ما بين ديمقراطية المجتمع الفلسطيني بعد التحرير وإيمان الفلسطينيين بالوحدة العربية، إلا أنه حذر بان المجتمع الصهيوني متعصب ومتشنج ومن الصعب أن تخرج منه قوى تقدمية يمكنها أن تحدث تغييرا في مواقفه، هذا يعني التأكيد على أن هدف الثورة الفلسطينية هو تصفية الكيان الصهيوني سياسيا وعسكريا واجتماعيا ونقابيا وثقافيا.
مع تفجر الصراع ما بين الثورة والنظام الأردني بعد سنوات من المحاولات الفاشلة لخلق نوع من التعايش بين الطرفين وهو صراع كان حتميا نظرا للتناقض الحاد بين الطرفين فكرا وممارسة، بدأت الثورة تشعر أن مواقعها التي بنت عليها مجمل استراتيجيتها معرضة للانهيار والتصفية، وأن التحرير أبعد مما كانت تتصوره، هذا الأمر دفع بالإضافة إلى عوامل أخرى طرح فلسطين الديمقراطية وإلى البحث عن دعم الراي العام الدولي وعن أنصار للنضال الفلسطيني داخل صفوف الإسرائيليين، بعد أن ثبت أن بعض الأشقاء العرب أكثر قسوة من الإسرائيليين، وإن كان من ضمن أسباب تردد الثورة الفلسطينية في تبني هدف فلسطين الديمقراطية أخذها بعين الاعتبار رفض التيارات المحسوبة على الأنظمة العربية لهذا الهدف، فإن سلبية الواقع العربي تجاه المجزرة التي حلت بالفلسطينيين في الأردن لم يترك مبررا لمراعاة مواقف الآخرين، فالثورة انطلاقا من تقييمها الخاص للمرحلة التي تمر بها ولمصالحها، تبنت بثبات هدف فلسطين الديمقراطية ضاربة بعرض الحائط كل الاعتراضات التي انصبت على هذا الهدف الشعار.
بخروج حركة المقاومة الفلسطينية من الأردن لم يبق مبرر للاستمرار في سياسة الغموض والتردد التي وسمت فكر الثورة قبل ذلك، وأصبحت الثورة مطالبة بتوضيح مواقفها واستراتيجيتها تجاه عدد من القضايا الحيوية ومن بينها شعار الدولة الفلسطينية الديمقراطية، وكانت الدورة الثامنة للمجلس الوطني فرصة لوضع النقاط على الحروف بالنسبة لعدد من المسائل، وكان من أهمها تبني شعار فلسطين الديمقراطية بصورة رسمية، فتحت عنوان مستقل (الدولة الديمقراطية الفلسطينية) أكد المجلس الوطني بأن الكفاح الفلسطيني ليس كفاحا عرقيا مذهبيا ضد اليهود ولهذا "فإن دولة المستقبل في فلسطين المحررة من الاستعمار الصهيوني هي الدولة الفلسطينية الديمقراطية التي تمتع الراغبون في العيش بسلام فيها بنفس الحقوق والواجبات ضمن إطار مطامح الأمة العربية في التحرير القومي والوحدة الشاملة". وقد اعتبر أبو عمار تبني الدورة الثامنة للمجلس الوطني الفلسطيني لهدف فلسطين الديمقراطية بأنه حدث حضاري، إلا أن هذا لم يحسم الأمر بين التيارات المتعددة في الساحة الفلسطينية حيث كان هناك أعداء ومعارضون لهذا الشعار، كما تباينت الصورة حول مضمون الدولة الديمقراطية بعد التحرير وعلاقتها العربية وأيديولوجيتها الفكرية.


المطلب الثالث
شكل ومضمون فلسطين الديمقراطية
ولأن حركة فتح هي التي طرحت لأول مرة هدف فلسطين الديمقراطية كان عليها أن توضح مفهومها للدولة المنشودة وأن تجيب على العديد من التساؤلات والاستفسارات التي أثارها هذا الهدف الجديد في مقالات ثلاث نشرتها مجلة فتح نصف الشهرية في مطلع عام 1970 حاولت أن توضح مفهومها لفلسطين الديمقراطية إلا انها في نفس الوقت أشارت إلى الصعوبات التي تكتنف هذا التحديد، والمجازفة التي تصاحب إعطاء تعريف واضح ومحدد في هذا الوقت لفلسطين الجديدة والمحررة وهي بهذا تقر بالصعوبات التي تكتنف الوصول إلى هذا الهدف في ظل الواقع الصهيوني لدولة العدو، فقبول الصهاينة بالتعايش مع الفلسطينيين في دولة واحدة هو أمر يبقى غير معول عليه وفي عالم الغيب، ذلك أنه خلال سنوات الكفاح المسلح للوصول لهذا الهدف "هل سيزداد موقف اليهود الفلسطيني تصلبا أم أنه سيصبح أكثر مرونة وتقبلا للتغيير؟".
وحتى لا تثير حركة فتح الأنظمة والحركات القومية والثورية العربية، وحتى لا يعتبر موقفها الجديد توددا لليهود وللغرب، رسمت فتح معالم فلسطين الغد التي سيتم تحريرها وإقامة المجتمع الديمقراطي فيها، فهي فلسطين المعروفة خلال الانتداب البريطاني، وهي لن تكون جزيرة منعزلة في بحر العالم العربية، بل أنها ستؤلف جزاء من العالم العربي وستتوحد في نهاية المطاف مع غيرها من البلاد العربية، كما أنها ستناهض الإمبريالية في المنطقة وستنضم إلى صفوف البلدان الثورية التقدمية، كما نفت فتح بشدة أن تكون الدولة المنشودة بديل عن تحرير كامل التراب الفلسطيني، فهي ستقام على كل فلسطين وهي بهذا ليست الضفة الغربية أو قطاع غزة المحتلتين أو الاثنين معا، ذلك أن فلسطين المحتلة سنة 1948 لا تقل أهمية عن الأجزاء المحتلة سنة 1967، كما أن فتح ترفض أي تفسير يمكن الاستشفاف منه القبول بدولة فلسطينية بجانب دولة الصهاينة وذلك "أن كل ترتيب يؤدي إلى تكييف مع دولة المستوطنين المعتدية هو ترتيب غير مقبول ومؤقت".
وبالنسبة لحق المواطنة في الدولة الديمقراطية، حددت فتح بوضوح "ان جميع اليهود والمسلمين والمسيحيين من المقيمين في فلسطين أو المشردين عنها بالقوة سوف يكون لهم الحق بالمواطنة الفلسطينية"، وهذا التحديد كما هو واضح يعطي الحق لجميع الفلسطينيين المغتربين بالعودة إلى فلسطين كمواطنين كاملي المواطنة، كما أنه يعطي هذا الحق لجميع الإسرائيليين المقيمين حاليا في فلسطين، أو يكونوا مقيمين عند التحرير، وهم أغلبية سكان فلسطين إلا أنه يشترط فيهم التخلي عن العقيدة الصهيونية الشوفينية وقد أكد أبو إياد أن المواطنة الفلسطينية" لن تكون وقفا على اليهود التقدميين والمعاديين للصهيونية فحسب، بل سوف تشمل الصهيونيين الحاليين من الذين يعربون عن استعدادهم للتخلي عن أيديولوجيتهم العنصرية. "هذا التفاؤل المبالغ فيه يدخل ضمن مراهنة الثورة الفلسطينية وتحديدا فتح على أن الكثير من اليهود الإسرائيليين سوف يغيرون مواقفهم ويؤيدون فلسطين الجديدة في نهاية المطاف.
وتوافقا مع فكر فتح وتصورها الايديولوجي ، فقد تجنبت تحديد نظام الحكم وأيديولوجية المجتمع الفلسطيني في فلسطين الديمقراطية، ذلك أن الفلسطينيين أثناء مسيرة التحرير وبعد إنجاز النصر "سوف يقررون نظام الحكم وطبيعة التنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي في وطنهم المحرر"، إلا أنها أوضحت بأن فلسطيني الديمقراطية والتقدمية لن تكن تيوقراطية أو إقطاعية أو ارستقراطية، كما أنها ستنبذ العنصرية والشوفنية، والاضطهاد أي كان نوعه، وتعتقد فتح بأن عملية التحرير هي التي ستفرز من تلقائها المناخ المطلوب لنظام حكمها المستقبلي "أن حرب التحرير الشعبية تولد القيم والمواقف الجديدة".
إلى جانب "فتح" حظي شعار فلسطين الديمقراطية كما أسلفنا بتأييد منظمات فلسطينية متعددة، أهمها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية، كما تعرض لانتقادات خصوصا من قبل المنظمات القومية في الساحة الفلسطينية بالنسبة للقوى المؤيدة ترى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أن الدولة الفلسطينية الديمقراطية بعد التحرير تعني حرية العيش للمواطنين فيها بغض النظر عن الدين أو العرق، وهذا شيء محتم، لأن كل يهودي يعيش في فلسطين مع وصول المعركة إلى نهايتها له حقوقه المتساوية والكاملة مع بقية سكان فلسطين من الأديان الأخرى، إلا أن الجبهة الشعبية في نفس الوقت تؤكد على ضرورة أن يأخذ شعار فلسطين كجزء من الوطن العربية ووحدته وحياته الاشتراكية مداه، وحذرت من إظهار فلسطين الديمقراطية وكأنها انتزاع لفلسطين من الوطن العربي، أو بناء كيان خاص ومنفصل ومزدوج القومية دون هوية عربية وذلك باسم الديمقراطية.
وتولى الجبهة الشعبية اهتماما بالمكون الإنساني لشعار فلسطين الديمقراطية حيث ترى أن مضمون هذا الشعار وترجمته العملية هي في توفير حل ديمقراطي للمسألة اليهودية في فلسطين" وهذا يؤكد إنسانية ولا عنصرية حركة التحرر الفلسطينية، فهي غير معادية لليهود كيهود، ولا تستهدف إبادتهم أو رميهم في البحر كما الدعاية الصهيونية، وإنما هدفها تحرير فلسطين من الصهيونية وإقامة مجتمع تقدمي ديمقراطي يوفر التحرر الاقتصادي والاجتماعي الكامل لكافة مواطنيه وهو بهذا يكون قد قدم الحل العلمي والحل الإنساني الديمقراطي التقدمي للمشكلة اليهودية".
كما أكدت الجبهة الشعبية على المضمون الأيديولوجي لفلسطين الغد التي ستحكمها المبادئ الماركسية الينينية التي لا خيار عنها في مرحلة التحرير والنضال وفي مرحلة ما بعد التحرير، "فلسطين المحررة ستكون جزءا من مجتمع عربي ثوري جديد... إن المجتمع العربي الجديد الديمقراطي الاشتراكي سيكون قادرا بالاستناد إلى مبادئ الماركسية الينينية على توفير الحل لكل مشكلات الفقر والتخلف والاضطهاد والاستغلال التي يعاني منها إنسان هذا الوطن... وأن اليهود في فلسطين بعد التحرر سيمارسون شأنهم شأن غيرهم كافة حقوقهم الديمقراطية كمواطنين في مجتمع ديمقراطي اشتراكي".
ومن نفس المنطلق تبنت الجبهة الديمقراطية شعار فلسطين الديمقراطية، بل كانت أسبق من الجبهة الشعبية في ذلك، ولعبت دورا مهما من أجل تثبيت هذا الشعار في مقررات المجالس الوطنية الفلسطينية، فقبيل انعقاد الدورة السادسة للمجلس الوطني في القاهرة قدمت الجبهة مشروع قرار للمجلس تحت عنوان (حل ديمقراطي للقضية الفلسطينية) دعت فيه إلى إقامة دولة فلسطينية الموحدة بعد القضاء بالكفاح المسلح على الكيان الصهيوني، واعتبر المشروع أن هذه الدولة تمثل حلا ديمقراطيا للتناحر القائم (بين الشعبين العربي واليهودي) كما تطرق المشروع إلى إعطاء الحق لليهود والعرب بتطوير ثقافتهم القومية، والجبهة الديمقراطية بذلك اختلف طرحها عن طرح فتح الذي يجعل التعاون بين اليهود والعرب على أساس المواطنة دون الإقرار بأي حقوق قومية لليهود.
وفي يناير 1970، أعادت الجبهة الديمقراطية، تحديد مفهومها للحل الديمقراطي وأكدت على أن الحل الديمقراطي "يرفض كل الحلول الشوفينية سواء تعلق الأمر بالتوسع الإسرائيلي أو بذبح اليهود ورميهم في البحر، كما يرفض أيضا الحل الرجعي الذي قدمه قرار مجلس الأمن"، ويوضح نايف حواتمة طبيعة الحقوق المتساوية التي ستعطي لليهود والعرب حيث سيكون "لكل منهم حرية تطوير ثقافته القومية بروح ديمقراطية وتقدمية"، وانطلاقا من هذا التصور دعا نايف حواتمة إلى الحوار مع المنظمات الإسرائيلية المعادية للصهيونية كحزب راكاح-الحزب الشيوعي الإسرائيلي-وجماعة ما تزين.
اثار طرح الجبهة الديمقراطية للعلاقة بين مواطني فلسطين بعد التحرير والقائمة على الإقرار بوجود قومية يهودية كثيرا من اللغط والمعارضة داخل صفوف حركة المقاومة الفلسطينية، ذلك أن الإقرار بوجود قومية يهودية يعطي الحق لليهود للمطالبة بأن يكون لهم وطن مستقل ويتجاوز كون أن اليهودية هي دين وليست قومية كما تدعي الحركة الصهيونية، وكان أشد المعارضين لشعار فلسطين الديمقراطية في الساحة الفلسطينية، هم القومييون من منطلق أن فلسطين الديمقراطية وبالتعريفات التي أعطيت لها يتناقض مع عروبة فلسطين ومع القومية العربية والوحدة العربية.

فطلائع حرب التحرير الشعبية –الصاعقة- رأت أنه بالرغم من أن البحث في هذا الموضوع سابق لأوانه، إلا أنها تبدي تحفظها تجاه الدولة الفلسطينية الديمقراطية لأن "مثل هذه الدولة تتنافى مع الوحدة العربية التي تؤمن بها، فهي تسعى إلى إقامة دولة عربية واحدة لا حواجز فيها ولا حدود تفصل بين أقطارها، وكل حل للقضية الفلسطينية لا يتفق مع هذا المنطق يبقى حلا مرفوضا من الناحية الفكرية بالنسبة للطلائع"، وبينت الصاعقة أنها ليست ضد اليهود في فلسطين كشعب ولكنها ضد الصهيونية"، والحل الذي تراه مناسبا هو الحل الاشتراكي باعتباره الحل الإنساني الذي يكفل لليهود العيش بسلام وضمن حقوق متساوية مع العرب في إطار المجتمع العربي الاشتراكي.

أما موقف جبهة التحرير العربية فقد اتسم برفض صارم لشعار الدولة الفلسطينية الديمقراطية، وقام هذا الرفض على خلفية قومية وانطلاقا من تحليل موضوعي لطبيعة المجتمع الصهيونية، واستحالة نجاح أي مراهنة على نبذ اليهود لصهيونيتهم وهو الشرط اللازم للعيش في فلسطين المحررة معهم، وهي من منطلق رؤيتها للصهيونية كنفي لوجود الشعب الفلسطيني، ومن منطلق أن المجتمع الصهيوني القائم على الاغتصاب والعدوان هو مجتمع مضطهد وظالم بمجموعة، تؤكد استحالة العيش مع هذا المجتمع ، فالنقيضان لا يمكن أن تجمعهم أرضية مشتركة أو قيم واحدة.
ولم تنظر جبهة التحرير العربية نظرة جادة للمكون الإنساني وراء رفع هذا الشعار – ولكن أولت اهتماما بمشاريع التسوية المطروحة في الساحة العربية وربطت بين هذا الشعار وتلك المشاريع المشبوهة وخصوصا قرار مجلس الأمن رقم 242، باعتبار أن الحل الخارجي للقضية الفلسطينية من خلال هذا القرار بحاجة إلى حل داخلي و "فلسطين الديمقراطية" توفر هذا الحل الداخلي.
ورأت الجبهة أن فصائل المقاومة الفلسطيني التي رفعت هذا الشعار، خضعت لضغوطات خارجية، لتطرح "بديلا واقعيا" بدلا من " لا واقعية وخيالية" شعاراتها السابقة حول تحرير كامل التراب الفلسطيني، وفي هذا ترى الجبهة أن الإلحاح على طرح (البديل الواقعي) وكأن هدف تحرير فلسطين هدف غير واقعي، محاولة مشبوهة لاستباق الصيغ السلمية والصور المسبقة للمستقبل ودفع الثورة لتحديد مستقبلها وفق معطيات وإمكانيات لا تشكل شيئا بالنسبة للمعطيات والإمكانيات الهائلة التي ستوفرها استمرارية الثورة وديمومتها".
وتنهي جبهة التحرير العربية تحليلها الرافض لشعار الدولة الفلسطينية الديمقراطية بالقول أن هذا المشروع – الدولة الديمقراطية – يمثل احتياطيا للحركة الصهيونية تلجأ إليه فيما لو أعدمت الوسائل الكفيلة بوقف الكفاح المسلح والمقاومة العربية وهو لن يكون في أحسن الأحوال أكثر من تسوية تراعي فيها المصالح الاستعمارية والصهيونية، على حساب حركة الثورة العربية.
مع عدم تجاهلنا لأهمية العامل الإنساني في تبني هدف "فلسطين الديمقراطية" وعقلانية هذا العامل في إطار التعامل مع القضية دوليا، إلا أننا نعتقد وكما بينا أن الدافع الرئيسي وراء تبني هذا الشعار والهدف هو تلمس بعض العناصر القيادية في م.ت.ف وفي فتح تحديدا التي كان لها نصيب الأسد في ممارسة الكفاح المسلح وفي التعامل مع الأنظمة العربية والتصادم معها، تلمسهم الفجوة الكبيرة ما بين إمكانيات الثورة والشعب الفلسطيني من جهة وتحرير فلسطين عسكريا وإرجاع اليهود من حيث اتوا من جهة أخرى، كان تبني هذا الهدف الجديد بداية مسلسل التسوية، أو بداية التنازلات وهي إن كانت تنازلات مغلفة بالاعتبارات الإنسانية والدولية، ومصاحبة بضجيج شعارات الكفاح المسلح وحرب الشعب، إلا أن المراقب الحصيف لا يمكنه إلا أن يربط ما بين تبني هذا الشعار وأحداث الاردن وسلبية الموقف العربي من هذه الأحداث، حيث كانت مجازر أيلول 1970 أبلغ رسالة للثورة الفلسطينية بأن تعيد النظر فيمن تعتبرهم حلفاء وأن تعيد النظر بالمراهنة على الجماهير الشعبية العربية التي ستخوض حرب التحرير الشعبية!.
بالرغم من التنازل المتضمن في هدف فلسطين الديمقراطية، وبالرغم من كونه حلا حضاريا، فإنه لم يجد إلا كل رد ورفض من الكيان الصهيوني، الذي قام على عقيدة شعب الله المختار، وعمل ويعمل على إقامة دولة يهودية نقية خالصة، وكان لابد من التفكير في اتجاه جديد للتسوية يأخذ بعين الاعتبار ضرورة الفصل ما بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ولكن كيف يمكن الفصل بين شعبين يعيشان على ارض واحدة هذا لا يكون إلا بدولتين، والقول بدولتين يعني التنازل عن جزر من أرض فلسطين لتقوم عليها الدولة الصهيونية.
ولم يكن من اليسير تمرير هذا التنازل الجديد وأن يقبل به الفلسطينيين والجماهير العربية، إلا أن حرب أكتوبر 1973 هيئت المناخ هذا التنازل تحت شعار مرحلية النضال، والمزاوجة ما بين الهدف الاستراتيجي والهدف المرحلي، فكيف ذلك؟

المبحث الثاني
من الدولة الديمقراطية على كامل فلسطين إلى سلطة مرحلية

المطلب الأول
الأسباب الموضوعية والذاتية لسياسة المرحلية:
إذا كانت هزيمة العرب عام 1967 قد أعطت دفعة لاستراتيجية الكفاح المسلح ومنحت الثورة الفلسطينية الصاعدة الثقة بالنفس وباستراتيجيتها الكفاحية، فإن حرب أكتوبر 1973 عملت على إفقاد الثورة الفلسطينية شيئا من الثقة بقدرتها أو بقدرة النظام العربي الرسمي والشعبي على تحرير كامل فلسطين من خلال استراتيجية الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية، فحرب أكتوبر وبالرغم من الانتصار العسكري النسبي الذي حققته إلا أنها أثبتت عدم القدرة ليس فقط على القضاء على إسرائيل بل عدم القدرة على استعادة الأراضي العربية المحتلة عام 1967 عن طريق الحرب، ليس ذلك بسبب منعة إسرائيل وقوتها بل أيضا لاعتبارات دولية وطبيعة وعمق علاقة إسرائيل بالولايات المتحدة، ومحدودية الالتزام السوفييتي بدعم العرب في حربهم ضد إسرائيل.
وهكذا استبقت الثورة الفلسطينية ما كانت تعتقد أنه آت ويخطط له، وتحركت مباشرة وقبل أن تبرد فوهات البنادق على مستويين: الأول تجنب محاولات تهميشها ومحاصرتها محليا وعالميا وذلك بالعمل على تعزيز وجودها في لبنان وربط علاقات متينة مع الحركة الوطنية اللبنانية التي لم تكن علاقاتها طيبة مع سوريا، ومن جهة تليين مواقفها السياسية أو تغيير خطابها السياسي وذلك بإرسائل رسائل علنية وسرية تعبر عن استعدادها لإنصاف الحلول وذلك من خلال ما سمي بسياسة المراحل أو المرحلة التي أعلن عنها في البرنامج المرحلي عام 1974.
وجدت هذه السياسة استحسانا سواء من الأنظمة العربية التي سارعت لعقد قمة عربية اعتبرت فيه م.ت.ف ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني لتعيد بذلك الأنظمة صياغة العلاقة ما بين القومي والوطني وتقديم الثاني على الأول بالزعم أن الفلسطينيين هم الذين طلبوا أن تكون المنظمة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، هذه الخطوة مهدت الطريق أمام الأنظمة العربية لدخول سياسة التسوية السلمية دون حرج كما أن سياسة المرحلية لقيت مباركة دولية، حيث تم استقبال أبو عمار في الجمعية العامة للأمم المتحدة وقوبل استعداده للحل السلمي بالترحاب، وكانت عبارته (غصن الزيتون في يد والبندقية في يد) تختزل تحولا استراتيجيا في نهج الثورة الفلسطينية، واستعدادها لإعادة النظر في ثوابت سابقة، لو وجدت تجاوبا إسرائيليا أو أمريكيا آنذاك، لأنه لا يعقل أن أبو عمار ذهب إلى الأمم المتحدة لمطالبتها بالقضاء على إسرائيل.
ولكن هل تمكنت المنظمة من الجمع ما بين غصن الزيتون والبندقية؟ وهل تطور الأحداث عزز من طرح منظمة التحرير ومراهناتها، أم أن الرياح جاءت بما لا تشتهي السفن؟ .
اعتبرت الثورة الفلسطينية أن المرحلية كحلقة وسط في الطريق إلى تحقيق الهدف النهائي لا تتناقض مع استراتيجية الثورة أية ثورة ما دامت لم تتخل عن هدفها النهائي، ذلك أن السياسة الواعية والثورية الملتزمة بقضايا شعبها مطلوب منها في كل مرحلة من المراحل أن تحدد الحلقة المركزية للنضال انطلاقا من تصورها لحجم مختلف أطراف الصراع في كل مرحلة ومدى نمو القوى الذاتية للثورة وقدرتها على تحقيق الهدف الاستراتيجي والاستفادة من كل التناقضات التي يفرزها تطور الصراع، كما أن تحديد هدف مرحلي للثورة يصبح ضروريا للإجابة عن التساؤلات المطروحة في كل مرحلة أو جولة من جولات الصراع، ذلك أن الهدف النهائي مع مشروعيته وضرورة التشبث به فقد لا يمكن الوصول إليه دفعة واحدة، وقد وعت كل الثورات العالمية جدوى المرحلية في النضال والدخول في مساومات تفرضها متطلبات المرحلة دون أن يغيب عن الأنظار الهدف الاستراتيجي فالرسول الكريم لم يجد غضاضة في توقيع معاهدات صلح والقبول بالمرحلية عندما كان المسلمون ضعفاء، وعندما تقوى المسلمون ونكث الأعداء بالمواثيق عاد المسلمون للثوابت وللأهداف الاستراتيجية، أيضا القوى الثورية التي تعتبر صراعها مع العدو صراعا مصيريا وحالة من التناقض الذي لا حل له إلا بنهاية أحد طرفي الصراع قبلت المرحلة ، فقد انتقد لينين نفسه ما روج من قبل بأن المساومة مرفوضة ماركسيا، واعتبر هذا القول تافها ينبع عن ضيق الأفق ولا ينطبق على الواقع. ومن المعلوم أن الثورة الفيتنامية دخلت في مساومات، وقبلت بمرحلة أهدافها إلا أنها لم تتخل عن أهدافها الاستراتيجية، ذلك أن المساومة والقبول مرحليا بأهداف أقل تواضعا عن الهدف الاستراتيجي قد لا يعبر بالضرورة عن ضعف الثورة بل عن ضعف الخصم، ويصبح على الثورة آنذاك أن تستغل هذه المرحلة لتعبئة قواها وتعزيز مواقفها استعدادا للمرحلة القادمة.
بالرغم من أن الحديث عن مرحلة أهداف النضال الفلسطيني، فرض نفسه بصورة جدية إثر حرب أكتوبر وما تمخض عنها من تطورات عسكرية وسياسية ونفسية كما سبقت الإشارة فإن المكون الفلسطيني في نهج المرحلية النضالية كان حاضر قبل 1973، والمتمثل بالإحساس بالبون الشاسع ما بين الإمكانيات الفلسطينية وبين الأهداف الاستراتيجية للثورة الفلسطينية، وهذا الإحساس بالفرق ما بين الهدف والإمكانيات كان وراء قول عبد الناصر لياسر عرفات "كم تظن أنه يلزمكم من السنين كي تدمروا الدولة الصهيونية، وتبنوا دولة موحدة ديمقراطية على كامل فلسطين المحررة؟ كما أخذ عبد الناصر على المقاومة الفلسطينية ممارسة سياسية غير واقعية واعتبر أن دويلة في الضفة وغزة هي أفضل من لا شيء.
ويبدو أن فكرة القبول بإقامة دولة فلسطينية على جزء من فلسطين كانت تمثل قناعة لدى بعض الفلسطينيين حتى قبل حرب أكتوبر 1973، وما حرب أكتوبر إلا الفرصة التي اهتبلت لتظهر هذه القناعة، فالمكون العربي في القبول بالمرحلية كان الحافز للمكون الفلسطيني ليعبر عن نفسه مكرها للحفاظ على الهوية، فقد انتقد أبو إياد، قادة الحركة الوطنية السابقين لعدم قبولهم بإقامة دولة فلسطينية كما نص على ذلك قرار التقسيم لعام 1947م، معتبرا أن الرفض العربي السابق للحلول الوسط نوع من السلبية والمزايدة وأن الرفض قد يكون طريقة للهروب من المشاكل والتزيي بزي النقاء العقائدي، كما يعترف أن فاروق قدومي قدم للجنة المركزية لحركة فتح بعد حرب يونيو 1967 مباشرة تقريرا يقترح فيه القبول بتأييد قيام دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة إذا أعادتهما إسرائيل للعرب، إلا أنه لم يبث في الموضوع آنذاك.
دافع أبو إياد عن المرحلية باعتبارها سياسة واقعية تنطلق من الأخذ بعين الاعتبار موازين القوى، وتطور الأحداث والابتعاد عن الرومانسية وإن كانت رومانسية ثورية، ويعطي أبو إياد أهمية لمحدودية العمل الفدائي، ومقدرته على تحقيق الأهداف الاستراتيجية، ورأى أنه كائنا ما كانت انطلاقة وبأس حرب العصابات ضد الدولة الصهيونية، فإنها تظل في المستقبل المنظهور دولة لا تقهر، ولهذا فإن عدم توقع المرور بمراحل مؤدية إلى الهدف الاستراتيجي الذي هو إقامة دولة ديمقراطية على كامل فلسطين أمر من قبيل الوهم والخيال، وفي نفس سياق تبرير أبو غياد للمرحلية ودفاعه عنها، فإنه يرى أن إقامة سلطة وطنية فلسطينية تشكل ضربة قاسمة للأيديولوجية الصهيونية القائمة على رفض وجود الشعب الفلسطيني، لأن الإقرار بهذه السلطة الوطنية الفلسطينية معناه الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني، لأن الإقرار بهذه السلطة الوطنية الفلسطينية معناه الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني، ووجود شعب فلسطيني يشكك في مصداقية مجمل الأيديولوجية الصهيونية، بالإضافة إلى هذا فإن امتلاك الفلسطينيين لأية بقعة محررة سيتيح لهم مجالات ومتنفسا لتنشق نسمة الحرية والابتعاد عن أدوات القمع والوصاية العربية، ذلك أن خطورة العيش في الغربة والشتات على الشعب الفلسطيني لا تقل خطورة عن فقدان الأرض، ويعبر أبو إياد عن دهشته لرفض أطراف فلسطينية لمرحلية النضال، ففي خطاب وجهه لسكان مخيم تل الزعتر في لبنان، عندما كانت قضية السلطة المرحلية موضع بحث، وكان سكان المخيم يرفضونها قال "منذ خمسة وعشرين سنة وأنتم تعيشون في المنفى، إنها خمسة وعشرون سنة من الإحباطات والمذلات والحرمان، ولكنكم توصلون رفضكم لكل حل بالتسوية حتى ولو كان مؤقتا، أليس أنه من العجيب الخارق أنكم تفضلون العيش في أرض غريبة على الإقامة في منطقة محررة من وطنكم الأصلي؟".
وانطلاقا من نفس المكون الفلسطيني وراء القبول بالمرحلية، والتمثل بغياب الانتصار في معركة التحرير الكامل على المدى المنظور، كانت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين سباقة في استشعار هذا الخلل الكامن بين الإمكانيات والهدف الاستراتيجي، فمنذ 1971 طالبت الجبهة الديمقراطية بأسلوب غير مباشر بضرورة المرور بالمرحلية وتحديد موقف فلسطيني يملأ الفراغ الكامن بين الإمكانيات والهدف وتجيب عن متطلبات المرحلة وتفوت الفرصة على قوى عربية تطمح للحلول مطلب الدور الفلسطيني، حيث رأت الجبهة الديمقراطية بأن شعار التحرير الكامل لفلسطين "بات مهددا بالتحول إلى مجرد موقف لفظي طالما بقيت الثغرة الإستراتيجية في تصور المقاومة لحربها الوطنية بمثل هذا الاتساع، فبين شعار التحرير الكامل ومعطيات الوضع الراهن للنضال الفلسطيني مرحلة وسيطة ترد الأنظمة العربية عليها بمطلب إزالة آثار العدوان على قاعدة الحل السلمي بينما تقفز المقاومة عليها بكلام يتحدث عن متابعة النضال حتى النهاية ورفض كل الحلول التصفوية والتسويات".
كانت فترة ما بعد أكتوبر 1973 هي مرحلة إعطاء الأولويات للعمل السياسي على حساب العمل العسكري وأصبح الحديث عن انسحاب إسرائيلي من الأراضي العربية محتلة هو حديث الساعة ومحور النقاش السياسي والاتصالات الدبلوماسية، إلا أنه من المفيد أن نشير أن جل الحديث عن الحل السلمي والانسحاب الإسرائيلي كان مصدره الدول الاوروبية أو قرارات الأمم المتحدة أو الدول العربية أما إسرائيل فكانت السلبية المطلقة هي التي تحكم مواقفها ومع ذلك فإن مسألة الانسحاب أصبحت مطروحة والمراهنة على الضغط على الولايات المتحدة لتجبر إسرائيل على الإنسحاب كان قاعدة أي تفاؤل بالتسوية، وكان المطلوب من الثورة الفلسطينية أن تعبر عن موقفها من هذا الموضوع، ذلك أن أي انسحاب إسرائيلي من الأراضي المحتلة سيضع هذه الأرض أمام خيارات ثلاثة:
الأول: أن تعود الأرض المسترجعة إلى طرف عربي ويضمها إليه وخصوصا أن الأردن لم يكن يخفي مطامعه في ذلك بل كان يعتبر الضفة الغربية جزءا من المملكة الأردنية.
الثاني: أن يتقدم طرف فلسطيني من خارج م.ت.ف لينصب نفسه ناطقا باسم الشعب الفلسطيني أو تنصبه إسرائيل او أحد الدول العربية، وهذا أيضا مرفوض فلسطينيا.
الثالث: أن تتقدم الثورة الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني لتقيم سلطتها على أية ارض يتم تحريرها.

فضلت م.ت.ف الخيار الثالث باعتباره يرد على متطلبات المرحلة، ويقطع الطريق على المتربصين بالثورة الفلسطينية والطامعين في سلب شرعية تمثيلها للشعب الفلسطيني حيث أكد أبو عمار "إن قيام السلطة الوطنية لشعبنا فوق أرضه أمر حتمي وأن يفرض على شعبنا مهما كانت التحديات مشروع المملكة المتحدة تحت حكم أو وصاية أو فيدرالية أو كونفدرالية مع النظام الهاشمي، سوف تقوم السلطة الوطنية فورا فوق كل شبر فلسطيني يتم جلاء العدو عنه باتجاه تحرير بقية الأرض الفلسطينية.


المطلب الثاني
السلطة الوطنية المرحلية: المؤيدين والمعارضون:
ولأن الثورة الفلسطينية لم تكن تملك قوة الرفض الفاعل فإن "هذا يفترض بالضرورة أن نطرح موقفا ملموسا وطنيا وثوريا كفيلا بإحباط كافة الحلول الإستسلامية التصفوية" وفي نفس الوقت الإجابة على متطلبات المرحلة الذي يتحدد بــ "اننا نناضل من أجل دحر الاحتلال الصهيوني وتصفيته عن الأراضي العربية والفلسطينية المحتلة عام 1967، وفي الوقت ذاته تمكين شعبنا الفلسطيني في جميع الأراضي التي يتم تحريرها وانسحاب العدو منها ومن تقرير مصيره بنفسه على هذه الاراضي وإقامة سلطته الوطنية الفلسطينية المستقلة عليها".
وفي هذا السياق انتقدت الجبهة الديمقراطية الذين يطرحون شعارات لا تتناسب مع واقع المرحلة والإمكانيات الذاتية والذين يسترون عجزهم وراء شعار التحرير الكامل ولا يقبلون بمرحلية النضال، ذلك أن مهمة التحرير مهمة عربية ولا تقتصر على الشعب الفلسطيني وحده، وفي ظل عدم القدرة العربية على التحرير أو غياب الإرادة، يجب أن لا يختزل النضال الفلسطيني بحيث يصبح فقط "عامل تثوير وتأجيج لنضال الجماهير العربية" أو يفرض على الثورة الفلسطينية والشعب الفلسطيني الانتظار حتى تتبدل موازين القوى، بل يتحتم أن يبرز الشرط الفلسطيني لتحقيق الانتصار والشرط الفلسطيني في ظل الظروف الحالية كما ترى الديمقراطية يتحدد بـ "تعبئة كامل الطاقات الثورية للشعب الفلسطيني بتوفير قاعدة ارتكاز ثابتة ومحررة في المناطق التي تقيم فيها غالبية الشعب على أرض وطنه".
انطلاقا من كل هذه المستجدات وعلى قاعدة هذه المكونات/ المتغيرات الفلسطينية والعربية والدولية، انعقد المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الثانية عشر في يونيو 1974، لينظر في الموضوع وليحدد موقفا يجيب على التساؤلات المطروحة.
نظرا لأن صيغة التسوية المطروحة دوليا آنذاك وهي قرار مجلس الأمم 242، كانت مرفوضة فلسطينيا وحتى لا يلتبس الامر ويقرن الإقرار بالمرحلية بقرار 242 المرفوض لكونه يتعامل مع القضية الفلسطينية كقضية لاجئين، فقد جاء قرار المجلس الوطني الفلسطيني بالقبول بالهدف المرحلي مقترنا بتأكيد رفض قرار 242 مع توضيح اسباب هذا الرفض حيث جاء في قرارات المجلس الوطني المذكور:
1.تأكيد موقف منظمة التحرير السابق من قرار 242 الذي يطمس الحقوق الوطنية والقومية لشعبنا ويتعامل مع قضية شعبنا كمشكلة لاجئين، ولذا يرفض المجلس التعامل مع هذا القرار على هذا الأساس في أي مستوى من مستويات التعامل العربية والدولية بما في ذلك مؤتمر جنيف.
2.تناضل م.ت.ف بكافة الوسائل وعلى رأسها الكفاح المسلح لتحرير الأرض الفلسطينية وإقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها، هذا يستدعي إحداث المزيد من التغيير في ميزان القوى لصالح شعبنا ونضاله.
3.تناضل منظمة التحرير ضد أي مشروع كيان فلسطيني ثمنه الاعتراف والصلح والحدود الآمنة والتنازل عن الحق الوطني وحرمان شعبنا من حقوقه في العودة وحقه في تقرير مصيره فوق ترابه الوطني.
4.إن أية خطوة تحريرية تتم هي لمتابعة تحقيق استراتيجية م.ت.ف في إقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية المنصوص عليها في قرارات المجالس الوطنية السابقة.

يلاحظ أن قرارات المجلس الوطني أعلاه، شددت على إضفاء صفات ثورية على السلطة الوطنية التي ستقام، من منطلق أنها ستأتي تتويجا للنضال بكافة الوسائل وعلى رأسها الكفاح المسلح، أي أنها لن تكون منحة من أحد، بالرغم من أن حرب أكتوبر لم تحرر أرضا ليقام عليها سلطة وطنية بل أنها مهدت الطريق لتسوية سياسية والثورة الفلسطينية لم تكن في وضع يسمح لها بتحرير الأرض بل إن العدو أصبح يتحرك بيسر خارج فلسطين ليغتال القيادات ويدمر المؤسسات الفلسطينية، أيا فإن نفس المادة لا تتحدث عن دولة بل عن (سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة)، كما أنها لا تحدد حدودا واضحة لهذه الدولة (السلطة) فهي ستقام "على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها، وهذه السلطة أيضا لن تقام حالا بل تتطلب "إحداث المزيد من التغيير في ميزان القوى لصالح شعبنا ونضاله"، ويرفض المجلس الوطني أن تكون السلطة الوطنية نتيجة تسوية أو قبول بالأمر الواقع، فهي لن تكن نتيجة تفاوض مع العدو أو الصلح معه أو الاعتراف به، وأخيرا فإن هذه السلطة المقاتلة هي مرتكزة للاستمرار في النضال من أجل إقامة الدولة الديمقراطية العلمانية.
ويبدو أن تشدد المجلس الوطني الفلسطيني في تحديد مواصفات الهدف المرحلي، كان متأثرا بحدة المعارضة التي كانت تواجه به سياسة المرحلية، وخصوصا من قبل التنظيمات التي شكلت لاحقا "جبهة الرفض" والمدعومة من أطراف عربية وخصوصا العراق الذي اعتبر القبول بالسلطة الوطنية كهدف مرحلية في ظل موازين القوى المتواجدة هي بمثابة القبول بالحل السلمي وتخليا عن أهداف التحرير الكامل، وقد تزعم معسكر الرفض الفلسطيني الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
انطلقت الجبهة الشعبية في رفضها لمشروع السلطة الوطنية من تحليل علمي لنتائج حرب أكتوبر وطبيعة القوى الفاعلة وتصوراتها للتسوية، فترى أن موضوع التسوية بعد أكتوبر ليس حتميا، وحتى لو كان هناك تسوية، تتسائل الجبهة ألا يمكن للعامل الذاتي المحلي الفلسطيني العربي أن يوقف قطار التسوية المتناقضة مع مصالح الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة؟ وهي ترى أن هذا ممكن والحل الثوري في ظل وجود تسوية هو محاربة وإجهاض هذا التسوية كما فندت الجبهة الشعبية الزعم الشائع بأن التسوية بعد حرب ا:توبر أصبحت على الأبواب، معتمدة في ذلك على التناقضات الواسعة بين وجهة النظر الإسرائيلية ووجهة النظر العربية حتى لو كانت متمثلة بوجهة نظر السادات، وترى أن هذا التناقض بين وجهتي النظر يشكل عقبة حقيقية في وجه التسوية، وتضيف إلى هذا وجود تباعد ما بين الصيغة السوفيتية للحل والصيغة الأمريكية وهي ترى أنه حتى في حال افتراض أن السوفييت اخضعوا وجهات النظر الأمريكية والإسرائيلية لتصوراتهم للحل، فما هو سقف الموقف السوفييتي؟
انتقدت الجبهة الشعبية سذاجة الذين يرون أن الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة مؤكد وقريب المنال بحيث أن المطروح أمام الثورة أحد خيارين: إما أن تترك هذه الأراضي ليحكمها الملك حسين وإما أن تقيم عليها الثورة سلطة وطنية! وترى لو أن الموضوع بهذه البساطة فإنه من الطبيعي اختيار الحل الثاني، إلا أن الجبهة الشعبية ترى أن الخطأ يكمن في القول بأن الحل السلمي سيتمخض عنه انسحاب إسرائيلي من الضفة الغربية وقطاع غزة، ذلك أن إسرائيل إن قررت الانسحاب فإنه "لا يمكن أن يتم إلا لسلطة رجعية أو سلطة مستسلمة.
"ومن نفس المنطلق طرحت الجبهة الشعبية، القيادة العامة موقفها من نهج المرحلية، فترى أن الرفض لا يوجه أساسا للسلطة الوطنية أو لمرحلية النضال، ولكن الانتقاد منصب أساسا على الشروط والصيغة التي عليها ستقام هذه الدولة، ذلك أن المرفوض هو السلطة الوطنية التي تتمخض عن تسوية سياسية وكبديل عن حرب التحرير ويؤكد أحمد جبريل الأمين العام للمنظمة إن طرح شعار السلطة الوطنية خاصة بعد حرب أكتوبر هو طرح مرتبط بالتسوية الأمريكية التي تهدف إلى إنهاء الصراع العربي-الصهيوني لصالح تثبيت الوجود الصهيوني في الأراضي العربية، وهنا تكمن الخطورة لأن طرح الشعار بعد حرب تشرين جعله مرتبطا بشكل مباشر بنقطتين مركزيتين نحن نرفضهما تماما وهما: المشاركة في مؤتمر جنيف وتمرير التسوية الأمريكية ونجاحها".
ويبدو أن الأحداث عززت من طرح الجبهة الشعبية وجبهة الرفض عموما، حول نقطة واحدة هي أن الوضع الدولي والعربي بعد حرب أكتوبر لم يؤد إلى انسحاب إسرائيلي من جميع الأراضي العربية المحتلة، حيث أن الواقع أظهر محدودية التسوية المطروحة ووهم المراهنة على الضغوط الدولية أو على إنسانية أمريكا ، أو قوة الضغط الاقتصادي العربي، ومع ذلك تبقى إيجابية تحديد سياسة مرحلية آنذاك لتقوم بوظيفة المناورة السياسية والتكتيك الضروري لحشد أكبر عدد من الأصدقاء وتجنب ما يحاك ضد الثورة، وليس باعتبارها استراتيجية تدفع المقاومة الفلسطينية للانجرار إلى المناورات الأمريكية التي تلوح للعرب ما بين الفينة والأخرى بمشاريع وهمية لتنتزع منهم التنازل تلو التنازل دون تحقيق أي إنجاز فعلي، إلا أن ما يؤخذ على قوى المعارضة إنها لم تشق طريقا بديلا واعتبرت أن التمسك بالمبادئ والثوابت الأساسية أهم من أي إنجاز صغير يعيد بعض الحقوق وتتجاهل هذه المنظمات أن من لا تستطيع تحقيق القليل لا يمكنه تحقيق الكثير.
ويبدو أن الجبهة الشعبية نفسها اعترفت بجدوى تبني الهدف المرحلي وهذا ما أكده جورج حبش في كلمته أمام المجلس الوطني الفلسطيني في دورته السادسة عشر في الجزائر حيث جاء فيها "نحن نقول نعم لبرنامجنا الوطني المرحلي، الذي أقر في الدورة الرابعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني ونقول نعم كذلك لميثاقنا الفلسطيني الذي آمل من مجلسنا هذا أن يعلن تشبثا به وببرنامجنا المحلي"
لقد تأكد فيما بعد أن الأخذ بسياسة المرحلية لم يكن مجرد مناورة أو تكتيك كما حاول البعض تصويرها، بل كانت تعبر عن استعداد حقيقي للتعامل مع نهج التسوية السياسية، ذلك أن مقررات المجلس الوطني الفلسطيني اللاحقة تخلت عن كثير من الشروط التي وضعتها للهدف المرحلي –السلطة الوطنية المقاتلة-بل إنها لم تعد تقرن الهدف المرحلي بالهدف الاستراتيجي باعتبار الأول قاعدة ارتكاز نحو الوصول للثاني، وفيما بعد حذفت كلمة مرحلية عند الحديث عن الهدف الفلسطيني الذي أصبح "إقامة دولة فلسطينية مستقلة" وهذا ما ظهر جليا في مقررات المجالس الوطنية ابتداء من الدورة الثالثة عشر، فالفقرة الحادية عشر من البيان السياسي لتلك الدورة دعت لمواصلة النضال الفلسطيني "من أجل استعادة الحقوق الوطنية لشعبنا وفي مقدمتها حقه في العودة وتقرير المصير وإقامة دولته الوطنية المستقلة فوق ترابه الوطني", وفي تحديد مجال الحقوق الفلسطينية التي على المنظمة السعي لتحقيقها، عرفتها بأنها الحقوق التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ سنة 1974 وخاصة القرار 3236 وقد اعتبرت قرارات هذه الدورة أول تحول واضح في مفهوم الحقوق الفلسطينية من حقوق تاريخية إلى حقوق مستمدة من الشرعية الدولية أو تجمع بينهم.
تكررت نفس الصياغات لهدف النضال الفلسطيني باعتباره إقامة دولة فلسطينية مستقلة دون تحديد كون هذه الدولة هي مجرد هدف مرحلي ودون ذكر الهدف الإستراتيجي –الدولة الديمقراطية العلمانية على كامل التراب الفلسطيني، ويبدو أنه كلما تدهور الوضع العربي وضعفت قوة الفعل العربية وتأزمت علاقات الثورة الفلسطينية بالأنظمة العربية، كلما كانت م.ت.ف أكثر استعدادا لتليين مواقفها وتخفيف شروطها لتصبح أكثر قبولا عند الرأي العام العالمي ولتبقى في مواجهة الأحداث وتبقى الكرة دائما في شباك الخصم، وخصوصا بعد معركة بيروت وانتظار الأعداء أن تكتمل الحلقة وأن يؤدي الانحسار العسكري للمنظمة لإنهائها سياسيا، إلا أن المنظمة وبالرغم من الانتقادات الشديدة لسياستها بعد بيروت أثبت قدرتها على الولادة من جديد من خلال تقديمها لتصورات سياسية وأقدامها على خطوات عملية من خلال نسج علاقات جديدة مع أطراف نبذت سابقا –الأردن ومصر-، مع ما صاحب هذه العلاقات والتحولات من جدل واسع من الساحة الفلسطينية.
ففي الدورة السادسة عشر للمجلس الوطني الفلسطيني يلاحظ أن البيان الختامي للمجلس لم يتطرق إلى قرار 242 أو يندد به وهو ما دأبت قرارات المجلس السابقة على فعله، أما تصور المجلس للحل فهو يتم عن طريق عقد مؤتمر دولي، ونلاحظ هنا أن المجلس يتحدث عن حل للفضية الفلسطينية وليس مجرد مبادرة سياسية وكانت صياغة المجلس لأهداف النضال الفلسطيني في تلك الدورة على الشكل التالي "يرى المجلس أن إيجاد حل عادل لقضية فلسطين والشرق الأوسط لا بد وأن يقوم على أساس ضمان حقوقنا الوطنية في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية فوق ترابنا الوطني الفلسطيني، كما يرى أن الإطار المناسب للوصول إلى هذا الحل، هو عقد مؤتمر دولي تحت راية الأمم المتحدة وعبر مجلس الأمن بمشاركة كافة الأطراف المعنية بما فيها م.ت.ف على قدم المساواة، وعلى أساس قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بقضية فلسطين ويؤكد في هذا الصدد رفضه لاتفاقيات كامب ديفيد والحكم الذاتي ومبادرة الرئيس الأمريكي ريغان والمشاريع والقرارات التي لا تضمن حقنا في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة".
إن أهم ما يثير الانتباه في هذا البيان –مع الأخذ بعين الاعتبار طبيعة المرحلة والحصار المفروض على الثورة الفلسطينية- أنه إذا كان هدف تحرير كامل فلسطين متضمن في القرارات السابقة للمجالس الوطنية بما فيها حق العودة وتقرير المصير والدولة الفلسطينية والذي يعني ضمنيا وجود حقوق أخرى غير الدولة الفلسطينية، فإننا نجد صياغة البيان الأخير حصرت الحقوق الفلسطينية بحق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وهذا التبدل في الصياغة له معناه، وخصوصا إذا ربطناه بما يليه عند الحديث عن "حل" للقضية تشارك فيه كافة الأطراف المعنية.

المبحث الثالث
دولة فلسطينية في إطار قرارات الشرعية الدولية

المطلب الأول: الطريق الصعب نحو شرعية دولية غير واضحة المعالم:
إذا كان القبول بالمرحلية كمبدأ أقرته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، إلا أن الخلاف استمر حول علاقة المرحلي بالإستراتيجي وآلية المفاوضات وكيفية الوصول لهذا الهدف المرحلي والصيغة التي يتم بها، وهو الأمر الذي احتدم في الساحة الفلسطينية وما زال إلى اليوم بع توقيع اتفاقية أوسلو وما تلاها، إلا أن الاتجاه الذي غلب في بداية الأمر هو الذي فصل بين مفهوم مرحلية النضال وبين التسوية السياسية، وفي الواقع فإن كثيرا من الالتباس والغموض اكتنف تحديد الحد الفاصل بين مرحلية النضال باعتبارها سياسة تكتيكية تهدف إلى تعزيز المواقف النضالية من أجل استمرارية النضال لتحقيق الهدف الاستراتيجي وبين التسوية السياسية، بمعنى إنهاء النزاع ووضع حد له باتفاقات ومعاهدات تؤدي إلى اعتراف متبادل بين الأطراف، وإلغاء الكفاح المسلح كأسلوب لحل النزاع.
يرجع جزء من هذا الغموض إلى إحساس قادة حركة المقاومة الفلسطينية بأنه في الوقت الذي لا يمكن فيه أن تؤدي التوازن الحالي للقوى إلى تحقيق أي هدف مقبول فلسطينيا وغير متناقض مع الميثاق الوطني الفلسطيني ومقررات المجلس الوطنية وأنه إذا ما حدث أن أجبرت إسرائيل لتقديم تنازلات ترابية فإن هذا سيكون مقابل الاعتراف بها ووضع حد للكفاح المسلح، مع توفر هذا الإحساس فإن لا أحد من قادة المقاومة الفلسطينية كان يجرؤ آنذاك على الإعلان صراحة عن الاستعداد للاعتراف بإسرائيل نظرا للرفض الشعبي العارم لمثل هذه الخطوة، ونظرا لأن مبرر وجود الثورة الفلسطينية وديمومتها قام على كونها النقيض للوجود الصهيوني ومن هنا كثر الغموض في التصريحات التي تحاول أن تبلغ رسالة لإسرائيل وأمريكا تعبر عن الاستعداد للاعتراف بإسرائيل إذا ما قدمت تنازلات للفلسطينيين، وفي نفس الوقت تخفي هذه الرغبة عن الجماهير الفلسطينية لحين التأكد من حصول التنازل الإسرائيلي أو وجود رغبة حقيقية في تقدير هذا التنازل وهو الأمر الذي لم يحدث إلا بشكل غامض من خلال تصريحات أوروبية وأمريكية –كورقة التطمينات الأمريكية- أو من خلال تصريحات لإسرائيليين من معسكر السلام الذين ليس لهم وزن في الحياة السياسية الإسرائيلية.
ومن هذا المنطلق توالت التصريحات المطاطة والمبهمة والتي تتضمن استعداد للاعتراف بإسرائيل مقابل دولة فلسطينية على جزء من التراب الفلسطيني كهدف نهائي للنضال الفلسطينية، وهو الأمر الذي يستشف من قرارات المجلس الوطني الفلسطيني في عمان والذي تحفظت عليه فصائل فلسطينية متعددة الذي اعتبر حقوق الشعب الفلسطيني منحصرة في حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، واعتبر "أن الإطار المناسب للوصول إلى هذا الحل هو عقد مؤتمر دولي تحت راية الأمم المتحدة وعبر مجلس الأمن بمشاركة كافة الأطراف المعنية".
مع أن مرحلية النضال مبررة ومقبولة نضاليا فإنه يجب التأكيد بأن هذه المرحلية والقبول بأهداف أقل من الهدف الاستراتيجي، يفترض أن تأتي كتتويج لانتصارات جزئية تحققها قوى الثورة الذاتية أو المعسكرة التقدمي العالمي، وهي في هذا تختلف عن الحلول التي تطرح لتسوية النزاع من قبل أطراف خارج قوى الثورة أو من طرف الخصم نفسه وهو الأمر الذي اتسمت به سياسة المرحلية في الساحة الفلسطينية، وأوجد الخلط والالتباس في المسيرة الفلسطينية وتباينت الاجتهادات حول تطبيق سياسة المرحلية.
توالت الخطوات الدافعة بالصراع العربي –لصهيوني نحو تسوية ضمن شروط أمريكية وإسرائيلية لا تلبي حتى الشروط الدنيا للسلام العادل بالمفهوم الفلسطيني والعربي، تسوية تهدف إلى حصار الثورة الفلسطينية ولملمة الحالة الثورة الفلسطينية والعربية وتدفع بالثورة الفلسطينية إما لإعادة النظر بسياسة الرفض والتحدي التي تنتهجها وإما أن تتعرض للحصار والتصفية. وكانت اتفاقية كامب ديفيد الضربة القاصمة في البعد القومي للقضية الفلسطينية حيث وضعت الاتفاقية الثورة الفلسطينية أمام حقيقة لم يعد مجال لإخفائها وهي أن العامود الفقري للأمة العربية وقائدة نضاله التحرري القومي وأكبر قوة عسكرية عربية.... اعترفت بإسرائيل وخرجت من ساحة المواجهة العسكرية، فلم تكن الاتفاقية تعني فقط خروج مصر من ساحة المواجهة بل استغلت إسرائيل الاتفاقية لتنفرد بالثورة الفلسطينية وخصوصا أن الاتفاقية جاءت في وقت كانت العلاقات متوترة ما بين المنظمة وسوريا بسبب الملف اللبناني، لقد كان لاتفاقية كامب ديفيد مفاعلها القوية والسلبية على مسارين: الأول سياسي حيث سارعت الأمة العربية بمباركة وضغط أمريكي إلى بلورة مبادرة سياسية تعترف بإسرائيل وبقرارات الشرعية الدولية، والثاني عسكري حيث أخذت إسرائيل تخطط لتصفية الوجود العسكري، لـ م.ت.ف وقد تزامن الحدثان تقريبا، الأول مؤتمر فاس 81 والثاني غزة ولبنان 82 وهو تزامن ليس مصادفة بطبيعة الحال.
فبتنسيق أمريكي عربي مع تيار التسوية داخل الساحة الفلسطينية والعربية عقد مؤتمر فاس أو ما سمي مبادرة السلام العربية وفيها اعترفت الأنظمة العربية بوضوح بقرارات الشرعية الدولية وما استتبع ذلك من اعتراف بإسرائيل واستعداد هذه الدول بحل الصراع بالطرق السلمية. لقد شرع مؤتمر فاس الأبواب أمام نهج التسوية السلمية وكشف عما كانت الأنظمة تريده ولا تجرؤ على التصريح به أو فعله، ذلك أن غالبية الأنظمة العربية ومنذ أن وقع السادات اتفاقية كامب ديفيد وهي تريد أن تنهج نهجه وتتخلص من عبء المسئولية تجاه شعارات ومواقف وأهداف ألزمت نفسها بها في المرحلة السابقة، ومن عبء المسئولية تجاه الشعب الفلسطيني، إلا أن التواجد المسلح للفلسطينيين في لبنان والعمليات البطولية على الحدود وداخل الوطن كانت هي الحائل أمام السير على درب السادات وخصوصا بعد اغتياله، وكان مطلبا إسرائيليا وأمريكيا ورسميا عربيا إزالة هذه العائق، وهذا ما حدث، فما أن ضربت الثورة في لبنان وتشتت مقاتلوها حتى فتح الباب على مصراعيه للتسوية السياسية، وتغلغل فكر التسوية في الساحة الفلسطينية دون مواربة ولم يعد من المحرمات، ولم يعد الحديث يدور عن المفاضلة بين خيار التحرير والحرب وخيار التسوية بل ما بين التسوية السلمية العادلة والتسوية غير العادلة، ولكن هل للضعيف في معادلة الصراع أن يفرض مفهومه للعدل وللسلام؟.

المطلب الثاني: الدولة: من متاهات الشرعية الدولية إلى متاهات الشرعية التفاوضية:
بعد عشرات اللقاءات والمؤتمرات العلنية والسرية حول السلام، وما صاحبها من أحداث جسام كالانتفاضة الأولى، وحرب الخليج الثانية وانهيار النظام الإقليمي العربي والاتحاد السوفييتي....، أجبرت أمريكا الخصوم على الجلوس علنا على طاولة المفاوضات في مدريد أولا ثم في أوسلو وتم توقيع اتفاق إعلان المبادئ بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهو الاتفاق الذي قامت على أساسه منذ 1994 سلطة الحكم الذاتي في مناطق من الضفة والقطاع، وكان حديث الساعة فلسطينينا قبل مايو 1999- تاريخ نهاية المدة المحددة لاتفاق إعلان المبادئ وبداية التفاوض على قضايا الوضع النهائي- هو موضوع الدولة الفلسطينية، هل ستقوم يوم الخامس من مايو أم ستؤجل؟ وإذا قامت فكيف ستتصرف إسرائيل، وإن لم تقم فكيف ستواجه السلطة الفلسطينية شعبها من يساندها منه ومن يعارضها؟ وهل هذه الدولة ستحقق السلام المنشود؟ وحيث أنه لا مواعيد مقدسة عند الإسرائيليين، وخصوصا إذا كانت هذه المواعيد تفرض عليهم التزامات تتعلق بالأرض المحتلة، فقد مر الرابع من مايو وبالتالي المدة المتفق عليها للحكم الذاتي وفشلت مفاوضات كامب ديفيد وما تلاها من اتفاقات، واندلعت الانتفاضة لتؤكد فشل المراهنة على السلام الأمريكي الإسرائيلي، ثم جاءت وثيقة تنت وتقرير ميتشل وخارطة الطريق وأخيرا خطة شارون وما زالت أسئلة كثيرة وعميقة ومعقدة تضغط على الإنسان الفلسطيني وتجعله في موقف الانتظار والترقب دون أن يستطيع لملمة أفكاره وشحذ قدراته العقلية لاتخاذ موقف وهو على يقين من سلامة هذا الموقف، والأمر لا يتعلق بالإنسان الفلسطيني أو العربي العادي بل نلمس حالة الإرباك عند القياديين الفلسطينيين الذين تتباين مواقفهم وتلتبس تصريحاتهم من كان منهم في المعارضة أو في السلطة.
إن أي نقاش وطني عقلاني حول السلطة والحكم الذاتي في هذه المرحلة يفترض أن لا يتمحور حول، مع السلطة أو ضد السلطة، بل يجب أن يكون حول عمل السلطة وكيفية تطويرها، أو بمعنى أخر التمييز ما بين السلطة الوطنية كجهاز وركن أساس لا يمكن تصور قيام دولة أو كيان سياسي بدونها من جهة وكيفية أداء السلطة لعملها ونزاهة الأشخاص القائمين بأمرها من جهة أخرى وفي هذه الحالة يفترض أن يكون إجماع وطني فلسطيني –بل وقومي عربي وإسلامي- حول مبدأ وجود سلطة وطنية فلسطينية داخل فلسطين –بغض النظر عم ممارسيها- وحق الاختلاف حول كيفية عملها وبرامجها وأشخاصها الخ، وقد أبانت السياسة الصهيونية في عهدي باراك وشارون أنها ضد وجود سلطة وطنية فلسطينية ذات مصداقية حتى وإن كانت منبثقة عن اتفاقات أوسلو.
من الواضح أن وضع السلطة وضع لا تحسد عليه وخصوصا بعد الاجتياح الإسرائيلي للضفة في نهاية فبراير 2002، فهي ليست سلطة سياسية كاملة الصلاحيات بل سلطة مقيدة بشروط والتزامات تعرقل قيامها بمهامها كسلطة سياسية بمعنى الكلمة، ومن جهة أخرى فإن الدولة عادة ما تأتي بعد تحقق الركنيين الآخرين للدولة، وهما الأرض والشعب، فهي تأتي لتمارس السيادة على الأرض والشعب، أما في الحالة الفلسطينية فقد وجدت السلطة أولا في ظروف معقدة وبصلاحيات محدودة، وينتظر منها استكمال عناصر الدولة، أي استكمال تحرير الأرض ولملمة شتات الشعب.
هذه خصوصية لا تخلو من تناقض وتعقيد ذلك أن السلطة الفلسطينية وجدت في إطار تسوية وضمن اتفاقية تكبل تحركها وتجعل كل خطوة من خطواتها وخصوصا ذات الطابع السيادي مرهونة بالموافقة الإسرائيلية والأمريكية، فيما الشعب الفلسطيني يريدها أن تقوم بمهمة مزدوجة مهمة سلطة وطنية تحريرية وسلطة سياسية تأسيسية، وهي مهمة جدا صعبة إذا أخذنا بعين الاعتبار التحديات الداخلية والخارجية التي تعترض عمل السلطة. وانطلاقا من هذه الصعوبة حدث شطط في التحليل عند من تعامل مع موضوع السلطة والحكم الذاتي، بحيث أن هيمنة الأيديولوجيا والمواقف المسبقة والصراعات الحزبية جعلت مقاربات الموضوع تقع في السببية الفجة وتصدر أحكاما كلية اعتمادا على مقاربات جزئية.
إن الفهم العميق للتحولات الدولية والإقليمية يدفعنا إلى القول إن التحدي الذي يواجه الشعب الفلسطيني وهو يخوض نضالا سياسيا وعسكريا ضمن ما هو متاح وكإمكانية يجب عدم إسقاطها لتأسيس دولته الوطنية المستقلة لا يقل عن التحدي الذي واجه عندما كان يتبنى إستراتيجية الكفاح المسلح ضد الصهيونية، والإمبريالية لتحرير وطنه، وسنكون واهمين إذ اعتقدنا أن القوى التي حالت بين الشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته في مرحلة الكفاح المسلح ستساند هذا الشعب في تأسيس وطنه بالطرق السلمية، ذلك أن معارضتها لم تكن لأن الشعب الفلسطيني يريد أن يقيم دولته عن طريق الكفاح المسح بل كانت معارضة لمبدأ قيام الدولة الفلسطينية، سواء كانت هذه القوى تتجسد بإسرائيل أو بالولايات المتحدة الأمريكية أو بدول غيرها من داخل المنطقة، وقد أثبتت الأحداث ذلك مع كامب ديفيد الثانية وقبلها، حيث الحكم الذاتي، كما ترددت الدول العربية في دعم الموقف الفلسطيني بخصوص إعلان الدولة من طرف واحد حتى لا يثيروا غضب أمريكا، ولولا صمود الشعب الفلسطيني وعدم تنازله عن حقوقه لتبخر حلم الدولة.
ولا شك أن حق الشعب الفلسطيني في كامل فلسطيني حق لا يماري فيه، ولكن علينا أن نعترف وأن نتعلم من التاريخ أن الشعوب لا تحيي فقط على الأهداف والشعارات كما أن الأهداف لا تتحقق بمجرد ترديد المطالبة بها ودبج الأشعار والتنظيرات حولها، ولكنها الشعوب تعيش في واقع وتتعامل مع واقع، ليست الإرادة تصاحب بممارسة عقلانية وأدوات تنفيذية ومراكمة إنجازات، فإنها ستتحول إلى أضعاف أحلام وستتآكل مشروعيتها عبر الزمن وعليه فإن أي إنجاز على أرض الواقع مهما كان صغيرا فإنه سيبقى الأمل في النفوس متقدا وستبقى الصلة قائمة ما بين الأهداف الوطنية المشروعة من جهة وواقع الحياة اليومية والتعامل اليومي من جهة أخرى.
إن ما بين التحرير الكامل من جهة والاستسلام لمشيئة الخصم من جهة أخرى، كثير مما يمكن عمله من أجل فلسطين، سواء في إطار الواقع الجديد داخل مناطق الحكم الذاتي أو في إطار قرارات الشرعية الدولية، وفي جميع الحالات على الفلسطينيين أن يعتمدوا على أنفسهم بالدرجة الأولى، وأن يضعوا حدا لحالة انتظار المنقذ القومي العربي أو الفاتح الإسلامي أو المحرر الأممي، أو انتظار تدخل العناية الإلهية لتقذف بحجارة من سيجيل يجعلهم كعصف مأكول، ومن هنا على الفلسطينيين أن يحسنوا إدارة معركة الحفاظ على الهوية والوطن، هذا الأخير الذي ليس هو الأرض فقط، فهذه قد تتعرض للاحتلال أو يفارقها المواطن قسرا، بل هو بالإضافة إليها، إحساس بالانتماء، وشعور بهوية، واستعداد للعطاء في كل الظروف والأحوال، والفلسطينيون اليوم في ظل استحقاقات أوسلو المؤلمة عليهم أن يؤكدوا كما كانوا دائما أنهم كالعنقاء التي تنهض من تحت الرماد فيما الاعتقاد أنها ماتت.
بناء الدولة، مسؤولية مزدوجة، مسؤولية دعاة التسوية ومسؤولية دعاة التسوية ومسؤولية دعاة المقاومة ومسؤولية المواطن، فالمواطن الفلسطيني سواء كان مواطنا عاديا أو منتميا إلى حزب أو تنظيم، عليه أن يدرك أن تأسيس دولة أو كيان سياسي لا يكون إلا بوجود سلطة وطنية، وإن أي سلطة في العالم لا بد لها من صلاحيات للقيام بمهامها بما في ذلك ممارسة القسر والإكراه، فالسلطة تقترن دائما بالقوة وتحيل إليها (لا سلطة دون تسلط)، ولكن في إطار القانون والمؤسسات وبما يخدم المصلحة الوطنية، وعلى المواطن الفلسطيني أن يعرف أيضا أن السلطة لا يمكنها أن تقوم بعملها بدون قوانين يجب أن تحترم وبدون مؤسسات يجب أن تصان.
وإذ كان يجوز الاختلاف حول الشأن السياسي، فلا يجوز الاختلاف حول ضرورة بناء وتأسيس الدولة، والقوى المعارضة لنهج التسوية تملك ولا شك الوعي والحس الوطني مما يجعلها تميز ما بين هذين النوعين من المعارضة: معارضة ممارسات نهج التسوية في السلطة ومعارضة بناء الوطن، إن كل جهد في اتجاه بناء الإنسان الفلسطيني والمؤسسات الفلسطينية والدولة الفلسطينية هو عمل وطني وللوطن ومن الخطأ الإحجام عنه بحجة أن يجير لمصلحة تنظيم محدد أو توجه سياسي محدد، وعلى القوى السياسية أن تربي أعضاءها على احترام مؤسسات ورموز السلطة الوطنية، وإن شاءوا يعارضوا سياساتها وبرامجها وممارسات مسئوليها، فحيث أن الشعب الفلسطيني يرفض الخضوع لسلطة الاحتلال فعليه أن يقبل بسلطة وطنية لأن ما بينهما هو الفوضى والخراب والحرب الأهلية لا سمح الله.
لم يعد خافيا على أحد أن قبول إسرائيل بحكم ذاتي فلسطيني وبسلطة فلسطينية لا يعني أنها تهيئ الوضع للاستقلال الفلسطيني، أو أنها تدرب الفلسطينيين على كيفية حكم أنفسهم بأنفسهم، بل قبلت بذلك مناورة وخوفا من أن تضطر لتقديم تنازلات أكثر، ولذا فهي وكما رأينا لن تدخر جهدا لإفشال تجربة الحكم الذاتي وستمارس سياسة الأرض المحروقة بتضييق سبل العيش أمام غالبية الشعب داخل مناطق الحكم الذاتي وإطلاق يد المستوطنين لينهبوا الأرض ويمارسوا الإرهاب ضد الشعب الفلسطيني حتى يتمرد الشعب على السلطة الوطنية أو يضطر لمغادرة الوطن ومن يتبق منهم يتحولوا إلى "عرب إسرائيل" ولكن دون حقوق المواطنة وعليه فإن الطريق أمام الفلسطينيين ما زال صعبا وشاقا ومهمتهم لإعادة بناء الدولة على جزء من أرض الوطن تحتاج إلى تضافر كل الجهود، جهود فلسطيني الداخل وجهود فلسطينيي الشتات، تحتاج إلى جهود السلطة وجهود المعارضة، تحتاج إلى جهود السياسيين والمثقفين والمبدعين وكل الكفاءات التي شتتها الاحتلال أو أبعدتها الممارسات السيئة لبعض المتنفذين في السلطة الفلسطينية.
لا شك أن السلطة الفلسطينية في وضع لا تحسد عليه ذلك أنه بالرغم من أن عناصر الدولة الأساسية شبه متوفرة: الأرض والشعب والسلطة –دون سيادة- بالإضافة إلى قرار التقسيم وتأييد دولي يتزايد كل يوم، إلا أن خصوصية القضية وبنود اتفاق أوسلو يجعل اعتراف إسرائيل والاعتراف الدولي المسبق -وخصوصا الدول العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة- شرطا أساسيا لقيام الدولة الفلسطينية، وهو الأمر الذي يدفعنا إلى القول إن الدولة الفلسطينية لن تقوم بمجرد الإعلان عن قيامها- حيث أعلن عن قيامها ذلك عدة مرات كان أخرها إعلان الجزائر 1988، بل أن قيامها فعلا وممارستها لسيادة حقيقية على الأرض والشعب ما زال يحتاج إلى إرادة فلسطينية جماعية وإلى برنامج وحدة وطنية مرحلي يكثف العمل فلسطينيا وعربيا ودوليا في هذه المرحلة الدقيقة للقضية الفلسطينية، بل لا نبالغ إن قلنا إن قيامها يحتاج إلى نضال لا يقل عن النضال الذي خاضه الفلسطينيون منذ قيام الثورة إلى اليوم، ويبدو أن كثيرين من العرب والفلسطينيين لا يدركون خطورة المرحلة وأهمية قيام دولة فلسطينية مستقلة على أرض فلسطين ولو على شبر من أرض فلسطين، إن الدولة الفلسطينية اليوم وفي ظل انهيار البعد القومي للقضية وفي ظل انشغال العالم بقضايا أخرى غير القضية الفلسطينية وفي ظل التحالف الاستراتيجي المتين ما بين إسرائيل وأمريكا لم تعرفه العلاقات بين الدولتين من قبل، في ظل هذه الظروف يمكن أن تكون –بل يجب أن تكون- الدولة الفلسطينية مهمة نضالية وواجب قومي وإسلامي وإنساني.
بفعل انتفاضة الأقصى تحرك المنتظم الدولي مجددا وأصدر عديدا من القرارات التي وإن كانت لا ترق إلى طموحات الشعب الفلسطيني فإنها في ميزان القوى الراهن تعتبر إنجازا يمكن للفلسطينيين التمسك به ليقيموا عليه دولتهم المستقلة ومن أهم هذه القرارات القرار رقم 1397 بتاريخ 13/3/2002 الذي صدر عقب اجتياح إسرائيل لمناطق السلطة الفلسطينية، فلأول مرة يشير قرار صادر عن مجلس الأمن إلى أن حل النزاع في المنطقة لن يكون إلا بقيام دولتين، فلسطينية وإسرائيلية، تتعايشان بسلام جنبا إلى جنب، وقد تبع هذا القرار مواقف أوروبية وأمريكية تنطلق من نفس الرؤية.
ولكن في نفس الوقت هناك مؤشرات مقلقة تشير إلى توجه أمريكي وإسرائيلي لتغيير مفهوم المناطق المحتلة وبالتالي المناطق التي من الممكن أن تقام عليها دولة فلسطينية، وبانت هذه المؤشرات عقب الاجتياح الإسرائيلي لمناطق السلطة في الضفة وغزة نهاية فبراير 2002، حيث صدر قرار مجلس الأمن رقم 1402 الذي يدعو إسرائيل إلى الانسحاب من مناطق السلطة، وما زالت إسرائيل تماطل في الانسحاب، إن الخوف يتأتى من أن يحل القرار الأخير محل القرار 242 وتحل (مناطق السلطة) محل (الأراضي المحتلة عام 67) أي كل الضفة الغربية بما فيها القدس، وتأكدت التخوفات مع شروع إسرائيل بإقامة الجدار العازل مع بداية 2003، وهذا الجدار لن يترك بيد الفلسطينيين إلا حوالي 42% من مناطق الضفة مقسمة إلى ثلاثة كانتونات منعزلة عن بعضها، تتحكم إسرائيل بالطرق الرابطة بينها، ثم طرح خطة شارون للانسحاب من غزة.
لا شك أن الحديث الأمريكي والإسرائيلي عن دولة سواء ضمن خارطة الطريق أو ما ورد في وثيقة جنيف التي وقعها وفد فلسطيني ووفد إسرائيلي غير رسمي في أكتوبر 2003، يعد خطوة متقدمة للمواقف السابقة، إلا أنه يجب الحذر من فهم وتفسير مفهوم الدولة، ففي الوثيقتين هناك حديث عن دولة دون سيادة ومنزوعة السلاح، وإن كانت دولة منزوعة السلاح أمرا مفهوما ومقبولا لمرحلة انتقالية، إلا أن ما لا يفهم وما يعد خطيرا الحديث عن دولة دون سيادة، فعدم ممارسة الحكومة –السلطة- الفلسطينية سيادة على أرض الدولة يدفع للتساؤل ولمن السيادة على الأرض؟ وهنا تبرز الخطورة، فقد يفسر الأمر بأن الأرض هي أرض دولة إسرائيل والسيادة بالتالي لإسرائيل، وعليه تصبح الدولة مجرد نعت غير دقيق لحكم ذاتي ثقافي.
وبعد تنفيذ شارون لخطته بسحب الجيش من قطاع غزة في سبتمبر 2005، تجدد الحديث عن الدولة الفلسطينية، ولكن هذه المرة بإيحاء أمريكي وإسرائيلي، والمقصود بالفكرة دفع الفلسطينيين بالقبول بدولة في قطاع غزة وتناسي الضفة الغربية والقدس، ويزعم المتحمسون لهذه الفكرة بأن دولة غزة قد تكون تطبيقا لفكرة الدولة المؤقتة المنصوص عليها في خطة خارطة الطريق، ويمكن للفلسطينيين القبول بها ثم مواصلة المفاوضات لاستعادة بقية الأراضي المحتلة.

خلاصة الفصل

بعد أكثر من أربعين سنة من قيام الثورة الفلسطينية المعاصرة، وبعد ثلاثة عشر سنوات من بداية تطبيق مسلسل التسوية في إطار اتفاقية أوسلو، وبعد ثلاث انتفاضات –انتفاضة 1987 وانتفاضة النفق ثم انتفاضة الأقصى- وبعد ست سنوات دامية هي عر انتفاضة الأقصى، وبعد مأزق خارطة الطريق وخطة الفصل أحادي الجانب تأكدت حقيقة أن الصراع يدور حول الدولة الفلسطينية، تكون أو لا تكون، وموضوع الدولة مرتبط عند الفلسطينيين بالهوية والوجود، وبالتالي الصراع بالنسبة للفلسطينيين هو أن يكونوا أو لا يكونوا، اليوم هناك ما يزيد عن ثلاثة ملايين ونصف فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة –بالإضافة إلى أكثر من مليون في إسرائيل- وهؤلاء شعب كامل الهوية، وقد أثبت التاريخ شهادة حق تبدد الزيف وأوهام الأيدولوجيا، أن لا الهزائم العسكرية ولا تعاقب الزمن، يلغي هوية الشعوب أو يضعف انتمائها لأوطانها.

المراجع
1.إبراهيم أبراش، العبد القومي للقضية الفلسطينية (فلسطين بين القومية العربية والوطنية الفلسطينية) مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1987.
2.إبراهيم أبراش، علم الاجتماع السياسي، دار الشروق، عمان، 1994
3.إبراهيم أبراش، المؤسسات والوقائع الاجتماعية، الرباط، 1998
4.إبراهيم أبراش، مناهج البحث في العلوم الاجتماعية، دار بابل للنشر والتوزيع، الرباط، 1999
5.إبراهيم أبراش، تاريخ الفكر السياسي، دار بابل للنشر والتوزيع، الرباط، 1999.
6.الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، التقرير النظري والسياسي والتنظيمي، المؤتمر الوطني العام الثاني، أثار1981، بيروت، دار ابن خلدون.
7.السيد ياسين (إشراف)، الدولة الفلسطينية، رؤية مستقبلية، مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، القاهرة، 1980
8.السيد يسين، النظام السياسي العربي بين الأزمة والانهيار، التقرير الاستراتيجي العربي: 1995، ط1، القاهرة.
9.إميل توما: ستون عاما على الحركة القومية العربية الفلسطينية، بيروت، 1978.
10.المهدي المنجرة، الحرب الحضارية الأولى، منشورات العيون، البيضاء، 1991، ص2
11.جان فرانسوا بايار، سياسة ملء البطون: في سيسيولوجيا الدولة الإفريقية، ترجمة حليم طوطوس، ط1، دار العالم الثالث، 1992.
12.جان ماري دانكان، علم السياسة، ترجمة محمد عرب صاصيلا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1995.
13.جبهة التحرير العربية، استراتيجية المجابهة للتحالف الصهيوني –الاستعماري، بلا مكان نشر، جبهة التحرير العربية، 1970
14.جبهة التحرير العربية، الطريق القومي لتحرير فلسطين، بيروت، دار الطليعة، 1970
15.جورج انطنيوس، يقظة العرب، بيروت، 1902
16.جوزيف جيفريز، فلسطين إليكم الحقيقة ترجمة أحمد خليل الحاج، القاهرة الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1971- 1973
17.دنيا الأمل إسماعيل، مجلة رؤية، عدد 29، شباط 2006
18.سلمان الطماوي، السلطات الثلاث في الدساتير العربية وفي الفكر السياسي الإسلامي، دار الفكر العربي، القاهرة، 1979.
19.سوسن عثمان عبد اللطيف، تنظيم المجتمع، مكتبة عين شمس، القاهرة، 1998
20.سليم الجنيدي، الحركة العمالية في فلسطين، دار الجليل للنشر، عمان 1988
21.شحادة يوسف، الواقع الفلسطيني والحركة النقابية، مركز الأبحاث الفلسطيني، بيروت، 1973
22.شفيق الحوت، الفلسطيني بين التيه والدولة (بيروت، 1977)
23.حليم بركات وبيتر ضود، النازحون: اقتلاع ونفي، دراسة اجتماعية علمية، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1968
24.حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1985
25.حسين مروة، مفهوم الثقافة الوطنية، ضمن كتاب قضايا وشهادات، ملف الثقافة الوطنية، ج1، رقم4، خريف 1991، دمشق، مؤسسة عيبال للدراسات والنشر.
26خليل فاضل، سيكولوجية الإرهاب السياسي، ط1، 1991، القاهرة، 1996
27.خليل السكاكيني، كذا أنا يا دنيا، يوميات خليل السكاكيني، إعداد هالة السكاكيني، القدس، 1955
28.كامل خلة، فلسطين والانتداب البريطاني 1922- 1939، منشورات منظمة التحرير الفلسطينية، مركز الأبحاث، بيروت، 1974
29.كافين رايلي، الغرب والعالم ، سلسلة عالم المعرفة، الكويت عدد 90 السنة 1985
30.محمد عزة دروزة، القضية الفلسطينية في مختلف مراحلها، بيروت الكتبة العصرية، 1960
31.محمد عابد الجابري، في الموسوعة الفلسفية العربية (رئيس التحرير: معن زيادة)، معهد الإنماء العربي: محدداته وتجلياته، نقد العقل العربي 3 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربة، 1990)
32.محمد سعيد العشماوي، الإسلام السياسي (البيضاء: د.ن، 1991)
33.محمد عقلة، نظام الأسرة في الإسلام، ج:1، عمان، 1983
34.موريس دفرجيه، الأحزاب السياسية، ترجمة سامي الدروبي، دار النهار للنشر، بيروت، 1980
35.موريس دفرجيه، علم اجتماع السياسة، ترجمة سليم حداد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، 1991
36.منير شفيق، الثورة الفلسطينية بين النقد والتحطيم، بيروت: دار الطليعة، 1973
37.ناجي علوش، المقاومة العربية في فلسطين، 1948- 1970، كتب فلسطينية، بيروت: منظمة التحرير الفلسطينية، مركز الأبحاث، 1967
38.ناجي علوش، مناقشات حول الثورة الفلسطينية، بيروت، 1975
39.نايف حواتمة، لتتحد جميع القوى الثورية والوطنية لضمان الانسحاب الكامل وحقوق الشعب، بلا مكان نشر: منشورات الجبهة الديمقراطية، أيار (مايو) 1974
40.نعمان الخطيب، الأحزاب السياسية ودورها في أنظمة الحكم المعاصرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1983
41.صلاح خلف (أبو إياد)، فلسطيني بلا هوية، مطبعة الكاظمية، الكويت.
42.عبد الوهاب الكيالي، جامع، وثائق المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال البريطاني
والصهيونية، 1918- 1939، سلسلة الوثائق العامة، 1، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1968
43.عبد الوهاب الكيالي، الموجز في تاريخ فلسطين الحديث، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1971

44.عبد الله الحوراني، اللاجئون: قضية ومواقف، المركز القومي للدراسات والتوثيق، غزة، 2001
45.عبد الرحيم غنيم، المقاومة الفلسطينية والأيدولوجيا الثورية، دمشق: منشورات الطلائع، 1973
46.عبد السلام بن عبد الله، أسس الفكر الفلسفي المعاصر: مجاوزة الميتافيزيقا، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1991
47.عبد اللطيف المنوني، ومحمد عياد، الحركة العمالية المغربية، صراعات وتحولات، دار توبقال للنشر، 1985
48.عبد القادر ياسين، تاريخ الطبقة العاملة الفلسطينية 1918- 1948، مركز الأبحاث الفلسطيني، بيروت، 1980
49.عبد الهادي بوطالب، نظرات في القضية العربية، دار الكتاب، الدار البيضاء، 1987
50.عيسى الشعيبي، الكيانية الفلسطينية الوعي الذاتي والتطور المؤسساتي 1947- 1977، بيروت مركز الأبحاث الفلسطيني، 1979
51.غازي خورشيد، دليل حركة المقاومة الفلسطينية، سلسلة كتب فلسطينية- 32، بيروت، مركز الأبحاث، م.ت.ف، 1971
52.فرانز فانون، الثقافة الوطنية وكفاح التحرر، ضمن كتاب قضايا وشهادات ج1.
53.فيصل دراج الكوني والعالمي والثقافة الوطنية، ضمن كتاب قضايا وشهادات، ملف الثقافة الوطنية، ج2، رقم5، ربيع 1992، دمشق مؤسسة عيبال للدراسات والنشر.
54.توفيق علي برو، العرب والترك في العهد الدستوري العثماني (1908- 1914) القاهرة: جامعة الدول العربية، معهد الدراسات العربية العالمية، 1960
55.رشاد الشامي، إشكالية الهوية في إسرائيل، سلسلة عالم المعرفة، العدد 224، الكويت.
56.ليتين، مختارات، الجزء الثاني، دار التقدم، موسكو.
57.كتاب فتح السنوي.
58. state (London. Macmillan Press Ltd) 1996. in Human Rights quarterly. Vo. 19 N4 (November 1997), The jons Hopkins university press, p. 865.
59. Rodolfo Stave Hagen, Ethnic conflicts and the nation.
رسائل جامعية:
60.موسى حلس، نظام القضاء العشائري في فلسطين، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة القاهرة، 1995

الدوريات والوثائق:
61.إبراهيم أبراش، الدولة الفلسطينية: النشأة والتطور، مجلة السياسة الدولية، الأهرام، عدد 157، يوليو 2004.
62.إبراهيم محمود العالم، العولمة هل هي انفجار الهوية؟ مجلة الفكر العربي، عدد 53
63.باسم سرحان، "المخيم الفلسطيني في ظل الثورة"، شؤون فلسطينية، العددان 41 و 42 كانون الثاني/ يناير- شباط/ فبراير 1975
64.جورج حبش، المقاومة الفلسطينية أمام التحديات الجدية، ندوة شؤون فلسطينية عدد 30
65.خيرية قاسمية، نجيب نصار في جريدته الكرمل (1909- 1914) شؤون فلسطينية عدد 23، تاريخ يوليو 1973
66.خيرية قاسمية، مواقف عربية من التفاهم مع الصهيونية (1913- 1919) شؤون فلسطينية، عدد 31، تاريخ مارس 1974
67.خيرية قاسمية، "نجيب نصار في جريدته الكرمل" (1901- 1914) أحد رواد مناهضة الصهيونية، شؤون فلسطينية، العدد 23، تموز/ يوليو 1973
68.كمال ناصر، "مذكرات لاجئ سياسي"، شؤون فلسطينية، العدد 44
69.كمال عدوان، "فتح" الميلاد والمسيرة"، شؤون فلسطينية، العدد 17، كانون الثاني (يناير) 1973
70.عبد القادر ياسين: "الحركات القومية العربية والكفاح المسلح الفلسطيني"، شؤون فلسطينية، العدد 98 (كانون الثاني /يناير 1980).
71.ناجي علوش، الثورة الفلسطينية ومهمات حركة التحرر الوطني العربية، دراسات عربية (بيروت)، العدد8، حزيران/ يونيو، 1972
72.نبيل شعت، نحو فلسطين ديمقراطية، شؤون فلسطينية، عدد 2.
73.جورج حبش، جريدة الهدف، عدد 22، تاريخ 20/12/1969
74.محمود درويش، مجلة الكرمل، العدد 15
75.ياسر عرفات يتحدث إلى شؤون فلسطينية في ذكرى الانطلاقة: ثورتنا، كلمة سر الأمة، أجرى الحوار محمود درويش بالاشتراك مع أحمد عبد الله الحوراني، شؤون فلسطينية، العدد 86، كانون الثاني/ يناير 1979
76.مقابلة مع ياسر عرفات، شؤون فلسطينية، العدد 85، كانون الأول (ديسمبر) 1978، "كلمة ياسر عرفات في دورة المجلس الوطني الفلسطيني" في الجزائر (1983)، بعد أن جدد المجلس ثقته به كرئيس للجنة التنفيذية لـ م.ت.ف.
77.كلمة صلاح خلف (أبو إياد) في دورة المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر (1983) الوثيقة الرقم 70
78.نايف حواتمة: حديث مع قادة المقاومة "شؤون فلسطينية"، العدد 5، تشرين الثاني (نوفمبر) 1971
79.
نايف حواتمة، المقاومة الفلسطينية أمام التحديات الجديدة، ندوة شؤون فلسطينية، عدد 30
80.نايف حواتمة، نحو حل ديمقراطي للقضية الفلسطينية، مجلة الحرية، 12/1/1970
81.كلمة أحمد جبريل في الدورة 16 للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر (1983)، الوثيقة الرقم 92
82.حديث لأحمد جبريل مع مجلة إلى الأمام، بيروت 12/7/1974، ورد في (الدولة الفلسطينية رؤية مستقبلية).
83.كلمة "فتح" في المؤتمر الثاني لنصرة الشعوب العربية في القاهرة، يناير 1969
84.البيان السياسي الصادر عن الدورة 16 للمجلس الوطني الفلسطيني، التي عقدت في الجزائر، في شباط (فبراير) 1983
85.تعميم داخلي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بلا تاريخ.
86.الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، النظام الداخلي.
87."فتح"، دراسات وتجارب ثورية، الرقم 1
الصحف:
88.نشرة الثأر باسم الحركة، 24/4/1958
89.فلسطينيا، 10/4/1963
90.فلسطينيا، 6 مارس 1956
91.فلسطينيا، 6 مارس 1960
92.فلسطينيا، 11 نوفمبر 1960
93.مركز المعلومات الوطني الفلسطيني.
94.الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني /تشرين الثاني 2001
95.كتاب فلسطين الإحصائي السنوي رقم (2)
96.الهيئة العامة للاستعلامات، المركز الفلسطيني للإحصاء


المؤلف في سطور
إبراهيم خليل أبراش

•ماجستير في القانون العام، علوم سياسية، من جامعة محمد الخامس بالرباط، 1981
•دكتوراه في القانون العام من نفس الجامعة 1985
•استاذ التعليم العالي (أستاذ دكتور) 1996
•ممارسة التدريس في الجامعات المغربية منذ أكتوبر 1978
•لالتحاق بجامعة الأزهر بغزة منذ أكتوبر 2000
•المشاركة في العديد من الندوات العلمية داخل المغرب وخارجه.
•عضو الجمعية المغربية للعلوم السياسية.
•عضو منتدى الحكمة للمفكرين والباحثين –المغرب-
•عضو اللجنة الاستشارية لبرنامج التنمية في جامعة بيرزيت.

الكتب المنشورة في دور نشر عربية وفلسطينية وموزعة في المكتبات العربية:
1.البعد القومي للقضية الفلسطينية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1987
2.المؤسسات والوقائع الاجتماعية: نظرة تاريخية عالمية، مؤسسة الطباعة والتوزيع للشمال، الرباط، 1994
3.البحث الاجتماعي: قضاياه، مناهجه، إجراءاته، منشورات كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بمراكش، جامعة القاضي عياض، 1994
4.تاريخ المؤسسات والوقائع الاجتماعية، شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط، 1998
5.علم الاجتماع السياسي، منشورات دار الشروق، عمان، 1998
6.الحركة القومية في مئة عام (عمل جماعي)، منشورات دار الشروق، عمان، 1998
7.المنهج العلمي وتطبيقاته في العلوم الاجتماعية، شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط، 1999
8.تاريخ الفكر السياسي، شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط، 1999
9.العرب والنظام الدولي الجديد (عمل جماعي)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2000
10.الديمقراطية بين عالمية الفكرة وخصوصية التطبيق، منشورات الزمن، الرباط، 2001
11.الجهاد: شرعية المبدأ والتباس الممارسة، منشورات ألوان مغربية، مكناس، المملكة المغربية، 2003
12.فلسطين في عالم متغير: فلسطين تاريخ مغاير، المؤسسة الفلسطينية للإرشاد القومي، رام الله، 2003
13.القضية الفلسطينية والشرعية الدولية (دراسة نقدية)، المركز القومي للدراسات والتوثيق، غزة، 2004
14.النظرية السياسية بين التجريد والممارسة، دار المنارة، 2004
15.علم الاجتماع السياسي، ط2، دار المنارة، غزة، 2005



قائمة ببعض البحوث المنشورة في مجلات محكمة ومتخصصة:
1.الفلسطينيون والوحدة العربية: منذ قيام الحركة القومية العربية حتى نكبة 1948، مجلة المستقبل العربي، العدد 64، السنة 1984، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.
2.الفلسطينيون والوحدة العربية: منذ نكبة 1948 حتى اليوم، مجلة المستقبل العربي، العدد 65، السنة، 1984 مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.
3.بين اليهودية والصهيونية، مجلة الوحدة، عدد 15، ديسمبر 1985، المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط.
4.الثورة الفلسطينية بين استقلالية القرار ومسألة التداخل القومي، مجلة شؤون فلسطينية، العدد 158/ 159، سنة 1986، مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية، قبرص.
5.الحركة القومية العربية واستقلالية العمل الفلسطينية، مجلة شؤون فلسطينية، العدد 164/ 165، سنة 1986، مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية، قبرص.
6.بين اليهودية والصهيونية، مجلة العلوم الاجتماعية، جامعة الكويت، صيف 1988
7.القطرية الفلسطينية: لماذا وإلى أين؟ مجلة الوحدة، عدد 49، أكتوبر 1988، المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط.
8.مفهوم الدولة الفلسطينية في الفكر السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، مجلة الوحدة، عدد 53، فبراير 1989، المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط.
9.الدولية الفلسطينية بين قومية القضية وخصوصية المرحلة، مجلة الوحدة، عدد 58/ 59، يوليو/ أغسطس 1989، المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط.
10.نظرات في القضية العربية (قراءة نقدية تحليلية)، مجلة العلوم الاجتماعية، جامعة الكويت، خريف 1989
11.حقوق الإنسان ومفهوم حقوق الشعب الفلسطيني، مجلة الوحدة، عدد 63/ 64، ديسمبر/ يناير 90/ 1989، المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط.
12.العنف السياسي بين الإرهاب والعنف المشروع، مجلة الوحدة، عدد 67، أبريل 1990، المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط.
13.حرب الخليج وتأثيراتها المستقبلية في القومية والمصير العربي، مجلة شؤون فلسطينية، العدد 219/ 220، سنة 1991، مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية، قبرص.
14.البعد القومي المغدور للقضية الفلسطينية، مجلة الوحدة، عدد 106، يونيو 1994، المجلس القومي للثقافة العربية، الرباط.
15.حدود استحضار المقدس في الأمور الدنيوية: ملاحظات منهاجية، مجلة المستقبل العربي عدد 180، السنة 1994، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.
16.حدود النظام وأزمة الشرعية في النظام الدولي الجديد، مجلة المستقبل العربي، العدد 185، السنة 1994 مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.
17.حقوق الشعب الفلسطيني من الشرعية التاريخية إلى الشرعية التفاوضية، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 42، ربيع 2000، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت.
18.الديمقراطية بين عالمية الفكرة وخصوصية التطبيق، مجلة كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، العدد 15، السنة 2000، جامعة القاضي عياض، مراكش.
19.لماذا لم يتم تفعيل قرارات الشرعية الدولية حول القضية الفلسطينية؟: الشرعية الدولية ورهانات القوة، المجلة المغربية للقانون والسياسة والاقتصاد، العدد 33/ 34 السنة 2000، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالرباط.
20.البعد الديني للقضية الفلسطينية، مجلة رؤية، الهيئة العامة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق